الأصولية في الديانات الثلاث: ما بين المنطق الروحي والمنطق العقلاني… 2/5
يكتشف الناس اليوم في كل أرجاء العالم، أن أحوال الحياة وتغيرها الهائل لم يعد يسمح لأشكال العقيدة القديمة بتلبية احتياجاتهم، ومن ثم صاروا يبحثون عن أساليب جديدة للتدين، لدخول العالم الجديد الذي خلقوه بأنفسهم… إحدى هذه التجارب الحديثة، وإن بدت كالمفارقة، هي هذا الشكل الجديد من العقيدة الذي ظهر أواخر القرن التاسع عشر ويسمى بـ”الأصولية”.
بعدما تابعنا في الجزء الأول بعضا من ملامح نزعة الكفاح الدينية التي أخذت تبرز بعد القرن التاسع عشر، وشاع تسميتها بـ”الأصولية”؛ في هذا الجزء، الثاني، دائما بناء على كتاب الباحثة البريطانية في علم الأديان المقارن، كارين أرمسترونغ، “معارك في سبيل الإله”، سنعرض شذرات عامة عن البذور التي أدت إلى ظهور “الأصولية”.
ما أشبه اليوم بالبارحة!
كانت لعملية “التحديث” آلامها منذ القديم؛ ففي كل زمان، يشعر الناس بالاغتراب والضياع عندما يتعرض المجتمع الذي يعيشون فيه لتحولات أساسية تجعل العالم، بالنسبة لهم، يبدو غريبا.
بين عامي 700 و200 قبل الميلاد، شهد العالم القديم فترة انتقالية سماها المؤرخون “العصر المحوري”؛ ذلك أنه مثل محور التطور الروحي للبشرية. هذا العصر كان ثمرة ازدهار استمر آلاف السنين قبله، اقتصاديا، اجتماعيا وثقافيا، وقد بدأ في سومر (العراق) ومصر القديمة.
قبل ذلك بألفي أو 3 آلاف عام، لم يكتف الناس بزراعة المحاصيل التي تلبي احتياجاتهم وحسب، بل أنتجوا فائضا زراعيا سمح لهم بالاتجار والحصول على دخل إضافي، ألهمهم لبناء الحضارات الأولى، التي تلتها المدن والمدن-الدول والإمبراطوريات.
التغيير الاقتصادي الذي عاشه العالم في القرون الأربعة الأخيرة، صاحبته أيضا ثورات اجتماعية وسياسية وفكرية، أدت إلى نشوء مفهوم علمي وعقلاني ومختلف لطبيعة “الحقيقة”… هكذا، بدا أنه من الضروري، من جديد، إجراء تغيير ديني جذري.
بالنظر إلى المجتمع الزراعي هذا، سنرى أن السلطة حينها لم تعد مقتصرة على الملك أو الكاهن، إنما أخذت تتحول إلى السوق… في هذه الظروف، بدأ الناس يدركون أن الوثنية القديمة، التي لبت احتياجات أسلافهم، لم تعد تعبر عن أحوالهم.
اقرأ أيضا: هل ستنهار الأخلاق من دون الإيمان والدين؟ 2/1
هكذا، صار الوجود مع العصر المحوري، أفسح؛ فبدت الديانات المحلية القديمة محدودة. وبعدما كان الناس يرون الألوهية مجسدة في أرباب مختلفة، ازداد اتجاههم إلى عبادة مصدر واحد عالمي شامل للتعالي والقداسة.
تلك الفترة الانتقالية، وفق أرمسترونغ، نشهد اليوم فترة مشابهة لها، تضرب بجذورها إلى القرنين 16 و17 للميلاد… منذ ذاك، بدأ الناس في أوروبا الغربية ينشؤون نمطا جديدا للمجتمع، لا يعتمد على الفائض الزراعي، بل على التكنولوجيا التي تمكنهم من تجديد مواردهم بلا حد.
هذا التغيير الاقتصادي الذي عاشه العالم في القرون الأربعة الأخيرة، صاحبته أيضا ثورات اجتماعية وسياسية وفكرية، أدت إلى نشوء مفهوم علمي وعقلاني ومختلف لطبيعة “الحقيقة”… هكذا، بدا أنه من الضروري، من جديد، إجراء تغيير ديني جذري.
الناس اليوم يكتشفون في كل أرجاء العالم، أن أحوال الحياة وتغيرها الهائل لم يعد يسمح لأشكال العقيدة القديمة بتلبية احتياجاتهم؛ أي أنها لم تعد قادرة على تزويد البشر بما يحتاجون إليه من تنوير ومن تسرية وسلوى.
اقرأ أيضا: هل لا زلنا في حاجة لرجال الدين والفقهاء والمرشدين والواعظين؟
من هنا، صاروا يبحثون عن أساليب جديدة للتدين، وفق أرمسترونغ، لدخول العالم الجديد الذي خلقوه بأنفسهم. إحدى هذه التجارب الحديثة، وإن بدت كالمفارقة، هي هذا الشكل الجديد من العقيدة الذي ظهر أواخر القرن التاسع عشر ويسمى بـ”الأصولية”.
بين المنطق الروحي والمنطق العقلاني
إذا كنا نميل إلى الافتراض بأن الناس في الماضي كانوا مثلنا، إلى حد ما، فإن حياتهم الروحية كانت مختلفة بعض الشيء. لقد وضعوا طريقتين للتفكير والكلام واكتساب المعرفة، تعرفان بـ”الميثوس” و”اللوغوس”؛ أي المنطق الروحي ومنطق العقل.
كان هذان المنطقان يعتبران متكاملين للوصول إلى الحقيقة وإن كان لكل منهما مجال اختصاصه. المنطق الروحي اعتبر أوليا، وكان يعتد بأصول الحياة وأسس الثقافة وأعماق عقل الإنسان؛ هو بعبارة أخرى لا يهتم بالأمور العملية، إنما بالمعنى.
هكذا، إذا لم يجد الناس دلالة أو مغزى لحياتهم، كان المنطق الروحي يهيئ للمجتمع السياق لإضفاء معنى ما على حياة أفراده اليومية.
اقرأ أيضا: الأخلاقيات الدينية، أم الأخلاقيات الإنسانية العقلانية؟ 2/2
على خلاف المنطق الروحي، الذي يلقي بالبصر إلى الخلف ويرجع إلى الأصول والأسس، ينطلق المنطق العقلاني إلى الأمام ويحاول العثور على الجديد، بتطوير القديم وزيادة السيطرة على البيئة، واكتشاف أشياء جديدة، واختراع أشياء مبتكرة.
فيما بعد، أصبح المنطق الروحي واقعا عندما تجسد في العقيدة والطقوس والمراسيم الاحتفالية، وكان العابدون يتأثرون بها تأثرا جماليا، تضفي عليهم دلالة مقدسة تمكنهم من إدراك الوجود.
وبينما، في الغرب أساسا، استعيض عن المنطق الروحي بوضع علم التحليل النفسي لاحقا، كانت للمنطق العقلاني أهميته المماثلة ولا زالت؛ أي التفكير العقلاني والبراغماتي والعلمي الذي يمكن الناس من النهوض بالعمل على خير وجه في الدنيا.
فعلى خلاف المنطق الروحي، الذي يلقي بالبصر إلى الخلف ويرجع إلى الأصول والأسس، ينطلق المنطق العقلاني إلى الأمام ويحاول العثور على الجديد، بتطوير القديم وزيادة السيطرة على البيئة، واكتشاف أشياء جديدة، واختراع أشياء مبتكرة.
لكن، للمنطق العقلاني، وفق أرمسترونغ، حدود هو الآخر؛ فهو يعجز عن تخفيف آلام البشر. كما أن الحجج العقلانية تعجز عن إيجاد إجابة للأسئلة الخاصة بالقيمة النهائية لحياة الإنسان.
اقرأ أيضا: الحرب… لعنة البشرية؟ 3/1
ومع ذلك، نجد أن البعض ذهب أبعد بكثير، فما إن حل القرن الثامن عشر، وتحققت نجاحات علمية وتكنولوجية باهرة، حتى ظنوا أن المنطق العقلاني هو السبيل الأوحد إلى الحقيقة، وراحوا يرمون منطق الروح وراءهم باعتبارهم له مصدر أكاذيب وخرافات.
صحيح أن عدد الذين يعتبرون أن الحقيقة مقصورة على العقلانية العلمية في تزايد مطرد، لكن من حاولوا تحويل منطق الروح من مجال العقيدة إلى مجال المنطق العقلاني، كالأصوليين مثلا، أنتجوا، بناءً على هذا الخلط، مشكلات كثيرة يعاني منها عالمنا اليوم.
في الجزء الثالث نتابع كيف تطورت الأصولية في اليهودية.
لقراءة الجزء الأول: “الأصولية” في الديانات الثلاث: مدخل (الجزء الأول)
لقراءة الجزء الثالث: “الأصولية” في اليهودية: بين لعنة المنفى وغواية الأرض (الجزء الثالث)
لقراءة الجزء الرابع: “الأصولية” في المسيحية: حين تنتصب الديمقراطية عائقا! (الجزء الرابع)
لقراءة الجزء الخامس: “الأصولية” في الإسلام: هل فاجأ الغرب المجتمعات الإسلامية بالحداثة وأخطأ تقديره للوقت الذي تحتاجه؟ (الجزء الخامس والأخير)