عالم ما بعد أمريكا: صراع القيم والمصالح
ربما تبدو الصورة قاتمة أو متشائمة، لكن المستقبل القريب سيسفر عن عالم مختلف دشَّنه “ترامب” بالانسحاب من الاتفاقيات الدولية (اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي مع إيران) وإعلان حالة الطوارئ على الحدود مع المكسيك، تجميد المساعدات الدولية ورفع قيمة الضرائب الجمركية واعتبار حرب إسرائيل وفلسطين شأنا خارجا عن اهتمامات السياسة الخارجية الأمريكية والاستمرار في مساطر معاقبة محكمة العدل الدولية.

لطالما شكلت أمريكا في المخيال الجمعي، لدى أغلب الشعوب، تلك الدولة المتحررة التي تقود العالم اقتصاديا وسياسيا، بلد الاستهلاك، الجينز، الروك، البوب، التطور التكنولوجي ولاس فيكاس التي لا تنام…. ولايات متحدة تتكافؤ فيها الفرص الاجتماعية ويتفرج العالم كل أربع سنوات على العرس الديمقراطي لانتخاب الرئيس، حتى أضحت أمريكا مرادفة للحلم American dream.
كل عام، يحلم الملايين من كل العالم بأن يتم اختيارهم في القرعة العشوائية للهجرة إلى بلاد العم سام. يصطف اليساري والشيوعي والإسلامي، في طوابير أمام القنصليات لاجتياز اختبارات القبول، وكل أملهم الظفر ببطاقة الإقامة الدائمة. أمر غريب يدعو للتفكير العميق: كيف تكون أمريكا هي الحلم وهي الشيطان في نظر اليسار والإسلاميين!؟
هي الحلم لأنها البلد الديمقراطي الذي يتساوى فيه الجميع أمام القانون، لأنها البلد الذي يشبه ممالك ألف ليلة وليلة، يمكنك أن تقفز كـ”علاء الدين” من الفقر إلى الغنى والشهرة إذا عرفت كيف تستغل الفرص.
وهي الشيطان في نظرهم لسياساتها الخارجية التي لا تأبه إلا بمصالحها الاستراتيجية.
لكن، بين هذا الإفراط والتفريط في الحكم، تبقى أمريكا رائدة العالم الحر، حامية الديمقراطيات وراعية المنظمات الدولية التي تسعى لإشاعة ثقافة حقوق الإنسان. وسيدرك العالم كله أهمية أمريكا في العلاقات الدولية بعد انتخاب “ترامب”.
المنتبه لخطاب “بايدن” الذي أنهى به ولايته الرئاسية يتأكد أن العالم قد أخذ الطريق السريع نحو الانكماش السياسي وفرض الحمائية وانتعاش النظرية الواقعية في العلاقات الدولية التي ستُّرَتِّب قواعد اللعبة بناء على مصالح الدول وستُضعف إن لم تُلْغِ تدريجيا دور المنظمات العالمية العاملة في مجال الحقوق والعدالة الدولية. عالم جديد بدأت تتشكل ملامحه المرعبة سينحو أكثر نحو المنافسة المحتدمة على الأسواق وتملك الإمكانات التكنولوجية، والتسابق نحو التسلح ولو على حساب الإنسان والمناخ.
سياسة ترامب المعلنة أخافت الحلفاء قبل الأعداء، ليعلن وزيرا خارجية فرنسا وألمانيا عن ضرورة العمل على استقلال أروبا عن الحماية الأمريكية وتعزيز الوجود السياسي للقارة العجوز.
لكن لماذا هذا الارتكاس والنكوص الحقوقي العالمي؟ لماذا هذه الردة عن القيم الإنسانية؟ لماذا التخلي عن فكرة الحكومة العالمية الواحدة والمصير الإنساني المشترك؟؟ لماذا ابتعث العالم أرشيف صراع الحضارات وحرب الكل ضد الكل؟
كل هذه الأسئلة لن توقف المد الجارف الذي سيعصف بالعلاقات الدولية، ليضمن البقاء للأقوى، أمام رقعة الشطرنج التي بدأ فيها التنافس. سيكون الجنود أو دول العالم الثالث المتخلفة هم أول الضحايا، باتساع الفوارق الاقتصادية، والمعاناة من آثار الاحتباس الحراري، والتراجع الحقوقي. عهد من الفوضى ستدخله تلك الدول بعد تخلي أمريكا عن القيام بواجبها الدولي، سيتَّسِم بصعود التيارات الرديكالية الاسلامية واليسارية التي قد تقوم بانقلابات مسلحة أو ستُخضع الحكومات لآرائها السياسية والدينية، وتتجه نحو مزيد من الانغلاق والتخلف عن عالم أول يتنافس للسيطرة على الموارد الطبيعية واحتكار الذكاء الصناعي… لينتهي بها المطاف محتلَّةً عسكريا بعد الافلاس السياسي والاقتصادي، فالدول المتنافسة لا يهمها من يحكم في العالم الثالث بقدر ما يهمها استمرار مصالحها وتوسيع نفوذها وسهولة الوصول للموارد الطبيعية… وردود فعلها المتواصلة على متطرفي الأمس، حكام سوريا الجدد، دليل واضح على مراعاة المصالح السياسية فقط.
ربما تبدو الصورة قاتمة أو متشائمة، لكن المستقبل القريب سيسفر عن عالم مختلف دشَّنه “ترامب” بالانسحاب من الاتفاقيات الدولية (اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي مع إيران) وإعلان حالة الطوارئ على الحدود مع المكسيك، تجميد المساعدات الدولية ورفع قيمة الضرائب الجمركية واعتبار حرب إسرائيل وفلسطين شأنا خارجا عن اهتمامات السياسة الخارجية الأمريكية والاستمرار في مساطر معاقبة محكمة العدل الدولية.
تتعدد الأسباب التي أفضت لهذا المشهد السريالي العالمي وأدت لصعود الحركات السياسية البرغماتية، كالتهديد الذي تشكله الصين وروسيا على المصالح الغربية… لكن، تبقى مساهمة التيارات الراديكالية الإسلامية واليسارية من بين أبرز الأسباب التي جعلت العالم الغربي يوصد أبوابه ليحمي قيمه السياسية والاجتماعية، فـ:
– فشل اندماج الأجيال المهاجرة في المنظومة الغربية.
– تبني الفكر السلفي-الجهادي وشيوع مظاهر الاستقطاب الديني.
– التنعم بمنتجات المجتمعات الغربية الديمقراطية والمادية والكفر بالقيم المؤسِسة لها.
– تكرار العمليات الإرهابية…
كلها أمور أدت لردود أفعال معاكسة شكلت ملامح عالمنا اليوم. وما على المنتقدين لأمريكا إلا تجرع آثار غيابها عن المشهد العالمي الذي ستصبح فيه القيم الإنسانية التي طالما تغنت بها البشرية رفاهية لا يقدر عليها إلا الأقوياء.
الحل، في ظل هذه الإكراهات المصيرية، ليس وصفة جاهزة أو عصا سحرية، فالدول الضعيفة إما أن تقوم بعمليات جراحية مستعجلة وإصلاحات جذرية أو ستتتخلف عن ركب الحضارة بمسافات لا يمكن تداركها، وهُوىً يصعب رأيها، وأول هذه الإجراءات التي لا تحتمل التأخير:
– إدراكها أنها أمام تهديد وجودي لا مناص أمامه لضمان بقائها إلا اعتبار القيم العالمية في السياسة والاجتماع قيما كونية وليست فلكلورا غربيا، وعليها الاجتهاد لتبني تلك القيم لأنها هي من بوأت العالم المتقدم مكانته.
– إدراكها أن حركات الإسلام السياسي الذي لا يكتفي بجعل الدين مسألة شخصية ويسعى لفرضه بالقوة هو أكبر تهديد للدول واستقرارها وأن مهادنته المؤقتة ما هي إلا تقية وفقه استضعاف حتى يتمكن من السطو على الحكم. وعليها عدم الاستحياء من مواجهته فكريا وسياسيا وأمنيا للتخلص من عباءته العتيقة التي ينشرها على المجتمع.
– محاربة الفساد السياسي والريع الاقتصادي لأن أول المتضررين من نتائجهم الاجتماعية سيكون هو الحكومات الهجينة القائمة، فالإسلاميون واليسار الراديكالي والعسكر.. سينتهزون انشغال العالم لاستغلال الفوضى والفقر للوصول الى مبتغاهم وإسقاط الأنظمة الحاكمة.
– الاهتمام بالتعليم والنأي به عن الأدلجة والخوصصة وجعله مشاعا بين طبقات الشعب، لأن تطور أي مجتمع يقاس بتطور النظام التعليمي وكَمِّ الكفاءات التي يخَرجها.
إن أي تأخر عن تشخيص الأزمة السياسية الدولية الراهنة وأي جدل بيزنطي حول التراث والعولمة والهوية سيكون مجرد تكرار واجترار لن يستفيق المتجادلون فيه حتى يغرقوا مع الغارقين في لجة التاريخ، لأن الأمل كل الأمل يبقى معقوداً على إدراك الشعوب والنخب السياسية أن الإصلاح الداخلي وبناء دولة قوية هو السبيل الوحيد لضمان البقاء والمساهمة في تشكيل عالم أكثر عدلاً وإنصافاً.