من اليمن، حسين الوادعي يكتب: في تهافت دعوى “احترام المعتقدات”
بين فترة وأخرى، تصعد دعوة جديدة أغضبها جو حرية التعبير الذي أتاحته ثورة المعلومات. ولأن الطرق القديمة لقمع الأفكار لم تعد مجدية بعد سقوط أنيابها ومخالبها، يتم اختراع أساليب جديدة …
بين فترة وأخرى، تصعد دعوة جديدة أغضبها جو حرية التعبير الذي أتاحته ثورة المعلومات. ولأن الطرق القديمة لقمع الأفكار لم تعد مجدية بعد سقوط أنيابها ومخالبها، يتم اختراع أساليب جديدة آخرها دعوى “إحترم معتقداتي ولا تنتقدها لأنك بنقدها تجرحني وتعتدي على هويتي وحياتي الروحية”.
لنضع هذه الدعوى في ميزان التفكير النقدي.
لنفترض جدلا أننا يجب أن نحترم معتقدات الآخرين وأن لا ننتقدها… إذا أخذنا في الحسبان أن لدينا آلاف الآراء والمعتقدات المختلفة والمتعارضة، فإن تطبيق مبدأ احترام المعتقدات يعني وقوع العالم والمجتمعات في حالة صمت دائم، لأنه لا يمكنك أن تنتقد أي معتقد أو رأي من آلاف المعتقدات السائدة.
من المهم إقرار أن مبدأ احترام المعتقدات لن يكون ذا قيمة إلا إذا طبقناه على كل المعتقدات بلا استثناء، سواء كانت تلك المعتقدات منطقية أو خرافية، مسالمة أو دموية.
لست أفشى سرا أو أطرح فكرة جديدة عندما أقول إن بعض المعتقدات لا تستحق الاحترام. ولا أضيف فتحا جديدا لو قلت إن بعض المعتقدات يجب ألا نحترمها وألا نتسامح معها. على العكس من ذلك، يجب أن ننقدها ونرفضها
لنتخيل الوضع في فترة تحرير العبيد. لو صرخ مالكو العبيد قائلين: احترموا معتقداتنا ولا تنتقدوا العبودية. أو لو ظهرت الدعوى أثناء سيطرة الكنيسة على التفكير وتمت محاصرة العلم تحت حجة أن نتائج العلم لا تحترم معتقدات الكنيسة حول الأجرام السماوية وصورة الكون. أو لو سادت في العصر الذي بدأت فيه البشرية النضال من أجل أفكار الديمقراطية والعقد الاجتماعي والمساواة بين المواطنين، وتم إخمادها من قبل الأغلبية التي كانت ترى أن البشر غير متساوين ويجب أن يخضعوا لاستبداد الملك-الإله!
اقرأ لنفس الكاتب: من يمثل الإسلام؟
بعد أن رأينا خطورة هذه الدعوى على الحرية والتطور، لننتقل إلى الإشكالية الأخرى وهي: هل فعلا كل المعتقدات تستحق الإحترام؟
ليست كل الآراء والمعتقدات على حد سواء، فهناك معتقدات إنسانية ومتسامحة وعقلانية، وهناك بالمقابل معتقدات وحشية ومتعصبة وخرافية.
لست أفشى سرا أو أطرح فكرة جديدة عندما أقول إن بعض المعتقدات لا تستحق الاحترام. ولا أضيف فتحا جديدا لو قلت إن بعض المعتقدات يجب ألا نحترمها وألا نتسامح معها. على العكس من ذلك، يجب أن ننقدها ونرفضها.
في أحيان كثيرة، تؤكد نتائج البحوث استنتاجات مخالفة لمعتقداتنا. فهل نضحي بالعلم من أجل “احترام المعتقدات”؟
تخيلوا مثلا لو طبقنا هذا المبدأ على النازية، وبدأنا ندافع عن حق النازيين في احترام معتقدهم بأنهم الجنس الأرقى مقابل الأجناس الأخرى المتدنية. ماذا لو دخلت داعش تطالب باحترام معتقداتها في قطع الرقاب وسبي النساء، وهي معتقدات لها أصولها في الفقه والأحاديث والنصوص؟! ماذا لو دخل غلاة الشيعة الساحة وطالبونا بعدم نقدهم واحترام معتقداتهم في ألوهية الأئمة وتصدير الثورة وهاشمية الحكم؟
ألا تقدم دعوى احترام المعتقدات أساسا متينا وحماية دائمة لهذا النوع من الأفكار الهدامة التي لا تستحق الاحترام؟!
اقرأ لنفس الكاتب: الكذب في سبيل الله… أو ماركس حنيفا مسلما
كان قتل المختلفين في العرق والدين معتقدا مقدسا، ولم تتحرر البشرية منه إلا على يد أولئك الذين رفضوا احترام هذه المعتقدات.
وكما ترى، فلا حل لجماعة “احترم معتقداتي ولا تنتقدها” إلا الإقرار بأنه ليست كل الأفكار تستحق الاحترام. فإذا اتفقنا على هذا، سيكون المأزق التالي هو تحديد نوعية الأفكار التي تستحق الاحترام وما هي المعتقدات التي لا تستحقه.
أليس غريبا أن المعتقدات الدينية ذاتها هي في كثير من جوانبها وجواهرها نقد وازدراء لمعتقدات أخرى؟ أليست المسيحية نقدا ليهودية العهد القديم ؟ وأليس الإسلام نقدا للمسيحية في نسختها المؤلهة للمسيح ونقدا لليهودية في نسختها التلمودية؟ أليس الاعتقاد أن المسيح بشر وأنه لم يُقتل، متعارض مع احترام العقيدة المسيحية؟
لكن، لكي نجيب على هذا السؤال، لا بد أن تكون لدينا الحرية الكاملة في نقد المعتقدات ووزنها لنحدد أي منها يجب أن نحترمه. في هذه الحالة، ستكون دعوى “احترام المعتقدات” قد سقطت عمليا!
ربما يتراجع دعاة “الاحترام” خطوة الى الوراء ويقولون إنهم لا يرفضون النقد العلمي، لكنهم فقط يرفضون السخرية والتجريح. ودعونا نسايرهم قليلا ونتذكر ما حصل في التاريخ القريب والبعيد.
لقد رفضوا النقد العلمي للكتب المقدسة في عصر النهضة الأوروبية واعتبروه إساءة للمعتقدات، ولولا الرواد الذين وقفوا في صف العلم، لما تحررت أوروربا من الهيمنة الدينية ودخلت عصر التنوير. ورفض المسلمون ولا زالوا النقد العلمي الذي قدمه محمد عبده وعلي عبدالرازق ونصر حامد أبو زيد ومحمد أركون وطه حسين ومحمد عابد الجابري، واعتبروه إساءة للمعتقدات وتحطيما للمقدسات. ولا زالوا حتى اليوم يرفضون أي نقد علمي لعملية جمع القرآن أو مفاهيم الجن والسحر والملائكة، أو نقد تشريعات العبودية واللامساواة والحدود.
إن فكرة “احترم معتقداتي” لا تهدد حرية التعبير فقط، لكنها تهدد حركة البحث العلمي برمتها. إن القاعدة الأساسية للبحث العلمي هي التخلي عن تحيزاتنا الدينية والاجتماعية والمعرفية، لكي نقوم بعملية البحث ضمن الحد المطلوب من الموضوعية والحيادية والنزاهة. وفي أحيان كثيرة، تؤكد نتائج البحوث استنتاجات مخالفة لمعتقداتنا. فهل نضحي بالعلم من أجل “احترام المعتقدات”؟
اقرأ لنفس الكاتب: نظرية التطور مجددا: فِيَلة بلا أنياب… الطبيعة الأم تقاوم عبث الإنسان
بعد هذه التوضيحات، قد يتراجع حماة المعتقدات خطوة أخرى للخلف وسيقولون إن المعتقدات الوحيدة التي يجب أن لا تتعرض للنقد، هي المعتقدات الدينية. ففي المجتمعات التقليدية بالذات، يعتبر الدين هوية وثقافة، بدون سيسقط المجتمع في الفوضى.
لو فعلوا، سنكون قد وصلنا لنصف الحقيقة. لكن، أليس غريبا أن المعتقدات الدينية ذاتها هي في كثير من جوانبها وجواهرها نقد وازدراء لمعتقدات أخرى؟ أليست المسيحية نقدا ليهودية العهد القديم ؟ وأليس الإسلام نقدا للمسيحية في نسختها المؤلهة للمسيح ونقدا لليهودية في نسختها التلمودية؟ أليس الاعتقاد أن المسيح بشر وأنه لم يُقتل، متعارض مع احترام العقيدة المسيحية؟
تخيلوا مثلا لو طبقنا هذا المبدأ على النازية، وبدأنا ندافع عن حق النازيين في احترام معتقدهم بأنهم الجنس الأرقى مقابل الأجناس الأخرى المتدنية. ماذا لو دخلت داعش تطالب باحترام معتقداتها في قطع الرقاب وسبي النساء، وهي معتقدات لها أصولها في الفقه والأحاديث والنصوص؟! ماذا لو دخل غلاة الشيعة الساحة وطالبونا بعدم نقدهم واحترام معتقداتهم في ألوهية الأئمة وتصدير الثورة وهاشمية الحكم؟
ثم إن العقيدة دوغمائية وغير عقلانية بطبيعتها، بمعنى أنها لا تعترف بالاختلاف ولا يمكن إثباتها بالعقل. لهذا، فالنقد العلمي أخطر على العقيدة من السخرية. السخرية ستستفز المؤمنين بالعقيدة وتجعلهم أكثر تمسكا بها، بينما سيخلخل النقد العلمي أسس العقيدة وسيهز قدسيتها في أذهان المؤمنين.
لهذا السبب بالذات، فإن المعتقدات هي أكثر الأشياء حاجة للنقد لأنها تبنى على الإيمان الأعمى والتسليم غير العقلي.
إذا كنا حريصين على مستقبلنا وتطورنا، يجب أن نعكس الآية ونطالب بنقد المعتقدات والمعتقدات الدينية بالذات، وندافع عن هذا الحق وبكل الوسائل العلمية والفنية.
قد يجعل هذا التناقض دعاة تحصين المعتقدات ضد النقد يتراجعون خطوتين للوراء هذه المرة، ليعترفوا أن ما يقصدونه هو احترام الدين الإسلامي فقط باعتباره دين الأغلبية. وعند هذه النقطة سنكون قد وصلنا لثلاثة أرباع الحقيقة، لكن الربع المختفي كفيل بإسقاط دعوى احترام المعتقدات تماما.
اقرأ لنفس الكاتب: من أين جئنا؟ وما هو مصيرنا؟ نظرية التطور، الانفجار الكبير، الخلق…؟
فحتى داخل الإسلام، أي معتقد يجب احترامه وعدم نقده؟ هل هو احترام معتقد الحوثية في حصر السلطة والثروة في ذرية البطنين وفرض ضريبة الخمس العنصرية التي تفرق بين اليمنيين على أساس السلالة، وهي عندهم من أصول العقيدة؟ أم هي معتقدات السلفية حول عصمة الحاكم حتى ولو زنى وسكر وجلد ظهرك ونهب مالك، وهي معتقدات تصل عندهم إلى مصاف العقيدة؟ دع عنك عقائد الإسماعيلية الصوفية والاثناعشرية وغيرها.
وتأمل معي صديقي في طبيعة الجماعات والفئات التي تطلق دعوات “احترام المعتقدات” ليلا ونهارا، وستجد أنها أقل المجموعات احتراما لمعتقدات الآخرين، وأكثرها كراهية لحرية التعبير.
إن احترام المقدسات يرتبط بالممارسة لا بالنقد. أي أن تحترم حق الجميع في ممارسة معتقداتهم دون تقييد أو تهديد أو خوف.
الدولة الحديثة لا تحمي المعتقدات من النقد، لكنها تحمي حق كل الفئات في ممارسة معتقداتها دون تخويف أو إرهاب. والتشريعات المدنية لا تحمي المعتقدات من النقد بل تحمي حق الناس في نقد هذه المعتقدات. أما ما ينظمه القانون ويعاقب عليه، فهو تحول النقد والسخرية إلى تحريض أو شتم أو قذف أو خطاب كراهية. من حقك أن تؤمن بالمسيح أو بمحمد أو بالصلاة أو الحجاب، ومن حق من يختلف معك أن ينتقدك ويسخر من معتقداتك ما دام لا يمنعك بالقوة من ممارستها.
إن الذين يتحدثون عن تحصين المعتقدات من النقد، غالباً يقصدون معتقدهم هم وحدهم. ومن يتحدث عن احترام المعتقدات في الأغلب، هم أولئك الذين يشعرون بضعف معتقداتهم ويخافون أن تنهار أمام النقد العلمي والتناول الفني.
اقرأ لنفس الكاتب: لننس “الدين الصحيح” ولنتحدث عن “حرية الاعتقاد”