حسين الوادعي: جيفارا والثورة والمجتمع الجاهل
إذا أصر الإنسان “الأمي أو الجاهل” أنك خطر عليه وعلى استقراره، فهي غلطتك لأنك لم تساعده على فهم الواقع ومعرفة الأسباب الحقيقية لفقره وجهله ومرضه.
خدعوك فقالوا: “الثائر لأجل مجتمع جاهل، كشخص أضرم النيران بجسده، كي يضيء الطريق لشخص ضرير“!
عبارة شائعة جدا، تكاد تتحول إلى مأثور سياسي.
تنسب العبارة أحيانا لـ رشيد رضا مع أنها غريبة على قاموسه، وتنسب أحيانا أخرى لجيفارا مع أنها مناقضة لفكره ومسيرته الثورية.
السياق الذي اخترع لترويج هذه العبارة هو التالي:
“بعد القبض على جيفارا في مخبئه الأخير بوشاية من راعي أغنام، سأل أحدهم الراعي الفقير :
– لماذا وشيت عن رجل قضى حياته في الدفاع عنكم وعن حقوقكم؟
فأجاب : كانت حروبة مع الجنود تروع أغنامي.
نتيجة لذلك، يقول السائل، أو يقول جيفارا: “الثائر لأجل مجتمع جاهل، هو شخص أضرم النيران في جسده كي ينير الطريق لشخص ضرير!”
لِنُعد التفكير في العبارة بعقل نقدي.
في هذه العبارة والقصة الملحقة بها، يتحول المجتمع الجاهل من ضحية إلى مجرم، وهذه أبرز أساليب الديكتاوريات في مواجهة التغيير والحفاظ على الواقع المرفوض
مضمون العبارة واضح، لكن نتيجته غريبة. إذا كان الثائر لأجل مجتمع جاهل كمن يحرق جسده ليضيء لرجل أعمى، فالنتيجة المنطقية أن الثورة لا تصلح في المجتمعات الجاهلة، وأن على الثوار التوقف عن تثوير المجتمعات الجاهلة لأن النتجية عبثية.
هذا يقودنا إلى خيارين هما:
– إما أن نتوقف عن الثورة تماما ونلغيها من قائمة الوسائل الإنسانية للتغيير.
– أو أن لا نقوم بها إلا في المجتمعات الواعية!
إذا مضينا في الخيار الأول، فإننا نحكم على المجتمع المتخلف والجاهل أن يظل جاهلا إلى الأبد. ولا أحد سيكون سعيدا بهذه النتيجة أكثر من الأنظمة الديكتاتورية التي تمسك لجام “رعاياها” المقهورين بسناري الجهل والفقر.
أما الخيار الثاني، فهو متناقض ذاتيا، إذ أن أشد المجتمعات حاجة إلى الثورة هي المجتمعات الجاهلة، فمع الجهل يتواجد الفقر والمرض والتخلف.
لكن تناقضات العبارة تتجاوز هذا الجانب الجدلي إلى غموض صورة الثورة نفسها عند مروجي هذه العبارة الشائعة.
الثورة تبدو هنا نشاطا فوقيا معزولا عن المجتمع لا دخل للمجتمع فيه. أما الثوري في هذا التصور، فهو شخص منفصل عن المجتمع ومتعال عليه، لا يتحدث إليه، ولا يقنعه، ولا يغير وعيه كي يتقبل الثورة.
المجتمع الجاهل، في السردية الاستبدادية، غير جاهز بعد للتعلم أو التغيير حتى لو أراد. ويأتي الخطاب الديني ليؤكد ذلك مدعيا أن الفقر والمرض والمجاعة عقاب من الله للناس بسبب ذنوبهم ومعاصيهم.
يصبح المجتمع مسؤولا عن جهلة وفقره وليس الديكتاتور أو النخبة الفاسدة.
لكن الثورة الحقيقية لا تتم إلا من خلال الناس.
لو عدنا للقصة فإنها، إن صدقت، إدانة لجيفارا وليست إدانة لراعي الغنم. فلو قام جيفارا بتثقيف الراعي وتحاور معه وشرح له ضرورة الثورة وأهميتها في تغيير حياته وتطويرها للأفضل، لما وشى به الراعي.
لكن، لأن “جيفارا” في القصة تجاهل الراعي (وهو هنا يرمز للمجتمع الجاهل) وتعالى عليه، كانت نهايته على يده. وهذه من وجهة نظري نهاية طبيعية لأي ثائر يتعالى على المجتمع.
لكن جيفارا الحقيقي (وليس جيفارا القصة المختلقة) كان يختلط بالناس ويحاورهم ويلهمهم للإلتحاق بالثورة. مقتله التراجيدي لم يكن بسبب وشاية المجتمع، ولكن كان بسبب مثاليته المفرطة وعدم تقديره لقوة خصمه وإمكانياته.
في هذه العبارة والقصة الملحقة بها، يتحول المجتمع الجاهل من ضحية إلى مجرم، وهذه أبرز أساليب الديكتاوريات في مواجهة التغيير والحفاظ على الواقع المرفوض.
المجتمع الجاهل، في السردية الاستبدادية، غير جاهز بعد للتعلم أو التغيير حتى لو أراد. ويأتي الخطاب الديني ليؤكد ذلك مدعيا أن الفقر والمرض والمجاعة عقاب من الله للناس بسبب ذنوبهم ومعاصيهم.
يصبح المجتمع مسؤولا عن جهلة وفقره وليس الديكتاتور أو النخبة الفاسدة.
جيفارا الحقيقي (وليس جيفارا القصة المختلقة) كان يختلط بالناس ويحاورهم ويلهمهم للإلتحاق بالثورة. مقتله التراجيدي لم يكن بسبب وشاية المجتمع، ولكن كان بسبب مثاليته المفرطة وعدم تقديرة لقوة خصمه وإمكانياته
لكن مفهوم “الجهل” في هذه العبارة مراوغ. فما المقصود بالجهل؟
إذا كان المقصود بالجهل (القراءة والكتابة)، فهذا مرادف للأمية وليس للجهل. وشتان ما بين مفهومي الأمية والجهل. فالرجل الأمي قد يكون رجلا واعيا ومثقفا (بالمعنى الغرامشي لكلمة مثقف) ويملك وعيا اجتماعيا وسياسيا متقدما. والمطلوب في المجتمع الجاهل ليس تعليم الأمي القراءة، لكن توعيته وشرح أهمية مشاركته في الثورة أو على الاقل عدم الوقوف ضدها.
إذا أصر الإنسان “الأمي أو الجاهل” أنك خطر عليه وعلى استقراره، فهي غلطتك لأنك لم تساعده على فهم الواقع ومعرفة الأسباب الحقيقية لفقره وجهله ومرضه.
في غمرة الوعي الزائف الذي يسيطر عليه، سيعتبرك عدوه وسيعتبر الديكتاتور صديقه ومنقذه.
في عالم ثورة وسائل الاتصال والإعلام الاجتماعي أجزم وأقول إنه لم يعد هناك إنسان “جاهل”. حتى الأمي يتابع أخبار العالم وقضاياه ويحللها ويحاول فهمها وتقدير تأثيرها على حياته. صار أمام الثائر منصات حرة ومجانية ومتعددة لمخاطبة المواطن وحشده وكسبه. لم تعد المشكلة هي “الجهل” وإنما “الوعي الزائف“.
الثورة ليست فقط ذلك الفعل العنيف على ظهر الدبابات لإسقاط نظام الحكم. صار العالم اليوم يتحدث عن ثورات التغيير الديمقراطي وثورات الإتصالات والمواصلات وثورات العلوم والمعرفة والانتاج. صار العالم يفجر ثورات في الفكر والعلاقات الاجتماعية والدين والمجتمع، وهذه هي الثورات التي أدافع عنها.
الفرق بينهما أن الجهل حالة سلبية (خواء في العقل) وغياب للمفاهيم والمهارات التي من خلالها يمكن فهم العالم. أما الوعي الزائف، فهو أفكار وقناعات خاطئة تقود المواطن في الطريق الخاطئ وتكرس تخلفه وفقره وقهره.
من نماذج الوعي الزائف، هذه العبارة التي ترى أن الثورة في المجتمع الجاهل عبث؛ فهي تقود المواطن والثائر معا في طريق خاطئ يقود إلى شرعنة الاستبداد وتأبيد المستبد، وتصوير الوضع القائم على أنه قدر لا فكاك منه.
لدينا صيغة يمنية لنفس العبارة يقال إنها جاءت على لسان الثائر الثلايا : “لعن الله شعباً أردت له الحياة فأراد لي الموت”. ويقال إنه قالها في ساحة الإعدام عندما كان الجمهور يهتف داعيا السجان أن ينفذ حكم الإعدام فيه. ومع أني أشك في هذه العبارة وأعتبرها أسطورة من أساطير السياسة اليمنية الحديثة، إلا أنها، لو صحت، فإن الخطأ لم يكن في الشعب بل في الثائر.
أريد أن أختم هذا المقال بتوضيح حول مفهومي للثورة.
الثورة ليست فقط ذلك الفعل العنيف على ظهر الدبابات لإسقاط نظام الحكم. صار العالم اليوم يتحدث عن ثورات التغيير الديمقراطي وثورات الإتصالات والمواصلات وثورات العلوم والمعرفة والانتاج. صار العالم يفجر ثورات في الفكر والعلاقات الاجتماعية والدين والمجتمع، وهذه هي الثورات التي أدافع عنها.