محطات من تاريخ الفكر السياسي في بلاد الإسلام: قريش، من السلطة الرمزية إلى سلطة المال
بفضل هذا الإنجاز، خرجت قريش بتجارة عظيمة إلى الشام ومعهم هاشم يوفي العرب إيلافهم؛ بل إن هاشما ذهب أبعد من ذلك فأشرك في تجارته في البداية رؤساء القبائل من العرب وجعل لهم ربحا، كل حسب مساهمته، ثم وسع المشاركة لتشمل كل من أراد سواء أكان غنيا أم صعلوكا أو متوسط حال. وقد كانت لهاشم رحلتان في السنة: رحلة في فصل الشتاء نحو اليمن والحبشة، وأخرى في الصيف نحو الشام.
إذا كانت السقاية والرفادة والحجابة قد أكسبت قصيا مشروعية دينية، فإن دار الندوة التي أحدثها منحته مشروعية سياسية.
هذا يعني أن نباهة قصي جعلته يحول مكة إلى ما اعتبره المستشرق البلجيكي هنري لامانس “جمهورية حقيقية في قلب الصحراء”. وهو يقصد طبعا المعنى الأولي والأصلي لمفهوم الجمهورية، الذي كان يعني في العصور القديمة نوعا من الحكم ليس فيه رئيس ولا ملك، وإنما فقط مسير للنقاشات، يلخص وجهات نظر أعضاء المجلس ويعلن عن القرارات النهائية.
بذلك، فإن قصيا، وإن لم ترق به الوظائف التي اضطلع بها إلى درجة الرئاسة أو الملك، كان يرأس مجالس دار الندوة التي كانت دار مشورة في أمور السلم الحرب، ودار حكومة في آن واحد يديرها الملأ الذين يمثلون زعماء الأسر ورؤساء الأحياء، وأصحاب الرأي والمشورة للبث في ما يعرض عليهم من مشكلات.
لما كانت سن الأربعين في نظر العرب هي سن النضج والكمال، فقد أخذوا بمبدأ تحديده باعتباره الحد الأصغر لسن من يسمح له بالاشتراك في الاجتماعات وإبداء الرأي. لذلك، لم يدخل دار الندوة إلا ابن الأربعين أو ما زاد، ما عدا أبي جهل الذي دخلها وهو ابن الثلاثين لجودة رأيه ورجاحة عقله.
لم تكن دار الندوة إذن مجلس حكومة ولا برلمانا، وإنما كانت دار شورى تراعى في قراراتها المروءة والحِلم. لذلك، لم تكن تلك القرارات ملزمة، وإنما الهدف منها التوافق تجنبا للانشقاق والضعف.
حتى يُؤَمّن هاشم الطريق لقوافله، أبرم عقود أمان مع مختلف الأحياء والقبائل التي توجد على مقربة من الطرق التجارية، تقدم لهم قريش بموجبها ما يرضيهم من بضائع وهدايا تؤلف بينهم وبين قريش. هكذا، كان أعظم ما جاء به هاشم هو “الإيلاف”، ويعني تأليف قلوب سادات القبائل لصدهم عن التحرش بأهل مكة والتعرض لقوافلهم
في النهاية، يعود أمر كل أسرة أو حي من مكة إلى رؤسائه، هم أهل الحل والعقد والتأديب. مع ذلك، فإن المشروعية الدينية والسياسية التي اكتسبها قصي جعلت أمره في قومه من قريش في حياته وبعد موته كالدين المتبع، لا يعمل بغيره تيمنا بأمره واعترافا بفضله وشرفه.
توفي قصي سنة 480، عن عمر يناهز الثمانين سنة، مخلفا بنتا (هند) وأربعة أولاد هم عبد العزى، وعبد مناف وعبد الدار وعبد قصي.
كان قصي، قبل وفاته، قد أسند لابنه عبد الدار كل وظائفه؛ أي دار الندوة والحجابة واللواء والسقاية والرفادة، وحرم ابنه عبد مناف من كل شيء؛ لأن الأول كان ضعيفا بينما كان عبد مناف غنيا ساد قومه في حياة أبيه وكثر ماله. هكذا، اشتهر الأول بالوجاهة الدينية أو بالمكانة الاجتماعية، بينما اشتهر الثاني بالثراء والغنى.
تأثر هاشم بن عبد مناف وأبناؤه بقسمة جدهم قصي الضيزى، فاتفقوا على انتزاع حقهم في الوجاهة الرمزية من بني عمومتهم آل عبد الدار. هكذا، كون بنو عبد مناف حلفا ناصره بنو أسد، وبنو زهرة وبنو تميم والحارث بن فهر، بينما انضم إلى حلف بني عبد الدار بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي وبنو عامر بن لؤي ومحارب. انتهى الأمر، بعد مفاوضات شاقة، إلى تنازل بني عبد الدار لبني هاشم عن السقاية والرفادة. هكذا، أمكن لهاشم أن يسير على نهج جده في دعوة قومه إلى إكرام الحجاج وتقديم المعونة لهم لأنهم يأتون لتعظيم بيت الله، وكان يعطي المثل في السخاء بإنفاق مبالغ كبيرة في ذلك.
آل عبد مناف
هاشم هو أكبر أبناء عبد مناف، واسمه عمرو، وإنما قيل له هاشم لأنه، بينما كانت مكة تمر بفترة مجاعة، ذبح ناقة وصنع ثريدا فهشَّمه، وأطعم قومه، فلقب من حينها بهاشم. وقد سار هاشم على نهج أبيه عبد مناف، إذ كانت له تجارة مع الشام جمع منها ثروة كبيرة. يذهب الأخباريون إلى أن هاشما هو أول من سن رحلة الشتاء والصيف، وأنه صاحب إيلاف قريش. وبما أن مكة واد غير ذي زرع، فقد اعتمد اقتصادها أساسا على التجارة حيث كان العجم يقدمون إليها بسلعهم فيشتريها المكيون ثم يتبايعونها ويبيعونها لمن حولهم من العرب، إلى أن رحل هاشم إلى الشام فقابل القيصر وحصل منه على كتاب أمان يمكنه بموجبه بيع سلعه بأسواق الروم.
لما كانت سن الأربعين في نظر العرب هي سن النضج والكمال، فقد أخذوا بمبدأ تحديده باعتباره الحد الأصغر لسن من يسمح له بالاشتراك في الاجتماعات وإبداء الرأي. لذلك، لم يدخل دار الندوة إلا ابن الأربعين أو ما زاد، ما عدا أبي جهل الذي دخلها وهو ابن الثلاثين لجودة رأيه ورجاحة عقله
حتى يُؤَمّن هاشم الطريق لقوافله، أبرم عقود أمان مع مختلف الأحياء والقبائل التي توجد على مقربة من الطرق التجارية، تقدم لهم قريش بموجبها ما يرضيهم من بضائع وهدايا تؤلف بينهم وبين قريش. هكذا، كان أعظم ما جاء به هاشم هو “الإيلاف”، ويعني تأليف قلوب سادات القبائل لصدهم عن التحرش بأهل مكة والتعرض لقوافلهم.
بفضل هذا الإنجاز، خرجت قريش بتجارة عظيمة إلى الشام ومعهم هاشم يوفي العرب إيلافهم؛ بل إن هاشما ذهب أبعد من ذلك فأشرك في تجارته في البداية رؤساء القبائل من العرب وجعل لهم ربحا، كل حسب مساهمته، ثم وسع المشاركة لتشمل كل من أراد سواء أكان غنيا أم صعلوكا أو متوسط حال. وقد كانت لهاشم رحلتان في السنة: رحلة في فصل الشتاء نحو اليمن والحبشة، وأخرى في الصيف نحو الشام.
اقتدى بهاشم إخوانه المطلب، وعبد شمس ونوفل، فوسعوا مساحة العقود والمواثيق التجارية لتشمل الروم والحبشة واليمن والعراق وفارس. هكذا، احتكر أبناء عبد مناف التجارة وصاروا من أعظم تجار مكة وخصوا كل بيت من بيوتهم الكبيرة بالاتجار مع مكان من الأمكنة، فتحولت مكة إلى ملتقى للطرق التجارية وأصبحت قوة مركزية دينية واقتصادية وسياسية.
لكن تحاسدا ما فتئ أن شب بين التوأمين الثريين هاشم وعبد شمس، وانتقل إلى أبنائهما. فلقد حسد أمية بن عبد شمس عمه هاشما فتحاكما إلى كاهن، فوقع الحكم على أمية بأداء إبل إلى هاشم والجلاءعن مكة لمدة عشر سنين. وقد كانت تلك أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية، ومنها انطلق الصراع التاريخي بين بني هاشم وبني أمية.
صراع تاريخي سنعود لتفاصيله في مقالاتنا المقبلة….