قراءة في التنشئة الاجتماعية لمؤلف ثلاث روايات حول المنفى عبد الحميد البجوقي (1)
في قراءة متعددة رائعة بالمضيق، من بين الحضور، أثناء المناقشة، ذكر أحدهم أنه عثر على الرواية (المشي على الريح: موت في المنفى) المعنية بالقراءة مؤخرا في عدة مناسبات، في القطار …
في قراءة متعددة رائعة بالمضيق، من بين الحضور، أثناء المناقشة، ذكر أحدهم أنه عثر على الرواية (المشي على الريح: موت في المنفى) المعنية بالقراءة مؤخرا في عدة مناسبات، في القطار ذات يوم. بقيت هذه المعلومة شريدة في ذهني، إلى أن عثرت على ما يحضنها بدفيء، حينما ذكر مترجم كتاب رولان بارث الشهير: لذة النص، منذر عياشي، مثقف جميل نذر نفسه لترجمة النصوص الرائعة. أجاب منذر المترجم عن سؤال كيف يقدم النص المترجم للذة النص؟ فلخص رأيه: “كيف أقدمه وهو الشريد المتغير؟”، ثم يذكر أن للغة هسهسة أي طنين وأثر صوتي. كما ذكر أنه يعشق اللغة مسموعة و يتمادى في حبها مكتوبة.
كتب حميد المؤلف فيما سبق وصفا لهذا البئيس الذي يتحدث وهو راض عن نفسه لكون نفسه وجدت نفسها فيما كتب راضية مرضية: من التراث أجد نفسي في ثلاثية القرآن بل وكل نفس: تارة مطمئنة وتارة لوامة وتارة أمارة بالسوء. ولأن حميد البجوقي يعلم من محيطه الاجتماعي أن كل نفس ذائقة الاطمئنان واللوم والأمر بالسوء فقد سجل على نفسه كل حالاتها الثلاث بالواضح عبر رواياته الثلاث. الشفافية شيء بهي كالزجاج البارق من ذاته. ذاك درس وتلك الجرأة عنصر قوة إنساني في الكتابة.
وحده الزجاج يجمع شفافية الهواء وعذوبة الماء وصلابة الصخر واشتعال النار. ولأن الزجاج كذلك مفردا، فهو الطاقة الدافعة للنظر والمادة المتراس حيث تصنع منه الأبواب في المتاجر الأكثر حداثة. كذلك حميد البجوقي كما عرفته عن قرب القرب.
كيف تتخيلون النفس البشرية التي تشبه الزجاج، بقدر الشفافية العارضة للاختراق البصري الطريف، بقدر الصلابة المانعة للاختراق العضلي العنيف. مذ عرفته في البداية، آثرت أن أنسبه لقبيلته البجوقية. قبيلة ذات بعدين: السي أحمد وعبد الوهاب. ظل دماغي يتابع سلوكاته ليحدد المشترك والمختلف بين الثلاثة. لهم ثلاثهم بؤرة مشتركة إذ لم يكن غوركي مخطئا عندما كتب رواية “الأم”. لكن ضلعَيْ قبيلته (أحمد، عبد الوهاب) أشهرا الإعجاب به وهما من يُقَتّــرانِ الإعجاب بما يعجب به عموم المعجبين؟ كيف؟ هل مجرد انتصار لأخ ظالم أو مظلوم؟ خصوصا وهو منفي قسرا والنفي من أقسى درجات الوقوع تحت الظلم. فهم ينصرونه أخا مظلوما…في جميع الأحوال/الأهوال.
كتب حميد المؤلف فيما سبق وصفا لهذا البئيس الذي يتحدث وهو راض عن نفسه لكون نفسه وجدت نفسها فيما كتب راضية مرضية: من التراث أجد نفسي في ثلاثية القرآن بل وكل نفس: تارة مطمئنة وتارة لوامة وتارة أمارة بالسوء.
عبره اكتمل الضلع الثالث ليرتفع البعد الثالث ويكتمل به هرم البواجقة. يردد التطوانيون حكمة ترتبط بالمعارك: “ما نغضب ما نهغب، ما نئد على فتنة” (لا أغضب،لا أهرب، لا طاقة لي بالفتنة). يتنذر الساخرون بهذه الحكمة للضحك من جبن يعتقدونه في التطاونيين. ولو قرأنا ما كتبه ماو تسي تونغ حول القضايا العسكرية، ولو طلبنا رأي الصينيين في الحكمة التطاونية، لانتبهوا لبؤرة ذات درجة عالية من العقلانية ضمن العبارة وهي “ما نهرب”. ليس الهروب صفة مروءة لدى الجندي. إلا ما كان من الحالة التي تكتمل بها قاعدة عدم الهروب وهو استثناء: “الهروب في البعد رُجلة”، أستسمح نساءنا لأن لغتنا ذكورية ولو أنها دون أن تدري، معترفة بالأصل النسائي عندما تجعل المروءة أحسن صفات الرجال وهو لفظ اشتق ما بين المرء والمرأة ولم يعر الرجولة اهتماما. تتجسد في منفاه حقيقة التطاونيين جملة وتفصيلا. لكنه مرتيلي النزعة كتركيب بين بني سعيد وتطاون. يقارع التطوانيين عندما يجسدون المتصوفة انتصارا منه لبوطواجن. أكتبها ضاحكا لأنني كاتم طلقات مسدسه الكاظم الغيض وكاتم أسرار شغبه الجميل. كذلك كان هروبه الاسطوري عبر الباطيرا الى اسبانيا.
إقرأ لنفس الكاتب: حزن الظن: باب الجياف… باب اليهود!
يكاد يحدث نفسه دوما وهو ينظر لمن يتجرأ على بعض حقوقه قبل أن ينفجر في المرة التالية بما عناه الشاعر في البيت التالي:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا// متى أضع العمامة تعرفوني
عمامة الصبر طبعا. وهو لا ينفذ صبره مزاجا، بل حسابا. وحسابه ليس فيه من ردود فعل العرب، أو فيه القليل منه (نفاذ الصبر) وليست ردود فعل عربية على كل حال. نفاذ صبر موجود إذا قسنا نفاذ صبره بالسي أحمد وعبد الوهاب والعهدة عليه وليست الخلاصة شخصية. هما كما لو وضعت أنت بنفسك جهازهما العصبي في الثلاجة.
هذه المواصفة أفادتني في استخلاص شخصي حول حالات العقلانية. العقلانية العملية. عقلانية حميد تركيبة من عقلانية السي أحمد التي تختلف عن عقلانية عبد الوهاب. عقلانية بناء الثقة (السي احمد) وعقلانية التدبير استنادا على الثقة (عبد الوهاب) وعقلانية المناعة مستندة على الثقة والتدبير السابقين (حميد).
وصف عبد الوهاب ذات يوم كون العينة البشرية من هذا المتحدث البئيس، كاتب هذه السطور، تكاد تندثر، والحال أن سلوكي بعد الاحتكاك بهذا الهرم البجوقي الثلاثي الأضلاع هو الذي شحذ فيّ رغبة إعادة تربيتي لعلي أصبح في شكل مربع الأضلاع، إن استطعت إلى ذلك سبيلا. بعقلانية شبيهة. أجدني بين الفينة والفينة عند محاولة الغرق أميل إلى المستوى الأول: الافلات من الغرق عبر تقوية عوامل الثقة. التدبير=00. بسبب الفوضوية الغازية لخلايا نخاعي الشوكي.
عندما يلتقي أحد أصدقائي حميداً ينشأ الإعجاب به في نفسه مباشرة، ولأن التنشئة الاجتماعية ما بعد الأسرة والمدرسة تتكفل بها الصديقات الرائعات والأصدقاء الرائعون، غالبا ما أقترح على حميد أن يتسع صدره ليقبل طالبا جديدا في فوج الماستر الاجتماعي. أما ما لم أخبره به، فهو من يسعد بالتعرف على عبد الوهاب والسي أحمد، دفعة واحدة، يكون قد اكتملت لديه لجنة الاشراف على درجة الدكتوراه في التنشئة الاجتماعية. خصوصا ومبدئي أن أتخذ الاصدقاء ممن يفوقونني تنشئة اجتماعية ومودة. هذا هو التخصص الذي ادعي إتقانه. تحت شعار= لا أصدقاء سوى من هم أفضل مني.
لأن حميد البجوقي يعلم من محيطه الاجتماعي أن كل نفس ذائقة الاطمئنان واللوم والأمر بالسوء فقد سجل على نفسه كل حالاتها الثلاث بالواضح عبر رواياته الثلاث. الشفافية شيء بهي كالزجاج البارق من ذاته. ذاك درس وتلك الجرأة عنصر قوة إنساني في الكتابة.
ذات يوم، اكتمل لدى ميشيل فوكو مثلث الحوارات الثلاثة: حوار الحقيقة مع الحقيقة، وحوار المعرفة مع المعرفة، وحوار الذات مع نفسها، اعتبر المعايير الأكاديمية التي أرسيت في الجامعة الفرنسية على عهد نابليون، معايير سلبت المجتمع حقه في استكشاف الحقائق والمعارف والنفوس. لذلك ألف كتابا أسماه: “يجب الدفاع عن المجتمع”. ويظهر أن مناضلي “السترات الصفراء” طبقوا وصية ميشيل فوكو، ضد عجرفة ماكرون الذي ظن أن المجتمع الفرنسي ستنطلي عليه كذبة “الوسطية”. وأضافوا لشعاره تكملة تستحقها “فرنسا تسير” إلى الوراء.
إقرأ أيضا: قراءة للموت بصورة أخرى في ديوان “باب للحب بابان للألم”
بالاطلاع على الفلسفة اليونانية، صادفت القيم الأربع: العدل والاعتدال والحكمة والشجاعة.
أكاديمية هرم البواجقة ذي الأضلاع الثلاثة بمثابة بناية حيث يدرّس تخصص العلاقات العامة. والعلاقات العامة في الثقافة المغربية تخصص جديد، وفي تربية الفرسان الثلاثة، الإخوة كارامازوف المرتيليين، تعتبر العلاقات العامة تخصصا عريقا، حجر الزاوية في تربتهم الاجتماعية. ستجدونها في ما بادر به السي أحمد وهو يطفئ نار الحزن لدى الطفل اليتيم حميد لحظة وفاة الأب سنة 1967، عندما انعطف داخل جنبات المنزل ليجد الأخ الأصغر حميد باكيا. إذا بالسي أحمد يخرج من جيبه خمسة دراهم ويسلمها له موضحا: لا تبك، أبونا لم يصبه سوء، إنما سبقنا وسنلتحق به في مكان جميل اسمه الجنة. ليسمح لي أن أتخيل أن السي احمد بحكمته استطاع أن ينقله من الشعور باليتم المبكر إلى فرحتين مبكرتين قبل انتهاء مراسيم العزاء: فرحة الخمسة دراهم (خمسة دراهم في الستينات القرن الماضي !) والحلم الجميل باللقاء المقبل مع الأب الغائب في مكان ساحر اسمه الجنة. رسم السي احمد طريق الثقة في نفسية حميد الصغير من نقطة البدء (خمسة دراهم في يد الأخ الصغير) إلى الهدف السعيد (لقاء الاب في الجنة). وما دامت الخمسة دراهم ملموسة في يده فكيف لا يكون خبر اللقاء السعيد مع الاب مستقبلا لقاءا أكيدا؟ تلك بيداغوجيا السي احمد العملية دوما والايجابية أبدا. ليس ماسونيا ولكنه بناء ماهر للثقة في النفوس.
عبد الوهاب المْرْضِي (مرضي الوالدة)، بقي سند القرب للوالدة بعدما غاب حميد (الحبة الاصغر في العنقود) في ديار المنفى. ينفذ عبد الوهاب كل الاجراءات الادارية لتذهب الأم الى مكة المكرمة. من لها ليرافقها غير عبد الوهاب ويساعد ها بحملها على ظهره لاستكمال مراسيم الصفا والمروى. ولا بأس أن يعرج بها على مدريد لتشفي غليل الغياب مع الحبيب عبد الحميد المنفي. أثناء حياته الطلابية لم يتوان عبد الوهاب عن حمل صاكادو ليطوف حول البحر الابيض المتوسط. عملي أبدا يقطر أدبا. صديق الأزمات للغير. فكيف تتخيل أن لا يصل بكل شهيوات الوالدة في مختلف مناسبات السنة إلى مدريد حيث حميد المنفي. عندما مرت حكيمة طالبة لديه في المدرسة العليا حكت عن صبر أيوب لدى عبد الوهاب. تلك مدرسة السي أحمد. قبل أن تنتشر عبارة “الطاقة الايجابية” في أيامنا هذه بثلث قرن دونما حشو ايديولوجي أجوف. الذين يلاحظون صمتي لحظات التوترات والاشتباكات المأزومة لا يدرون أنها من مدرسة السي أحمد البجوقي.
لغتنا ذكورية ولو أنها دون أن تدري، معترفة بالأصل النسائي عندما تجعل المروءة أحسن صفات الرجال وهو لفظ اشتق ما بين المرء والمرأة ولم يعر الرجولة اهتماما.
من الصعب أن تجد في نفس الآن الدعم الايجابي، وفي نفس الوقت عدم التدخل في شؤونك الشخصية. لا نصائح جوفاء، بل قدوة عملية صامتة، تُنطِقُ الحجر في الواقع.
إقرأ أيضا: #ألف_حكاية_وحكاية: ميسور، المنفى وعبد الرحيم بوعبيد
إذا استدعيت لجلسة استرخاء مع أحد الإخوة الثلاثة، سيكون السعد لديه أن تأكل من ذوقه. كلهم يتقنون طبخ الطواجن ولا استغلال للزوجات في هذا الأمر. مساواة بين الجنسين بلا حذلقة ولا قناع تبجح كاذب.
ذات يوم، اعتقدت نفسي صديقا حميما واشتعل لساني بلهيب أولي للنميمة على طريقة المغاربة في حق الغائبين (عبد الوهاب وحميد). ردُّ السي أحمد كان حاسما: لا مجال للتحدث بما يبعد المسافة بين الإخوة. ومن الحزم سوء الظن. ولو أن النية لم تكن بما سيسيئ لأحد. لكنه الحزم درس العمر. ذاك جانب آخر استخلصت منه أن السي أحمد منجم لمعدن الثقة. وأول مكون للثقة الصلبة بساطة النزاهة المعنوية. سيف المعقول في حده الحد بين الجد واللعب. تلقنت قُبْلَهُ تربية الزهد لكنه علمني كيف يكون الزهد حقيقيا ومرحا في نفس الوقت.
لا شك أن ثالث اثنين إذ هما في عسل المودة، حاول حميد أن يضيف لهما الصبغة السياسية في معالجة الأوضاع العينية اليومية في العلاقة مع السلطات بصدد التماس والاحتكاك الاداري العادي مع المسؤولين. معادلة الواجب والحق في ميزان الذهب. تلك حكاية أخرى.