محمد نوبير الأموي: في سيرة المناقطية والملكية البرلمانية
على امتداد 82 سنة، بصم نوبير الأموي على مسار طويل من العمل النقابي والسياسي، في صدام المعارضة مع السلطة.
لم يكَلّ الرجل، رغم الاعتقالات والمطاردات التي تعرض لها، فكان مع كل اعتقال أو قمع يتعرض له، تتقد فيه حمى النضال من جديد.
في زمن صار فيه العمل النقابي محط تساؤلات عن الجدوى والفعالية، ووسط تناسل حالات الانشقاق والانقسامات… مع كل هذه التغيرات التي طالت الحياة النقابية بالمغرب، يظل الثابت الوحيد في المعادلة، هو التاريخ…
تاريخ، يذكرنا بفعل نقابي كان… وبنقابيين ساهموا في صناعته، فخلدهم في كتبه.
نقابيون لم يهادنوا، ولم يساوموا. ظلوا في عهدة النضال، واستمروا في ساحات الحقوق والمطالب، أصواتا تناصر المقهورين.
في هذه الصفحات، خُلد اسم “محمد نوبير الأموي”…أحد أبرز القيادات النقابية التي عرفتها الحركة الاجتماعية والسياسية بالمغرب.
تلقى الرجل على امتداد نضاله السياسي والنقابي، ضربات لم تزده إلا إصرارا وثباتا على مواققه، وتشبتا بحبل النضال، غير منفصم عنه.
من حزب الاستقلال… إلى الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، مسار حافل بصم عليه نوبير الأموي في مختلف المحطات البارزة من تاريخ المغرب الراهن، وقد كان محركا وفاعلا في محطات رئيسية تشهد عليها المحاكمات السياسية، والمكاسب الاجتماعية التي تحققت.
بن احمد… البدايات
في مضارب “الشاوية”، وتحديدا، بدوار “ملكو”، ولد نوبير الأموي سنة 1936، من أب وأم جذورهما من أمزاب.
قبيلة عُرفت، تاريخيا، بصدامها المتوتر مع “المخزن” وأعوانه، قبل أن يشتد الصراع بمقاومة شرسة للاستعمار الفرنسي. في هذه القرية، وبين الفلاحين والبسطاء، بدأت الخطوات الأولى لنوبير الأموي، وهناك، حفظ القرآن بكُتاب القرية.
مبكرا، يرحل الأموي، رفقة شقيقه، إلى الدار البيضاء لمتابعة دراسته بمدرسة اتحاد الحي الصناعي.
بعدها، تابع النقابي دراسته بكلية ابن يوسف في مراكش، ثم انتقل إلى جامعة القرويين في فاس، ليختار التعليم مسارا مهنيا، حيث التحق بمدرسة المعلمين في مراكش.
مسار سيتخذ منعرجا آخر، حين التحق الأموي، في منتصف الستينيات، بمركز تكوين المفتشين، ليتخرج بعدها مفتشا للتعليم بخريبكة سنة 1965. استمر في عمله بالرباط إلى حدود سنة 1978.
المسار النضالي…الخطوات الأولى
حاملا معه شُعلة النضال التي عُرفت بها منطقة أمزاب بالشاوية، انخرط الأموي مبكرا في النضال السياسي من بوابة حزب الاستقلال سنة 1952. حينها، لم يكن نوبير الأموي قد أكمل 16 عشر من عمره بعدُ…
في شهادة له في حق نوبير الأموي، يقول الكاتب والروائي شعيب حليفي: “منذ ذلك الوقت، كان الأموي عنصرا فاعلا ضمن خلايا جيش الأطلس بالدار البيضاء وحركة المقاومة السرية إلى جانب العديد من رجالات المقاومة آنذاك، حيث شارك في تلك السنة في انتفاضة احتجاجية بعين الشق”.
بعد الاستقلال، انخرط الأموي بنقابة “الاتحاد المغربي للشغل”، قبل أن يُعلن إلى جانب “رفاق آخرين” الانشقاق عن حزب الاستقلال، ثم تأسيس حزب “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، مشددا على أنه لا ازدواجية بين العمل السياسي والنقابي.
مع بداية الستينات، سيبدأ الأموي مرحلة جديدة، ليلفت له الأنظار بحضوره “الثوري” والشجاع في أكثر من معركة، فكان أول احتكاك له مع الاستخبارات والشرطة، سنة 1961، حينها كان الرجل عضوا نقابيا مسؤولا بالتعليم، وعضوا بمكتب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بحي العكاري بالرباط.
أثناء التحضير للإضراب العمالي العام أمام مستشفى ابن سينا بالرباط، تعرض الأموي لاعتداء من قبل أجهزة الأمن.
حول هذه التجربة، يقول نوبير الأموي في كتاب “نوبير الأموي: فصول من سيرة مناضل استثنائي”: “إن كان من شيء قادني إلى طريق الكفاح، فهو القمع الذي تعرضت له وإخوتي من رجال التعليم. حين كنا نخوض ونمارس حقا نقابيا في التعبئة للإضراب العام، تعرضت لهجوم من طرف الشرطة والقوات المساعدة فكسر أنفي”.
سنة بعدها، قاد الأموي حملة احتجاجية لإنقاذ التلاميذ المطرودين من مدارس الرباط، علاوة على مشاركته في مسيرة احتجاجية على السياسة التعليمية آنذاك، ليتم اعتقاله رفقة ثمانية من الآباء، ويصدر في حقه بعد ذلك، حكم بستة أشهر حبسا نافذا.
لم تكن هذه الستة أشهر، سوى شرارة نحو انعطافات أخرى، لم تُثن الرجل عن الخط النضالي الذي رسمه.
خط نضالي لم يفصل فيه الأموي بين النقابي والسياسي، ليقود بذلك معركة سياسية من جهة أخرى، معركة مقاطعة الاستفتاء على أول مشروع للدستور، مازجا بين التأطير والتنظيم ثم الممارسة.
معركة جديدة… تأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل
بدأ الخلاف داخل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بين التيار النقابي الذي كان يشدد على الفصل بين النقابي والسياسي، والتيار السياسي الذي لم يتفق مع ذلك، لتتضح معالم التوتر أكثر بعد إلغاء إضراب 1961، ما عجل ببداية الانفصال عن الاتحاد المغربي للشغل من قبل نقابات قطاعية مستقلة.
بعد انشقاق الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، اتخذ القرار بتأسيس نقابة جديدة، تكون قاعدتها الأساس من النقابات الوطنية.
بذلك، قاد الأموي عملية تأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في نونبر 1978، لينتخب خلال المؤتمر كاتبا عاما في الأربعين من عمره.
يقول شعيب حليفي في شهادته: “لم يتأخر في إعلان إضراب تضامني مع فلطسين في يوم الأرض، ثم تليه إضرابات ستهتز فيها الأرض منذ أبريل 1979 مع الإضراب العام في التعليم والصحة والبترول والمواد الغدائية، مرورا بسنة 1981، فلم يجد الحاكمون آنذاك سوى اعتقاله بسجن اغبيلة بعد تحرير محاضر متعددة دون محاكمة عقب إضراب يونيو الشهير”.
إضراب، عرف تدخلا قويا للسلطة من أجل إفشاله، فكانت الحصيلة آلاف القتلى والمختفين، واعتقال قيادة الكونفيدرالية وإغلاق مقراتها. اعتقال لم يستثن الأموي، فكان نصيبه من ذلك سنتين من الاعتقال دون محاكمة.
زخم نضالي لم ينضب، لتتحرك مياهه بقيادة الكونفدرالية والأموي سنة 1990 بفاس، في ظل غياب الحوار الاجتماعي مع حكومة عز الدين العراقي، والتي انتهت بوفيات كثيرة في صفوف المحتجين.
نفس القصة ستتكرر، ليضرب الأموي موعدا جديدا مع السجن سنة 1992، عقب حواره مع جريدة “إلبايس” الإسبانية، والتي وصف خلاله الحكومة وأعضاءها بـ “المناقطية”، وهي الكلمة الإسبانية التي تم تأويلها من طرف متهمي الأموي، على نحو جعلها تعني “اللصوص”، علاوة على أنه قد نادى خلالها بـ”الملكية البرلمانية“، وطالب فيه بـ “ملك يسود ولا يحكم“.
…محاكمة خالدة عرفت مؤازرة 1300 محام للأموي، مقابل انتصاب “محمد زيان”، كمحامي للحكومة، ليصدر في حقه حكم بالسجن لسنتين، وليتم اعتقاله من وسط الجلسة، مباشرة بعد النطق بالحكم… قبل أن يصدر الراحل الحسن الثاني قرارا بالعفو، وذلك بعد أن قضى نوبير الأموي، 14 شهرا من الاعتقال.
سنوات الوئام مع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ستنتهي بعدما استدعِي الحزب للمشاركة في التدبير الحكومي سنة 1998؛ رافضا، بذلك، انقياد النقابة لقرار الحزب بخوض تجربة التناوب، وهو ما عصف بالمؤتمر السادس للاتحاد الاشتراكي، والذي عرف انشقاقات كثيرة.
حينها، اتجه الأموي مع رفاق له إلى تأسيس حزب المؤتمر الوطني الاتحادي، قبل أن يترجل عن صهوة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل سنة 2018…وعن صهوة الحياة في 7 دجنبر 2021 بعد صراع مع المرض، فكان أن توفي رجل ليس ككل الرجال.