من كندا، عمر لبشيريت يكتب: غيثة، نوال، ونصيرة… بين الحرية ومنزل العار
يهاجر المغاربي بحثا عن أشياء أخرى إلا الحرية والديموقراطية المفقودة في وطنه الأم. بل تصبح هذه الحرية إحدى التحديات التي تقض مضجعه وتثقل كاهله. قد يتحمل الغربة والبعد والشوق، إلا الحرية… يضعها ضمن الأولويات التي يجب ألا تجرفه وأبناءه. يخاف منها ويجتهد لتحصين أبنائه منها.
ببساطة، يربط المهاجر الحرية بالجنس والانحراف والتمرد على الدين. لا يبدو مستعدا لفهم وإدراك إلا هذا البعد. يقتنع به ويجاهد لنشره، ويبحث عمن يقاسمه هذا الهم، هذا التحدي، يبحث عن “مقاومين” يشبهونه… ويعثر عليهم بسهولة.
قالت لها والدتها بلهجة صارمة وباردة وقاسية جدا: “عليك مغادرة المنزل، إذا التقاك أخوك هنا سيقتلك. عليك مراعاة مشاعره وغضبه ودفاعه عن شرف العائلة”…
ظلت واجمة أمام الباب وحقائبها بجانبها. لم تفهم، في البداية. شعرت أن تلك الكلمات كبيرة جدا عليها وخرجت مثل طلقات الرصاص. لم تستوعب معناها بسرعة، مثل من تعرض لصعق كهربائي غيبه عن الوعي لعدة ثوانٍ، ثم استفاق مذهولا، لا يعرف ما الذي وقع…
ظلت تحدق في والدتها، لا تصدق ما يقع ولا تكاد تعرف إن كانت أخطأت العنوان، وهي التي كانت تنتظر استقبالا بالأحضان منذ أن غادرت منزل العائلة قبل سنوات.
كانت سماء موريال رمادية ذلك اليوم، والثلوج لا تكف عن التساقط. كانت غيثة تمني النفس باستقبال دافئ، وسط هذا البرد القارس، يذهب عنها سنوات المنفى الاضطراري عن منزل العائلة. لكنها صعقت أمام هذه المشاعر تحت الصفر.
رغم الحزن الظاهر في عينيها، حبست دموعها وحملت حقائبها وغادرت مصدومة. كانت تحلم أن تعود إلى دفء العائلة وأحضان إخوتها وسريرها ودولاب ملابسها الذين حرمت منهم منذ سنوات. وبالضبط منذ تلك التحية الصباحية لزميلها أمام باب المدرسة. قبلتان على الوجنتين وعناق بين تلاميذ عائدين من عطلة أعياد الميلاد، كانت كافية لدخول غيثة لأقسام الشرطة والطواف عبر منازل عائلات الاستقبال… أصبحت ضحية عنف عائلي ودخلت عالم التيه والتشرد. أضحت منبوذة وهي لا تتجاوز 15 ربيعا… بسبب عناق بين تلاميذ، بسبب قبلة على الخد…
جاءت، اليوم، تبحث عن الاستقرار، أرادت أن ترتاح من هذا الطواف، أعياها البعد والاغتراب عن العائلة. كانت صغيرة وهشة وتفتقد للبوصلة والحنان، حينما غادرت. كانت عصفورة طرية تريد أن تتعلم الطيران، تحتاج إلى سند وحب وحنان وحضن عائلي يكون مرشدها وهي تطل على بدايات عالم الكبار.
وها هي، اليوم، بعد أن أصبحت شابة ناضجة تشعل شمعتها العشرين، تعود من حيث جاءت. تعود إلى التيه مرة ثانية.
في الطريق إلى حيث لا تعلم، تزيدها كلمات والدتها، الباردة مثل الصقيع، برودة أضعافا وأضعافا أمام شتاء موريال. تسارع الخطى، بحثا عن أول مقهى تحتمي به، لتستوعب هذا الصباح الأسود، هذا الصباح المثقل بكلمات تهبط على كاهلها اللين مثل جبل: القتل، الشرف، غضب الأخ…
عكس ما يعتقد الكثيرون، يهاجر المغاربي بحثا عن أشياء أخرى إلا الحرية والديموقراطية المفقودة في وطنه الأم. بل تصبح هذه الحرية إحدى التحديات التي تقض مضجعه وتثقل كاهله. قد يتحمل الغربة والبعد والشوق، إلا الحرية… يضعها ضمن الأولويات التي يجب ألا تجرفه وأبناءه. يخاف منها ويجتهد لتحصين أبنائه منها. ببساطة، يربط المهاجر الحرية بالجنس والانحراف والتمرد على الدين. لا يبدو مستعدا لفهم وإدراك إلا هذا البعد. يقتنع به ويجاهد لنشره، ويبحث عمن يقاسمه هذا الهم، هذا التحدي، يبحث عن “مقاومين” يشبهونه… ويعثر عليهم بسهولة.
في ذلك الصباح المشؤوم، ومثل كل التلاميذ العائدين من العطلة، كانت غيثة، مثل الآخرين، توزع التحايا والأحضان والابتسامات، فرحة بعودتها إلى المدرسة. فقط، حظها المشؤوم، جعل أخاها الأكبر يتواجد في نفس المكان. لم تكد تكمل عناقها مع زميلها حتى انهالت عليها الضربات. لقد أشبعها “سلخا” أمام الجميع.
أمام صراخ التلاميذ والهرج الذي دب في المكان. وصلت الشرطة، كعادتها في موريال، بسرعة قياسية.
ولأن الأمر يتعلق بتعنيف قاصر، بل “سلخ” قاصر، من طرف الأهل، أحيل الملف مباشرة على مديرية حماية الشباب، وهي المديرية التي يخاف منها المهاجرون.
أصبحت غيثة في عهدة وتحت حماية المديرية، خاصة أن والديها حاولا تبرير هذا العنف. كان همهم هو إيجاد مخرج للابن…لم يعد الأخ هو المذنب، بل غيثة هي الآثمة في نظر الوالدين، وتستحق بذلك عقاب أخيها.
كان ضروريا، أمام سلبية وتواطؤ الوالدين، أن تسحب منهم البنت وتوفر لها الحماية من طرف الدولة. القانون صارم هنا اتجاه تعنيف وإهمال الأطفال، ويعطي الحق للدولة في حماية الأطفال إذا ما تبين أن العائلة لا تستوعب خطورة الأفعال التي اقترفتها، وأن حالة العود ممكنة.
عاشت غيثة بين أحضان عدة أسر استقبال. في هذه السن الحرجة، وهي في حاجة لاستكمال نضجها النفسي، كانت لا تفهم بعد سبب هذا الاغتراب وهذه القسوة. تعثرت في دراستها، وأوشكت على فقدان البوصلة والضياع ودخول عالم موريال السفلي.
قبل سنوات، عاشت موريال على وقع جريمة بشعة ذهب ضحيتها شابتان أفغانيتان في عمر الزهور. ذات صباح، قادت الأم والأب والخادمة الشابتين في رحلة صيفية. وفي الطريق، توقف الجميع للاستراحة قرب إحدى الأودية، ليجهز الثلاثة على الشابتين نحرا ويرموا جثتيهما في الوادي. تبين بعد التحقيق أن الخادمة ليست سوى الزوجة الثانية سرا، وأن الجريمة كانت بدافع “الشرف”، بعد اكتشاف علاقة حب لابنتهما مع شاب يدرس معها. فكان أن تم التخلص من “عار” الفتاتين معا…
غيثة، كانت “محظوظة”، لم يكن نصيبها سوى “السلخ” أمام أصدقائها وصديقاتها. لكنها ذاقت معنى التيه والإبعاد والحرمان النفسي وهي بالكاد تغادر طفولتها. عندما تحكي، وتناديني بـ “عمي”، تشعر أنها تحمل بركانا من العطف الضائع، تعاني فراغا مهولا من الحاجة إلى الحنان، تود تصريف خزان من الكلمات التي يتعلمها الأطفال في مناداة أقاربهم.
أنقذت نفسها بنفسها، في لحظة ضعف نفسي، في لحظة شعور بالطرد والنفي من بيت الأسرة الذي عادت إليه… كانت كل أبواب جهنم الانحراف مفتوحة على مصراعيها وتناديها. لكنها ركبت التحدي. اختارت الأصعب. اختارت أن تقاوم أو أن تشعر نفسها أنها تقاوم… وكانت مساعدتها الاجتماعية سندها.
عادت الى المدرسة، تفوقت بامتياز، وهي، اليوم، تتابع تكوينها في الهندسة.
أعرف، وسمعت حكايات عن آباء قفلوا عائدين إلى بلدانهم، بعد بداية نضج أبنائهم. تركوا الوظيفة والخدمات الصحية والرعاية الاجتماعية والتعليم المتطور، هربا من الحرية. هربوا خوفا من “انحراف” الأبناء كما يتخيل إليهم. “أريد لأبنائي أن يتلقوا تربية وتنشئة تليق بدينهم، لا أريد أن يشبهوا أبناء الكنديين، أن يتربوا وسط التساهل مع المثلية، أن يطبعوا مع العلاقات الجنسية والمخدرات… أن ينسوا هويتهم”، هكذا يردد أغلبهم.
ينسى المهاجر المسلم أنه قطع المحيط بحثا عن فرصة أحسن، عن تعليم لائق والعيش بكرامة. يتحول، بسرعة، إلى مقاوم للحرية، يلبس وظيفة جديدة، وظيفة حارس دين. يتخيل أن كل ما يراه من تقدم ونعيم ونظام له ضريبة، ويتصور أن هذه الضريبة هي التخلي عن هويته. قد ينخرط في كل أنواع التملص الضريبي والعيش على الإعانات الاجتماعية، ولا يغادر مقاهي الشيشة؛ لكنه يعتبر الاستقامة هي، فقط، عدم التشبه بالآخرين، بالنصارى…
عاشرت، وتعرفت، على عدة طوائف ومذاهب. لكن، وحدهم المسلمون يعيشون دينهم بتوتر وقلق وتوجس من الآخرين. هناك شعور لدى المهاجرين المسلمين أن الجميع يتربص بهم لاختطاف دينهم، أو تحويلهم عن هويتهم. أي قانون، أي مبادرة، كل الإذاعات والقنوات موجهة ضدهم. الجميع يحسدهم. هكذا يشعر الكثيرون ويرددون. لذلك، يصوتون دائما وأبدا على الحزب الليبرالي ويتصورون “جيستان ترودو”، رئيس الوزراء الليبرالي، حاميهم، لأنه يخطب فيهم مهنئا برمضان ويتسامح أمام “العمل فالنوار” أو “لكحل” كما يسميه المهاجرون. لكنه سرعان ما يخذلهم حين يخرج في مسيرات المثليين ويدافع عن التوقيف الإرادي للحمل، وعندما أباح بيع واستهلاك الحشيش. لكن… يجدون له الأعذار، ويتصورون أنه، مثلهم، يتعرض لمؤامرة. لا ينتبهون أنه يفعل ذلك مع كافة أطياف مواطنيه: يهود، وسيخ، وبوذيين، ونباتيين، ولا دينيين، والشعوب الأولى…
من السهل جدا النصب على المسلمين: يكفي، فقط، أن تهنئَهم بحلول العيد وتذهب إلى المسجد لتناول وجبة الإفطار، لتحصد ملايين اللايكات والأصوات، وبعد ذلك… افعل ما تريد…
يقول صديقي مصطفى فهمي، الكاتب الشكسبيري: “عدوك هو من لا يعرف حكايتك”… عدوك هو من يجهلك، يرتاب منك. غموضك يغدي مخاوفه، والإنسان بطبعه عدو ما يجهل… اقصص على الناس حكايتك، سيتعرفون عليك، ستبدد مخاوفهم، ستصبح فقط مجرد حكاية من آلاف الحكايات التي يعرفونها. هذا هو معنى الاندماج. أن تتعرف على حكايات الناس والبلد وتقصص عليهم حكايتك.
خلال عملي، يطرح عليّ الناس عدة أسئلة، تبدو ساذجة في الوهلة الأولى. لكن، بمجرد ما تشرع في الإجابة، تحس نوعا من الاطمئنان لدى الناس.
العار، سيجمع غيثة ونوال تحت سقف بيت واحد، وتهمة واحدة، قبلة أو مشروع قبلة. قبل أن تتعرف نوال على غيثة، كانت هي أيضا ضحية عنف الأب. علم بصداقتها مع زميل لها في المدرسة، فقامت قيامة الأب، أشبعها ضربا حتى انتفخت عيناها وأقفل عليها في البيت. لم تتردد نوال. كانت شابة ناضجة ومطلعة على القوانين. هربت من المنزل وقدمت شكاية بالأب.
وكما العادة، تولت مديرية حماية الشباب ملف نوال ونقلتها إلى منزل آمن لضمان سلامتها.
لحد الآن، لم تفهم نوال سبب اعتداء الأب وصمت الأم. تقول:”لو جالسني وسألني لأجبته ببساطة أنني أدرس مع فتيات وفتيان، وأنه من الطبيعي أن يكون لي أصدقاء من الجنسين، وأنه ليس بالضروري أن تكون بيننا علاقة جنسية”.
قررت نوال مغادرة بيت الأسرة وتعرفت على غيثة. تسكنان معا، قبل أن تنضم إليهما نصيرة التي طردها خالها… بسبب جمالها.
نصيرة، شابة في مقتبل العمر، جاءت الى موريال للدراسة واستضافها خالها. جميلة، مرحة، مجتهدة. لكن خالها، عوض مساعدتها واحتضانها، نغص عليها حياتها. طالبها بستر جمالها، لأنها تفتن، وجمالها يجعلها تشبه النصارى، وهو لا يريدها أن تشبههم.
ضيق عليها، وطاردها؛ حتى أنه أرسلها في عز برد موريال بحذاء رياضي. كادت أصابع قدميها تتجمد، بكت من شدة حريق الصقيع.
لم يشكُ أحد أو تضايق من جمالها، هو فقط ناب عن “الأمة الكندية” وخاف أن تفتنهم. كان يرى أن جمالها عار، وأنه يجب ستر هذا العار بأي ثمن. يحس بتأنيب الضمير كلما خرجت إلى الكلية. يتصور أن دين الناس سيهتز بسبب هذا الجمال، أن الناس ستغادر الإسلام أفواجا أفواجا، وأن الناس، مثل الذئاب، ستنقض عليها عند الزاوية الأولى للشارع.
تحملت وصبرت، فقررت مغادرة الكلية، لتوفير المصاريف، والبحث عن شغل ومغادرة مسكن الخال.
هن، اليوم، تجتمعن تحت سقف واحد، سقف موشوم بـ “العار”.. لكنهن فرحات وسعيدات، ذكيات وناجحات جدا. متفوقات في الدراسة والشغل. يزرن خلسة أمهاتن ويعشقن المغرب والجزائر (بلدانهن الأصلية) حتى النخاع، ويشعرن بالامتنان والفخر اتجاه البلد الذي حماهن ووفر لهن الرعاية، كندا. أصيلات…
والعار.. هو عار من طرد وحاول تشريد فتيات في ربيع العمر. معنى أن تطرد فلذات كبدك لصون “عارك”، أن ترمي للمجهول بفتيات لم يتجاوزن 15، و18، و17 زهرة.
أتصور غيثة ونصيرة ونوال، بعد عودتهن إلى البيت، وأمام كأس شاي يرددن مع جيل جيلالة:
ها العار أبويا ما تخلينيش
آه، ها العار أبويا ما تنسانيش
فوسط البحار أبويا، ومواج الهبيل أبويا
والبر بعيد أبويا وصياحي طال أبويا
وما تسمعونيش
أنا بنت الأصل وأنت عارفني
عايشة عيشة الأصل وأنت عارفني
وضاع منا الأصل ومابقتيش عارفني
مواضيع قد تهمك:
- جرائم قتل النساء في بعض القوانين “العربية”: إذا الموؤودة سُئلت، بأيّ “قانون” قُتلت! 1/2
- Marayana TV: سناء العاجي: فضائح الفيديو… لا تقتلوا الضحية!
- من مصر، أحمد حجاب يكتب: لماذا يتحول الرجال إلى قنابل موقوتة ؟
- حسين الوادعي: ملامح من تسامح المجتمع التقليدي في قضايا الشرف
- من مصر، أحمد حجاب يكتب: جرائم الذكورية السامة المعروفة إعلاميا بجرائم الشرف
- جرائم قتل النساء في بعض التّشريعات”العربية”: عن القوانين… التي فشلت أن تكون قانوناً! 2/2
- الأصول الدينية للنزعة الذكورية