هوشي منه… الإصرارُ لو كان إنساناً: في سيرة الأب الروحي للثّورة الفيتنامية 1\2
كان هوشي منه وطنياً وأممياً في ذات الآن. وشكّل بذلك تجسيداً حقيقياً لقوة إصرار الشيوعية، مع إدراك تام للخصوصية الثقافية لبلده الفيتنام، لئلا يحدث التّصادم بين النظرية وسياق تطبيقها.
هناك من الشخصيات من تجاوزت التاريخ والحدود. من اعتنقوا فكرة، وآمنوا بعدالتها، فأمسكوها بإصرار حتى تبلغ منتهاها في الواقع.
كذلك كان هوشي منه… شخصية آمنت بفكرة الاستقلال والتحرر والعدالة، فقاومت من أجلها. كان يقول: “ليس ثمة ما هو أثمن من الاستقلال والحرية”.
الحقّ أنّ أمثال هوشي منه، لا يحتَاجون إلى التّاريخ لينصفهم، لأنهم، هم، أوقفوا حركيّة التاريخ في فترة ما، ليُنصِفوا أنفسهم، فلم يجد التاريخ بدّا من”الانصياع” لتخلِيدهم… رغمًا عنه!
هو بلا شكّ نموذج غير عاديّ للإصرار في اكتماله وشموليّته، فليس من السّهل أن يقاتل إنسان ثلاثة جيوش ببسالةٍ لا تنضب، وينتصر، ولو مرحلياً… ذاك يعني أنه كان بطلاً إنسانياً، بدون منازع!
هوشي منه… ما قبل حرب التحرير!
رأى هوشي منه النور لأول مرة في 19 ماي 1890، بقرية بالهند الصينية، وهي التي تعرف اليوم بالفيتنام. نشأ في عائلة متوسطة الحال نسبياً، لأن والده كان مدرّسا.
والدته كانت مسؤولة عن إنتاج محصول الأرز. وكان له أخ وأخت.
اسمه الحقيقي هو نفوين أي كوك. أما هوشي منه، فهو اسم البُطولة والنّضال الوطني في وجه الظلم والرّجعية، والذي اختاره لنفسه عام 1938 عندما كان في الصين.
بات هذا اللّقب لصيقاً به مدى حياته، وبعد وفاته. ويعني، باللغة الفيتنامية، المُشرق أو المستنير أو المتنوّر.
يذكرهُ التّاريخُ إلى اليوم بأنه صاحبُ قوة أخلاقية لا تُوصف، وبأنه الأبُ الرّوحي للثّورة الفيتنامية، حيثُ كان مُناضلاً ثورياً ووطنياً، يتمتع بنصِيب غير طبيعي من روح الوطنية والشّعور بالانتماء… ذلك إلى جانب كونه سياسياً فذا؛ فضلاً عما ينقله الرواة بخصوص تعلّقه بالكتابة والأدب والشّعر، حيثُ كان مؤلّفاً وشاعراً أيضاً.
لمع نجمُه كزعيم شيوعي، باعتباره أحد أكثر الشّخصيات السياسية الفيتنامية أهمية خلال بدايات القرن العشرين. اشتغل كطبّاخ في أوّل حياته في إحدى السفن الفرنسية عام 1911.
بدءًا من سنة 1913 إلى 1917، اشتغل كنادل وغاسل أطباق في أحد فنادق لندن، ويقال إن ذاكَ الفندق عُرف بإقامة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل فيه بين الفينة والأخرى.
في غضون مكوثه ببريطانيا، تعرّف على بعض الاشتراكيين الماركسيين، وبدأت تغريه فلسفتهم المادّية والإنسانوية والتّحررية.
ظلّ هوشي منهُ يتساءل عن مصير الحركات الوطنية والتحررية بالعالم، وأية أيديولوجيا تصلحُ للتطبيق في البُلدان حديثة العهد بالاستقلال؟
انتقل إلى فرنسا بعد ذلك، سنة 1919، وهناكَ التقى مارسيل كاتشين، أحد أكثر الفرنسيين ولاءً للأيديولوجيا الألمانية الاشتراكية. صقل كاتشين تلك المعارف التي تلقاها هوشي منه بشكل عرضي خلال تواجده ببريطانيا، فقدّم له كتب لينين، ليغوص أكثر في الفكر الشّيوعي.
أثناء مطالعته للأفكار الاشْتراكية، وجد هوشي منه إجابة لسؤال حارق لازمهُ منذ بداية تشكّل حلم استقلال الفيتنام في دواخله، إذ غدا شيوعياً صرفاً، واعتبر الأيديولوجيا الماركسية، بتطبيقاتها المختلفة، لا يمكن إلا أن تكون حلاّ ناجعاً لإنهاء الصّراعات الطبقية ورفع الظّلم عن الشّعب الفيتنامي، وهي المنهج الأصلح لأي بلد يُحاول التخلّص من رُكام الاستعمار.
لترجمة أفكاره ميدانياً، انضوى هوشي منه تحت لواء الحزب الاشتراكي الفرنسي عام 1920، وبالتّبع أسس نادياً يضمّ عدداً محترماً من الطّلبة الفيتناميين، الذين يتابعون دراستهم على الأراضي الفرنسية.
في 1923، قاد تجربة صحافية تحملُ إسم “لوباريا”، والتي تعني المشَرّد أو المنبوذ، وخصصها لغاية وحيدة: فضح الجرائم التي ترتكبها فرنسا في حقّ شعب فيتنام وباقي الشعوب الخاضعة للاستعمار الأوروبي، سيما الفرنسيّ منه.
ذهب هوشي إلى موسكو عام 1923، للانضمام إلى الـ”كومنترون” أو اللجنة الشّيوعية الدولية؛ وخلال مؤتمر الكومنترون الخامس، عمل على تمثيل الحزب الشيوعي الفرنسي.
رغب هوشي منه في تلقن الفنون الثورية عن لينين، قائد الثورة البلشفية. في شتنبر من نفس السنة، شارك في مؤتمر “باكو”، المسمى رسمياً بـ”مؤتمر الشعوب الشرقية”، حيثُ كان أول مؤتمر سوفياتي رسمي يُعنى ببث الدّعاية الشيوعية في بلدان العالم الثالث المستعمرة، لغاية محاربة الاستعمار والرأسمالية.
ترك الرّفيق موسكو في اتجاه الصين سنة 1924، غداة وفاة الزّعيم الشيوعي فلاديمير لينين، وتشييعهُ من لدن هوشي وبقية الرّفاق البَلاشفة.
هوشي منه… الاستقلال أو الموت!
كان هوشي منه وطنياً وأممياً في ذات الآن. وشكّل بذلك تجسيداً حقيقياً لقوة إصرار الشيوعية، مع إدراك تام للخصوصية الثقافية لبلده الفيتنام، لئلا يحدث التّصادم بين النظرية وسياق تطبيقها. تشبّع بالاشتراكية فكرياً، وحاول العمل بها واقعياً، لنيل استقلال بلده وباقي البلدان المقهورة بالعالم، والتي كانت تقبع تحت نير الاستعمار والاستغلال والاستنزاف.
بعد ذهابه إلى الصين، بدأ الاتصال بالثوريين الفيتناميين للقيام بالنّشاط التحضيري على الصعيد السياسي والأيديولوجي والتنظيمي، وذلك في أفق تأسيس حزب للطبقة العاملة الفيتنامية.
في عام 1925، تبلورت من طرف هوشي منه، عصبة الشباب الثوري، التي كانت بمثابة الأكاديمية التي تلقى فيها الكثير من الشباب الفيتنامي التّدريب السياسي والعسكري.
بعدها، أسّس زعيم الحركة الوطنية هوشي منه عام 1930 الحزب الثوري الفيتنامي، والذي اشتمل برنامجه على حتمية “إسقاط حكم الامبريالية الفرنسية والبورجوازية الرجعية، تحقيق الاستقلال، توزيع الأراضي على الفلاحين وتطبيق شعار “الأرض لمن يزرعها”، تطبيق يوم الثماني ساعات عمل، وكذلك تشكيل حكومة تضم العمال والفلاّحين”. [1]
في ذات السّنة، تأسّس الحزب الشيوعي الفيتنامي، في مدينة هونغ كونغ الصّينية، لتجنّب المطاردة الفرنسية. وكان هوشي منه من أبرز مؤسسيه، حيثُ أسماه بـ“الحزب الشيوعي لمنطقة الهند الصّينية”، لعزمه على طرد الفرنسيين من منطقة الهند الصينية كلها.
تعرّض هوشي منه للاعتقال سنة 1930، نتيجة تواجده في تظاهرات عيد العمال، ومكث في السّجن إلى غاية 1933، حيثُ هرب من المعتقل، وبدأ يؤسس لنواة “حرب العصابات” لمقاومة الاحتلال.
لم يكن جسر الثقة في غارات الحروب غير النّظامية التي تزعّمها هوشي، سوى الجنرال فو جياب، الذي عرف بقتاله ودربته ومراسه في حرب العصابات، والذي كان يمثّل هوشي منه شخصياً في حالات الغياب.
خلال الحرب العالمية الثانية، عانت فيتنام من احتلالين: الفرنسي من جهة والياباني من جهة ثانية، إذ زحفت القوات اليابانية للسّيطرة على فيتنام، واتخذت منها قاعدة للأسطول الياباني للتحرك نحو سنغافورة لمحاربة دول الحلفاء هناك.
لاذ الثّوريون بالفرار صوبَ الحُدود الفيتنامية – الصينية. وفي عام 1941، تشكّلت جبهة وطنية ضمّت العناصر المعارضة للحكم الأجنبي وجميع أشكال الاستعمار، وسميت بـ“جبهة تحرير فيتنام”، على رأسها هوشي منه. لذلك، حملت تسمِية “فييت منه”، وأعقبها إصداره أوامر بتشكيل وحدات الدفاع الذاتي المسلحة.
خلال بدايات 1942، قادت الجبهة حرب عصابات لمدة ثمانية أشهر في إحدى المناطق الشمالية في فيتنام؛ وإبّان عامي 1942 و1943، أقيم هناك معسكر للثوريين، وأبلت حركة “فيت منه” بلاء حسناً في مقاومة الاستعمار الياباني، إذ في عام 1944 أصبحت معظم أراضي البلاد الداخلية في أيدي قوات فيت منه.
في ذات الظرفية، اشتدّ عود حركات المُقاومة ضد اليابانيين في كل البلدان الآسيوية الخاضعة للاحتلال الياباني بفعل شدة حكمه وصرامته.
داخل غمار تلك الأحداث، توصّلت الحركة الوطنية الفيتنامية إلى “قناعة بأن الصدام سيقع بين اليابانيين والفرنسيين. وبالفعل، تمكن اليابانيون من طرد الفرنسيين من الهند الصّينية، إلا أن ذلك لم يستمر طويلاً لهزيمة اليابان أمام الحُلفاء.
لما رأت اليابان نفسها خاسرة لا محالة، وبينما كانت القوات الحليفة تستعد للدّخول إلى الهند الصينية، أعلنت اليابان في 9 مارس 1945 استقلال فيتنام وكمبوديا ولاوس، وتنصيب باوداي، الذي كان يعيش في فرنسا عيشة الترف واللهو، إمبراطورا على الفيتنام”. [2]
هذا الاستقلال لم يقبل به الفيتناميون، فقررت الحركة الوطنية الفيتنامية اقتناص الفرصة للظّفر بالسلطة من أيدي اليابانيين، قبل وصول الجيوش الحليفة، بغية بلوغ الاستقلال الوطني الشّامل.
في الجزء الثاني، نستأنف الوقوف على ملامح إصرار هوشي منه، حتى بعد الحرب العالمية الثّانية…
هوامش:
[1] أنظر: الحركة الوطنية الفيتنامية.
[2] المرجع نفسه.
مقالات قد تثير اهتمامك:
- جهاز مخابرات الاتحاد السوفياتي… مرايانا تفتح أحد أكثر الملفات غموضاً 1/4
- الكي جي بي… “فظاعة” الثّورة البُلشُفية أو… العنف في خدمة الشيوعية 2/4
- هذه أبرز محطات حياة فلاديمير لينين!
- أحمد الخمسي يكتب: شجرة تشومسكي وحديقة اليسار الأمريكي المختفية
- محمد الفرسيوي: مَنِ السابقُ ومَنِ اللاحق؟ الرأسمالية أم القُمامة و”سراقْ الزيتْ”؟