في حوار حصري مع مرايانا قبل وفاته، مصطفى حجازي: هناك تخوف على الإنسان المقهور من الرقمية، ولا تنمية بدون تمكين النساء 3\3
في هذا الحوار، نستنقصي كثيراً من التّصورات التي عبّر عنها مصطفى حجازي في كتبه وأبحاثه. في الجزء الأوّل، قدمنا نظرته للشباب والإحباطات المتتالية التي تحاصره، وعرّجنا في الجزء الثاني لرسم ملامح الشخصية الإرهابية، وكيف تنسف الذات والآخر عبر التفخيخ والتفجير.
في هذا الجزء الثالث والأخير، نعاين ما يشرحه حجازي بخصوص كيف يمكنُ أن يكون الإنسان المقهور ضحية للرقمية التي لم يساهم فيها، وكذلك نظرته لمكانة النساء والأفق المنتظر للمساواة بين الجنسين في المنطقة النّاطقة بالعربية.
- يسيرُ العالم اليوم بوتيرة سريعة نحو رقمنة كلّ شيء. حتى الفضاء العام بات نموذجاً شبكيًّا. الخوف المطروح اليوم يقعُ على الخصُوصية، بعدما بات الإنسان عاريا في مرآة الرّقمي. هل من خطُورة على الإنسان المقهور والمهدور، الذي لم يساهم في بناء هذا العالم التّقني الضخم، ولم ينخرط حتى في صيرورة الحداثة بعد على نحو كلّي؟
هذا مأزقٌ من نوعٍ آخر. التّقنيات الرقمية هي بنتُ الثورة الصّناعية الرّابعة، وثورة التواصل الثالثة. بعد ثورة المحرك البخاري والكهرباء والحاسوب، أتت ثورة الرّقمي لتدخل العالم في الحضارة الرّقمية. هنا نتساءل: ما دور الإنسان المقهور في هذه الحضارة الجديدة؟ وأي مساهمة له فيها؟
لنسلّم، أولاً، بكون هذه الحضارة آخذة في تغيير كلّ شيء على وجه الأرض. لقد أجرت ومازالت تحوّلات عميقة ومتسارعة لأنماط الحياة والتفاعل والتواصل والإنتاج، ناسفة حدود الزّمان والمكان. لقد جعلت الإنسان يسيطر على نمط حياته ويسيّره على نحو لامحدود.
أمّا الثورة التواصليّة الثالثة، التي جرفت بالإنسان المقهور، أي المتمثّلة في وسائط التواصل الرّقمي، فهي من بنات الحضارة الرقمية التي استوردتها الشعوب المقهورة. بعد اختراع الكتابة والمطبعة، تأتي وسائط التواصل الرقمي بمثابة الثورة الثالثة. لكن سمة هذه الثورة أنّها تدخلنا بالكامل في طور تغييريّ يحبسُ العالم في كفّ اليد، أي من خلال الهاتف المحمول وتقنياته وتطبيقاته على وجه خاص. الإنسان المقهور قد لا يدري أنّ هذه الثورة الثالثة ووسائطها، وُضعت في الأصل من خلال روادها الأوائل، بهدف خلق نوع من الذّكاء الجماعي، حيثُ المعلومات متوفّرة للإنسان بكمّ هائل وسائل ومتدفّق، وهو ما يجعلنا أمام شكل جديد من الشّراكة الإنسانية.
ما حصل، أنّ عمالقة التواصل الرقمي الخمسة: غوغل، أبل، فيسبوك، أمازون ومايكروسوفت (GAFAM)، حوّلوها إلى مشروع ربحي، أي ما يعرفُ ببنك المعلومات واقتصاد المعلومة، إلخ. هؤلاء العمالقة يجنون عشرات المليارات سنويًّا عن طريق بيع معلومات المستخدمين للتجار والمعلنين، حتى أنّ تقاريراً توحي بوضع معلومات الأفراد تحت تصرّف المخابرات الأمريكية، CIA تحديداً. لا يعرفُ الإنسان المقهور أنّه حين يحملُ هاتفاً اليوم، فهو قد يصبح مكشوفاً ومعرى، وهذا مكمنُ الخوف.
لا يعود هذا الخوف إلى هذه التقنيات بحدّ ذاتها، وإنما إلى برمجتها، أي الخوارزميات التشغيلية، التي تهدفُ إلى ضمان الإذعان على الشاشات. هكذا، يهيمنُ العمالقة الخمسة على البشرية بواسطة تشغيل هذه الوسائط. ويتمّ الحديثُ هنا، ليس فقط على إذعان الإنسان المهدور فحسب، وإنّما عن عبودية جديدة، يقبلُ عليها المستخدمون طوعاً وعن طيب خاطر. يصيبُ الخطر جيل الشّباب تحديداً، لكونه الأكثر استهدافاً والأكثر استخداماً لها. ليست الشّرائح الشعبية وحدها المكشوفة اليوم، وإنمّا في مختلف مناطق العالم اتضح أنّ الإنسان لم يعد بمقدوره الاستغناء عن الرّقمية.
- وهل من حلّ في الأفق في نظرك؟
لاحظنا أنّه، عمليًّا، بدأت مؤخّرا حركة نقدية متزايدة الاتّساع لفضح سيطرة العمالقة الخمسة. وبالضّرورة إعلانُ التّخوف على الإنسان عامّة، والإنسان المقهور خاصّة، من السيطرة عليه واستغلال عمالقة الرقمي له ولمعطياته ومعلوماته.
تتركّز هذه الدّراساتُ النّقدية على ضرورة الحدّ من هذه الهيمنة الجارفة، والعودة إلى الغايات الأولى لصناعة هذه التقنيات، وتحويلها، من خلال إعادة برمجتها، لصالح تنمية الإنسان ورفاهه والشّراكة الإنسانية الفاعلة.
لابد أن تلعب الأمم المتحدة ووكلائها في الدّول، دوراً رئيساً في حركة التوعية هذه، كما يتوجّب على السّلطات الوطنيّة أن تقوم بدورها في حركة التوعية والتمكين هذه، من خلال تثقيف الجمهور على الوعي بأضرارها من ناحية، والتوعية بحسن استخدامها من ناحية أخرى. بهذا يمكنُ للإنسان المقهور أن يُحسّن أداءه ونماءه، ويتعيّن على السلطات قبلاً، الاعتراف بقيمة هذا الإنسان وكرامته وحريته، لكي ينعكسَ ذلك على تمكينه من ولوج الرّقمية بعدّة أخلاقية ومنهجية. وتلك هي المهمّة الأساسية للخروج من القهر والهدر.
- المرأة. أفردت فصلاً مهمّا من كتابك لوضعية النساء في المجتمعات المقهورة. لكنّك لم تتطرق للنضالات النسوية كصورة لدفاع المرأة ضد وضعية القهر. من الناحية السيكولوجية، أتعدّ الحركة النسوية النشيطة، اليوم، في شمال أفريقيا والشّرق الأوسط آلية تلقائية لمجابهة قهر المرأة، وأسلوباً دفاعياً في وجه الاستلاب الاقتصادي والجنسي والعقائدي؟
بكلّ تأكيد. لكن لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال، إلاّ من خلال طَرح مسألة منهجية هامّة، يتغافلُ الباحثون والمفكّرون في بلادنا عنها، فليست هناك “المرأة” كنموذج بالمطلق، بل هناك شرائح من النّساء، كما هناك شرائحٌ من الأسر. ونرى من جانبنا، أنّ ثمّة شرائح أربع:
في القمّة، شريحة النساء الرّياديات، اللائي يقدن نضالات تحرير المرأة في عالمنا “العربيّ” اليوم، وهن من أسميتهن بالنّسائيات. هؤلاء هنّ صانعات التّغيير والتحرير لكلّ من المرأة والرّجل والأسرة على حدّ سواء، ويلعبن دوراً هامًّا في الدفاع ضدّ كلّ أشكَال الاستلاب التي تطرقنا لها في كتابنا: “التّخلف الاجتماعي”.
هناك، أيضاً، شريحة نساء محدثي النعمة والسيطرة على المقدّرات الوطنية، فهؤلاء يتحوّلن إلى مجرّد أدوات استعراض لثروة الزوج والأسرة، من خلال الانغماس في المظاهر والغرق في قيم الاستهلاك.
ثمّ هناك النساء المكافحات لبناء حياة كريمة للأسرة والأولاد بالشّراكة مع الزوج.
وهناك، في النهاية، شريحة النساء من الفئات المهمّشة والمقهورة والمهدورة، التي تعيشُ تحت خطّ الفقر، وهو في تقديرنا تحت خطّ البشر في نوعية الحياة.
نحن نرى، بالتالي، أنّه لا يصحّ معرفيًّا، ولا يستقيم منهجيًّا، إدماج هذه الشرائح الأربع للنساء في حديث عام عن المرأة. وما ينطبقُ على المرأة، بهذا المعنى، ينطبقُ على الشّباب وشرائحه، والفروق النوعية بينها. وذلك حديثٌ آخر لا يسمح الحيز المتاح للحديث عنه. لذلك، نحيل القارئ على كتابنا بعنوان: الشباب الخليجي والمستقبل.
- لكنّك تعود في النهاية لتقول: لا يمكنُ للرجل أن يتحرر إلاّ بتحرر المرأة، ولا يمكن للمجتمع أن يرتقي إلاّ بتحرر وارتقاء أكثر فئاته غبناً، فالارتقاء إمّا أن يكون جماعياً عامّا، أو هو مجرد مظاهر وأوهام”. بعد مرور كلّ هذه السنوات على صدور الكتاب، وما طرأ من تحوّلات في المنطقة، هل لايزال مصطفى حجازي يؤمن بهذا التصور؟
بالمطلق نعم، إنّه تصوّر يصلحُ لكلّ زمان ومكان. لقد كان هذا القولُ يهدفُ إلى تصويب المنظور حصراً، إذ لا يمكنُ القول بتحرير وتنمية وتمكين، يقتصر على جزيرات من التّقدم في صحراء من التّخلّف. ولا نعتقدُ نهائيا بصوابية أن يكونَ التخطيط للتقدم على حساب شرائح القهر والهدر والتخلف في المجتمع، ومنهم النساء بالضّرورة.
كلّ تقدّم مجتمعي حقيقي لابد أن يطال جميع الشرائح، بشكل عام، مع تمايزات وفروقات موضوعيّة، لا شكّ أن تظلّ قائمة.
التّحرر والتقدم والتنمية الحقّة، هو مشروع وطني عام، لا مجال للترميق والتجزيء والترقيع والتنميط فيه. هذا بالضّبط ما نشاهدهُ في البلاد المُتقدّمة التي أنجزت هذا المشروع، مثل الدّول الإسكندنافية واليابانية والغربية، حيثُ تحرّرت كلّ النساء من حُكم العصبيات التي تمّ القضاء عليها وعلى الدعوات الأصوليّة الدينية التي تطمح إلى تكبيل قدراتها (المرأة).
لقد شملت النّهضة والتّمكين الرجال والنساء على قدم المساواة، وتحوّل الجميع إلى مواطنين يشكّلون القوى الإنتاجية الحيّة وكذلك المرجعية السّياسية. هذا حديثٌ آخر طويل قائم بذاته، ولكن ملخّصُ قولنا إنّه لا تنمية ولا ديمقراطية بدون تمكينٍ للنساء وتحريرهنّ من القهر والاستلاب.
- الجزء الأول: مصطفى حجازي لمرايانا: الشّباب مغيبٌ عن قصد من الشّأن العام، وأنا متوجّس من ربيع ديمقراطي آخر! 1\3
- الجزء الثاني: مصطفى حجازي لمرايانا: الشّخصية المتطرّفة تشكو من خصاص في الكفاءة العاطفية، والأصوليّة مجرّد وهم أسطوريّ! 2\3
مقالات قد تثير اهتمامك:
- خطر الثورة الرقمية…هل نُسفت قيم الديمقراطية وصار الإنسان عاريا؟ 2/1
- المرأة عند مصطفى حجازي.. عنوانُ القهر والاستلاب في المجتمعات العربية المتخلفة! 3/3
- محمد شحرور… من تحديث النص الديني إلى إنصاف المرأة ومواجهة التيارات السلفية والإخوانية! 2/3
- الرواية والمرأة وقيم الحريات الفردية والجنسية… ليلى “الخارجة عن القانون” في رواية “ملنخوليا” 1/2
- فاطمة المرنيسي… أجنحة “واقع المرأة” الذي حلقت به إلى الحلم! 2/1
- مليكة الفاسي… المرأة الوحيدة الموقعة على عريضة المطالبة بالاستقلال 2/1
- العنف الاقتصادي… الوجه الآخر لاستبداد الرجل بالمرأة!
- العنف الجنسي… الظاهرة الخفية!