الرواية والمرأة وقيم الحريات الفردية والجنسية… ليلى “الخارجة عن القانون” في رواية “ملنخوليا” 1/2
لا خلاف أنّ “مُعظم” الرّوايات المَغربية نمّطتْ دور المرأة وفاعليّتها في صورة واحدة لا تغادرُ خانةَ اعتبارها كياناً ضعيفاً وهشّاً، لا حول ولا قوة له، ورُبطتْ بالرّجل جدلياً بأنهُ هو مُعيلها وهو مصدر طعامها، لباسها، وأمنها… وهذا بالضبط ما حاولت العديدُ من الأصوات النيل منه وجعلهُ سعياً مُؤدلجاً لتقزيم دور المرأة في الأدب وتحجيمها.
في الجزء الأول من هذا الملف، نقوم برصد مقتضب لصورة المرأة بالرواية العربية، منذ كتبَ عبد الله العروي كتاب الأيديولوجيا العربية المعاصرة، حيثُ أكّد على أنّ أحد أسباب تأخر فن الرواية عربياً هو ضمور دورها.

عبر رواية “ملنخوليا، أنت أو لا وطن”، لمراد الضفري، نعاينُ نموذجاً مختلفاً للمرأة حيثُ تبدو في مكانة تكسرُ الطابوهات وتحاكي الحرية الفردية والبَوح الجنسي، بطريقة تنفلتُ من كل القيود.
لا خلاف أنّ “مُعظم” الرّوايات المَغربية نمّطتْ دور المرأة وفاعليّتها في صورة واحدة لا تغادرُ خانةَ اعتبارها كياناً ضعيفاً وهشّاً، لا حول ولا قوة له، ورُبطتْ بالرّجل جدلياً بأنهُ هو مُعيلها وهو مصدر طعامها، لباسها، وأمنها… وهذا بالضبط ما حاولت العديدُ من الأصوات النيل منه وجعلهُ سعياً مُؤدلجاً لتقزيم دور المرأة في الأدب وتحجيمها.
كان عبد الله العروي سبّاقاً، منذ كتب الأيديولوجيا العربية المعاصرة، إلى القول بأن ضمور المرأة في الرواية من بين الأسباب المجتمعية التي لم تساهم في تميز الفن الروائي عربياً. فتجربة العرب في التعبير الروائي كانت، حسب العروي، تدفعُ الروائي العربي، بما فيهم المغربي، إلى وصف الواقع الموسوم بالضعف والتخلّف. [1]
“فإذا ما قنع ذلك الأديبُ بصورة تعكسُ الواقع بلا زيادة ولا نقصان، فإنّ الصورة التي ينجزها ستحافظُ على نفس التّخلّف، مع أنّ المطلوب من الفنّ هو تجاوزهُ وتداركهُ” [2].
بهذا، يمكنُ تفسير السبب وراء اجترار الصور النمطية حول المرأة لسنوات طويلة في التجارب الروائية العربية، سواء المؤلفة من طرف نساء أو الأعمال التي تكونُ بطلتُها امرأة.
لم ينتظر عبد الله العروي طويلاً حتى بدأت تظهرُ في السّاحة الكثيرُ من الكاتبات العربيات الدّاعيات إلى تحرير النّساء، كنوال السعداوي في مصر وفاطمة المرنيسي في المغرب وزينب الأعوج في الجزائر وفاطمة أحمد إبراهيم في السودان، التقت مع أصوات رجالية أيضاً تساند قضايا نسائية كواسيني الأعرج في الجزائر ومحمد بنيس في المغرب.
قضية المرأة بقيتْ عادلة حتى انتصرت، كما يقولُ محمد بنيس: “إن ثورة المرأة انتصرت في كل مكان سلمية لا مثيل لها” [3]، وهذا النجاح يكادُ يفسّرُ اهتمام الروائيين “في رواياتهم بالمرأة وقد عبروا في صور عدة في أعمالهم أن حركة المرأة ترتبط بحركة المجتمع من جهة، ومن جهة أُخرى، تمثل دلالةً ورمزاً ثريا مُوحياً على الوطن”[4].
هذا بالضبط ما سعى الروائي المغربي مراد الضفري إلى إبرازه، عبر تسليط الضوء على شخصيات نسائية تصنعُ مصيرها، في ثنائيته الروائية “الوطن ليس هنا” وكذلك “ملنخوليا”.
ليلى وسؤالُ الذّات

منذُ الجزء الأول بعنوان “الوطن ليس هنا”، تقدَّمُ ليلى كفردٍ حرٍ، تتحدّث عن أحاسِيسها بأَريَحيَة، لا يخترقُها الطابو ولا القلق الأنطولوجي نهائياً. إنّها العَاشقة لطارق ولد الخيل أكثر منها معشوقته. إنها فاعلة وليست مفعولاً بها… إنها ذات وليست موضوعاً.
تسعى”ملنخوليا” إلى إبرَاز دور المرأة الحرّة في التّفكير، إعمالاً لمبدأ الفردانية الاجتماعية. لم يعمل الكاتب على خندقة ليلى في جو عائليّ، ولم يتحدثّ عنها كابنة أو كأخت، تم الحديثُ عنها كـ”ليلى” الوطنية والأستاذة بالمعهد الكندي… وحتى عندما تزوجتْ الطبيب جلال، فقد كان التركيز عليها كقوة، لا كامرأة خَانِعة مطيعة لزوجها. كانت ترفُض ممارسة الجنس متَى تشَاء.
بالمُقابل، ليلى لم تجد خوفاً في التعبير عن ما يُخَالجها وتجهرُ بحبّها الثّائر لطارق ولد الخيل. أعلنت استعدادها للتضحية بكلّ شيء والجري وراءهُ، كتعبير عن الوفاء والرغبة في الظفر به مهما كلفها ذلك. لقد تطلقت من جلال وعادت إلى طارق، بعد نجاته من الموت وفقدانه للذاكرة، عازمة على الهجرة بمعيته إلى كندا : ”سنهاجر إلى كندا ونبدأ حياة جديدة هناك…سنشيخ معا ونحن نرقب ابنتنا ليال وهي تكبر وتصير عروسا“.
تتحدّث عن الجِنس بحرية: “أمضينا شهر عسلٍ كمتزوجين دون زواج”، “كانت سعادتي بالغة بعودتهِ، لدرجة أني قررتُ منحهُ جسدي بدون حواجز، بدون تحفّظ”، “في اللّيلة التي وددتُ إخبارهُ بأني حاملٌ منه، سأعثرُ على دفتر مذكراته”… وغيرها من العبارات الصريحة التي تبَيّنُ أنّ ليلى “خارجة على القانون” وكذلك طارق ولد الخيل “خارجٌ عن القانون”. إنّهُما يُمارسَان الحبّ خارج إطار الزّواج.
ليلى، التي تنتمي للبورجوازية الصغيرة، لم تكن تسائلُ، بأقوالها هذه، سوى عبثية أفكار المجتمع المغربي “التقليداني” و”ظلامية” أفكاره و”رجعية” قوانينه، التي تكبحُ جُموح الحريات الجنسية وتعتبرُ الجنس خارج إطار الزواج فاحشة أو فساد… ولا غرو أنها أكثر من ذلِك مساءلة للحريات الفردية بالمغرب بلُغة مكثّفة بالأدب، بعيداً عن الاحتجاج المُباشر أو النّضال المُتعالِم.
في الجزء الثاني من هذا الملف نشاهدُ صورة ليلى المناضلة عند مراد الضفري، وتطابقها المبدئي مع شخصية زهرة لدى الروائية المغربية ليلى أبو زيد.
[1] العروي عبد الله، الأيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي.
[2] نفسه.
[3] بنيس محمد، المرأة الحرية الكتاب، مجلة موقف.
[4] بوشعير رشيد، المرأة في أدب توفيق الحكيم، الأهالي للنشر والتوزيع.
اقرأ أيضاً:
- العروي من التاريخ إلى الحب… وليلى في رواية “ملنخوليا” من الحب إلى النضال 2/2
- المؤلفات المدرسية… “أوراق” للعروي الأكثر جدلاً والسؤال هل هذه المؤلفات ذات قيمة عَمَلية؟ 1/3
- حرية التعبير في المغرب: رقابة ضد الفكر والإبداع وبرلمانيون يطالبون بمزيد من المراقبة 2/2
- بين”الخبز الحافي” و”محاولة عيش”.. أدب مغربي لم يُهادن بؤس الواقع وانتصر للمسحوقين. (1/2)
- منع الكتب: سلاح الاستبداد في محاربة التحرر