في حوار حصري مع مرايانا قبل وفاته، مصطفى حجازي: الشباب مغيب عن قصد من الشأن العام، وأنا متوجس من ربيع ديمقراطي آخر 1\3
قبل وفاته، وبالضبط سنة 2022، كانت مرايانا قد أنجزت حوارا من 3 حلقات مع الراحل. نعيد نشره اليوم تحية لفكره ولروحه.
مصطفى حجازي، واحد من أبرز الأسماء، ذات الوزن الثقيل معرفيا، في الساحة الثقافية والعلمية في المنطقة النّاطقة بالعربية.
إنّه البروفيسور… ويعتبره البعضُ، عالم النفس، الذي، كشف عورة التّخلّف الاجتماعي والنفسي، وانشغل منذُ وقت مبكّر بدراسة الإنسان المقهور والمهدور.
له كتابات رصينة كثيرة نذكر منها: “التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور”، “الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية” الشباب الخليجي والمستقبل: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، “الصحة النفسية: منظور دينامي تكاملي للنمو في البيت وفي المدرسة”، “حصار الثقافة: بين القنوات الفضائية والدعوة الأصولية”، “علم النفس والعولمة: رؤى مستقبلية في التربية والتنمية، “إطلاق طاقات الحياة: قراءات في علم النفس الإيجابي”، “الأسرة وصحتها النفسية” المقومات – الديناميات – العمليات”، “العصبيات وآفاتها: هدر الأوطان واستلاب الإنسان”…
تعدّ أبحاث مصطفى حجازي الإكلينيكية للواقع المعيش للإنسان المتخلّف، من أكثر الدراسات عمقاً وجدّة في منطقة شمال أفريقيا والشّرق الأوسط.
مرايانا تحاورُ مصطفى حجازي، حصريًّا، للوقوف على أهم تصوّراته فيما يخصّ الشباب والمرأة. حوار، يقرّبنا من البنية النفسية التي تحكمُ الإنسَان المتطرّف.
- تركيزكَ منصبّ كثيراً على الشّباب. واضح ذلك في كتاب “التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور”، وكذلك كتاب “الإنسان المهدور”، وبالتّبعةِ كتاب “الشباب الخليجي والمستقبل”… تُظْهِر دائماً هدرَ طاقات هذه الفئة من قبل الأنظمة السّياسية، وكذلك تكبيل الهويّة الأصوليّة والدّينية لشتّى طاقات التّحرر لدَيها (فئة الشباب). هل من أفق تحرّري مأمول ينتظر شباب المنطقة “العربية”؟
بكل تأكيد. أنا أقول دائماً إنّه إذا كُنا نود الخوض في تنمية مجتمعاتنا ومستقبلها، فلا بدّ من الانتباه لفئة الشباب وطرح قضاياه. الشباب هم الرّصيد الاستراتيجي للأوطان، وهم جيل الغد الذي يُعَوّلُ عليه، وكما يكون الشباب، تكون حالة الوطن؛ وعبر الشباب يمكنُ قياسُ درجة تعافيه.
لا ننسى أنّ الشباب كفئة عمرية نفس-اجتماعية، هي ظاهرة حديثة. بذلك، لا مفرّ من إفراز فرع خاصٍّ لها في بوتقة الدّراسات النّفس-اجتماعية أساساً. ولا نغفلُ أننا بصدد جيل أمسى فائق الوعي بقضاياه وقضايا مجتمعه بفضل انتشار وسائط التّواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام عموماً.
الغريبُ أنّ هذا الشبابَ، عينهُ، في حالة تأخّر متزايد للولوج إلى الأهلية الاجتماعية الكاملة. هذا الشباب عاجزٌ اليوم عن الوصول إلى مهنة منتظمة أو إلى تكوين حياة زوجية، بل منفصلٌ عن أيّ شراكة كاملة في الشّأن العام.
تلك، بالذّات، إحدى معضلات الشّباب في المنطقة “العربية”، حيثُ يتعرّضُ الشّباب لتهميش متزايد، في وقت يُنتظرُ منهُ، بداهةً، أن يُمثّل عماد النّشاط الإنتاجي والتّنمية.
في الغرب والبلاد المتقدّمة، يُقْتَلُ الأبُ رمزيًّا. ببساطة، ما يعنيه ذلك أنّه في لحظة إزاحة الأب، يتمّ تجاوزه والانطلاق تلقائيًّا في آفاق المُستقبل.
دعنا نعودُ إلى مجتمعاتنا، لنرى ما الذي يحدثُ. إننا نغدو بصدد عملية قتل الآباء للأبناء، أي عكس ما يحدثُ في البلدان المتقدّمة. يقتلُ الآباء أبناءهم إمّا من خلال تحويلهم إلى مجرّد أدوات لتأزيل سلطة الآباء، أو بتهميشهم. بالتّالي، تدخلُ مجتمعاتنا في التاريخ الدّائري المُكرّر لذاته، عن طريق تسلّط الكبار واستحواذهم على المناصب والمُقدّرات. ذلك هو التاريخ الآمن، الذي يجدُ في المرجعية الماضوية غاية المعنى، وهو، بالضّرورة، ما يُعطّلُ قدرة الحياة على تجاوز ذاتها باستمرار من خلال شبابها، وتعطّل إمكانية إطلاق طاقات الشباب الحيّة وتوظيفها في النماء والبناء.
هذا التحليل ينطبقُ كذلك على الحركات الأصولية الباحثة عن استعادة “الفردوس المفقود”، فردوس السّلف الصالح. ولننتبه إلى كونه فردوساً متخيّلاً أكثر منه واقعاً. يتحالفُ الكبار مع الأصُوليات والطّائفية لقمع طاقات الشّباب الحية ووضع اليد عليها، ومُحاولة تسخِيرهم كوقُودٍ للعنف وجعلهم في خدمة أغراض لا دخل لهم فيها…
- ما المطلُوب، إذن، من شَباب أنهكتهُ الحربُ والطّائفية والدّيكتاتورية والتّهميش والإقصَاء ويكاد يغدو لقمة سائغة للهويات الأصوليّة؟
الحقيقة أنّ هناكَ أملاً اليوم، فكلّ من العولمة وانفجار الانفتاح ووسائط المعلومات والاتصال، كما قلتُ قبل قليل، هما بصدد كسرِ العزلة والحصار المفروض من الكبار والآباء على الأبناء. لا نشكّ إطلاقاً في كون الجيل الطّالع، مرجعيّته عالميّة ومنفتحة ومستقبليّة. هذا يبشّر بانعتاق هذا الجيل من قيود المرجعية الماضوية. لنا في تجلّيات الربيع الديمقراطيّ أنموذجاً، رغم ما عرفته تلك الانتفاضات من انتكاسات وخيبات بالجُملة.
في تقديري، المهمّ أن يتمسّك الشّبابُ بالتّفكير الإيجابيّ والتفاؤل والإيمان بطاقاته الحيّة. عندها، تتهيّأ الفرصة السانحة لصناعة الدّور والمكانة، وعندها يبدأ التّحول الذي يمكنُ أن يفاجئ الجميع. الحياةُ بطبيعتها تجدّد ذاتها وتخضعُ لمبدأ النّماء، ولو تعثّرت أحياناً. على الشّباب أن يؤمن بأنّ المستقبل له وهو بالضّرورة صانعه!
- ما يثير اليوم، أنّ هذا الشباب بالذات بات ضدّ قيم التحرر والذهاب نحو نموذج الدولة المدنية، وأصبح يعتنقُ أفكاراً ضد القوى الوطنية ذات الطموح المدني. ما هي السياقات الذّهنية الخفية التي يمكنُ أن تكون أدّت بالإنسَان المقهُور إلى رفض العَلمانية والفَردانية والحرية إلى هذا الحدّ؟
الحقّ أنّ مجتمعاتنا، وجزء مهم من شبابها تحديداً، تمرّ بمرحلة ردّة ناتجة عن تراكم خيبات الأمل والجروح النّرجسية الكثيرة، التي أصابت جيل الشّباب على وجه الدّقة. وهو ما يتمظهرُ من خلال الانكسارات والهزائم المتتالية. لنأخذ مثلاً هزيمة فقدان فلسطين، أو هزيمة حرب حزيران 1967، أو انهيار المشاريع القومية الوطنية التحررية، وكذلك هزائم الأنظمة الاستبدادية الفادحة في العديد من الدّول “العربية”، إلخ. لقد فقد الشّبابُ إيمانهُ بكلّ هذه المرجعيات، مع انكفاءٍ إلى الأصولية التي تريدُ له الخلاص، مضافاً إلى الكفر بالمرجعيات الغربية، التي استوردناها بشكلها السّطحيّ الشعاراتيّ، بدون أن نفكّر في إحداث النقلة النوعيّة التي حدثت في الغرب عينه، وفي الدّول المتقدّمة عموماً.
إلاّ أنّ المرجعيات الأصولية، وعيشها في أسطورة أمجاد الماضي، هي بدورها مأزقيّة، ولا تستطيع على الإطلاق أن تبني مستقبلاً وتنميه اليوم. سوفَ تكونُ الأصولية، بالقَطع، مجرّد مرحلة عابرة بدأت تتهاوى، ولا مستقبل لها في عصر تاريخ الانفتاح والتّحوّلات كونيًّا. نحنُ بصدد حتمية تكنولوجية رقمية آخذةٌ في تغيير وجه الحياة وملامحها على سطح الكوكب كليًّا. ستشكّلُ نوعاً من الوعي التغييري الذي سينتزعُ الشباب من قبضة التيارات الأصوليّة.
إنني متوجّس من ربيع آخر قادم، ولو اختلفت السناريوهات، فإذا لم تكن المبادرة من الكبار، المسؤولين عن الوضع، فإنّها ستُفرَضُ عليهم فرضاً. بكلّ تأكيد، سيكون الشّباب هم أبطالها… ولو بعد حين. فقط على الشّباب أن يعي أنّه حان وقتُ إعداد ذاته، وأن يتمسّك بإيمانه بقدراته، ويجابه لأجل كتابة مستقبله بيديه. لذلك، عليه أن يؤطّر تحركاته بلا شك.
وإذا كان البعضُ من هذا الشباب ينتقل تلقائيا للأصوليّة والتطرف، ما رأي حجازي في الإرهاب؟ وكيف يمكنُ دراسة الشّخصية المتطرّفة؟
هذا ما سيجيبنا عنه حجازي في الجزء الثاني من هذا الحوار.
- الجزء الثاني: مصطفى حجازي لمرايانا: الشّخصية المتطرّفة تشكو من خصاص في الكفاءة العاطفية، والأصوليّة مجرّد وهم أسطوريّ! 2\3
- الجزء الثالث: مصطفى حجازي لمرايانا: هناك تخوف على الإنسان المقهور من الرّقمية، ولا تنمية بدون تمكين النساء 3\3
مقالات قد تثير اهتمامك:
- “الإنسان المهدور” عند مصطفى حجازي: هدر الفكر والثّروة وطاقات الشّباب 1/3
- محمد شحرور… المفكر الإسلامي الذي نظر للقرآن بعيون القرن الحادي والعشرين! 1/3
- محمد رشيد رضا… مُجهضُ النّهضة الإسلامية والمنقلب على التيار الإصلاحي 1\3
- نبيل فازيو لمرايانا: الأنظمة تغتال الفكر النقدي والدعوة إلى تجفيف منابع الإرهاب النصية مجرد سحابة صيف عابرة… 1\3
- من اليمن، حسين الوادعي يكتب: كيف تدهور “وعي التخلف” عند العرب؟
- لماذا تقدمت اليابان وتخلّف المغرب؟ 3/1
- مالك بن نبي… “فقيه الحضارة”
- المجتمع بين المحافظة والحداثة: لماذا فشلت محاولات التنوير وصمدت الإيدلوجيا الدينية؟!