ماذا حين نصادف أناسا بأعمار أبائنا زملاء لنا في الجامعة؟ - Marayana - مرايانا
×
×

ماذا حين نصادف أناسا بأعمار أبائنا زملاء لنا في الجامعة؟

عندما ندخل مدرجات الجامعات المغربية، لا بد أن نعثر على الأقل على شخص، إن لم يكن أكثر، من جيل آخر يتشارك همّ التعلّم مع الجيل الحاليّ: جيل التسعينات والألفية. في الغالب، يكون الشخص بين الأربعينات والخمسينات وحتى الستينات من العمر، لكنه لم يتحرّج في استكمال رغبة التكوين الجامعيّ، بما أن التعليم حقّ كونيّ لا سنّ له من الناحية المبدئية.

قد تصادف هؤلاء الطّلبة في ممرات الكلية فتعتقد أنهم أساتذة، وقد يحدث أن تظن، وهم يلجون المدرج، أنك ستتلقى الدرس على أيديهم؛ لكنهم يجلسون كأي طالب آخر. يؤمنون أنّ الجامعة تذوّب أوهام العُمر الذي يحدد مسار حياة كلّ منا… فما هي حكايتهم؟ وكيف ينظرون لأنفسهم في مرآة الجامعة؟ وهل يستطيعون استدماج مقولات “صراع الأجيال” على نحو إيجابيّ يتيح لهم التواصل مع الجيل الحالي؟

يوسف: لا حدّ للتعلّم

يوسف، خمسينيّ يتابع دراسته الجامعية بالسّنة الثالثة بسلك الإجازة، شعبة الدّراسات العربية، يقول إنه غادر الدراسة منذ كان عمره عشرين سنة، قبل أن يقرر استئنافها بسبب تلك الرغبة التي ظلت تلازمه دوما بأن شيئًا ما في حياته لم يكتمل.

يوضح يوسف: حين عدت لأوّل مرة، كان الشّعور غريبا. تفصلني عن مدرجات الجامعة أكثر من ثلاثين سنة. صرتُ بمثابة أجنبي، أو الجامعة ربما هي التي أصبحت غريبة عني. لا شيء يفلح في إحياء ذاكرتي، وجدت أن كلّ شيء تغيّر.

يوسف أثناء مشاركة تجربته مع مرايانا يركز على نقطة تبدو له محورية؛ بتحدث عنها: حين ألج الدّرس أو ألاحظ سلوكيات الطّلبة التي تبدو لشخص من جيلي شاردة أو شاذة، أتعامل معها بالصمت والملاحظة. لا أسعى إلى فرض الوصاية على أحد أو ادعاء امتلاك فائض من التجربة يمكن اعتباره نموذجا لهذا الجيل. هم متعلمون ويعرفون ما يصنعون وما أملاه عليهم عصرهم. أعرف أن هذا العصر لا يشبهني، ولكلّ زمان جيله.

يسترسل يوسف مفصّلاً: هذا الجيل ديناميّ، وهذا طبيعي بالنظر إلى سنّه، وأنا أحاول أن أحوّل هذا البعد العمريّ إلى عامل تبادل للخبرة. أشتغل في العروض مع طلبة في عمر أبنائي، وكانوا يبدون احتراما لآرائي. كنت أرفض ذلك. أطلب أن يعاملُونني كطالب ولا يُشعِرونني بأنني شخص أكثر معرفة منهم. الحقيقة أني أشعر أن لا معرفة لي. يبدو دائما أنهم أكثر معرفة مني.

يسترسل يوسف قائلاً: لو كنت عارفاً كما يظنّون ما عدتُ لأستكمل مشوارا أكاديميا حاسبني البعض عليه، منهم زوجتي التي تستهجن ذهابي للكليّة. أشرح لها أنه في سني، هناك من يذهب لدروس محو الأميّة، إلا أنّها لا تتعظ.

“الطلبة يتسمون بقوة الذاكرة، وهذا شيء صعب بالنسبة لرجل مثلي لديه التزامات أخرى غير الدراسة: تجارية وحياتية وعائلية، إلخ. الهمّ لديّ أكبر بالمقارنة معهم، لذلك أحرص على ألاّ يصبح هذا نقطة ضعف، بل نقطة قوة للإصرار على التمسك بعزيمة التعلم، الذي لا حدّ له”، يقول يوسف.

ثمّ يتابع: العودة إلى الدراسة قرار دافعتُ عنه وتمسكتُ به. الأجواء الطلابية لا تناسب شخصا في سني، لذلك أقتصر على المطالعة في المكتبة وحضور الدّروس ولا أشارك في الأنشطة الموازية. الأساتذة يعرفُون أنّني جاد، وأنني أعيش، ربما، رحلة استكشاف “متأخرة”، لكنهم يحبون ذلك ويقدرونه. وهذا خول لي تكوين صداقات رائعة مع أساتذتي بالجامعة من داخل التخصّص وخارجه.

لطيفة: الجامعة بمثابة بيتي

رغم أنها مدرّسة وتبلغ من العمر 47 سنة، إلاّ أنّ لطيفة تتابعُ دراستها في سلك الماستر بجامعة القاضي عياض بمراكش. تتحدث إلينا باعتزاز: أذهب إلى الجامعة بمتعة لا توصف. أعتبر الكلية بيتي وزملائي بالماستر عائلتي. أنا أكبرهم سنًّا وبعضهم يذكرونني بفترة شبابي حين كنت أدرس الإجازة بكلية ظهر المهراز بفاس.

تجد لطيفة أنّ “هناك تغييرات كثيرة. لم تعد طرق الدراسة كما كانت، ونحن من علينا التأقلم مع هذه التحولات التقنية التي تحدث في مجال التعليم. الرقمنة سهلت التّواصل بيننا وبين أساتذتنا. كلما دخلت للدرس أتذكر الدراسة في زمني. فرق كبير، لكن هاجس التّحصيل واحد”.

لطيفة تقُول أيضًا: التعامل مع الزملاء يتم بشكل عادي. لا أشعر نهائيا أن ثمّة فوارق بيننا. أنا أستاذة فعلاً، لكن أستفيد منهم ويستفيدون مني. ليس هناك أحد أفضل من الآخر، لكنهم في المجال التقني يتفوقون عليّ بشكل رهيب. أنا لازلت حبيسة الأشكال التقليدية في التعليم. ولا أخفي أنني استفدت منهم في كثير من الأمور التي صرت أتعامل بها مع تلامذتي في الثانوي التأهيلي.

كما تفيد: لا يمكن لأحد من الأجيال القديمة أن ينكر أنه يتعلم أشياء عملية من جيل التّسعينات وما بعده. العودة إلى الجامعة علمتني التواضع الحقيقيّ وليس الزائف… فنحن جميعا نصبح بكل اختلافاتنا العمرية، لا نعرف شيئا، وجئنا لنتعلم.

تقول لطيفة أيضا: “أتصور أنّ الصّراع بين الأجيال موجود في كلّ المجالات وليس الجامعة فحسب بين الزّملاء، وأصلا نادراً ما تجد أشخاصا كبارا في السن بالجامعة. هم موجودون لكن أغلبهم ينعزل. حتى بعض الأساتذة يرددون الصور النمطية، حيثُ يخاطبون زملائي: “أنتم جيل لم تعيشوا زمننا. كانت الحياة أصعب حينها”.

وتوضح قائلة: “حتى لو كان هذا صحيحا، فلا أفهم سياقات مثل هذه الأفكار. هذا الجيل له حسناته وسيئاته كما لجيلنا عثراته وإنجازاته. لا يمكن أن نحكم على جيل بالفشل بالنظر إلى عمره أو إلى نوعية العصر الذي جاء فيه مدفوعا بالرقمنة ومواقع التواصل الاجتماعي التي سهلت الحياة لديه”.

حفيظ: الجامعة غيّرتني

حفيظ من مدينة الرباط، رجل يبلغ من العمر 61 سنة، يتابعُ دراسته في علم النفس بكلية الآداب باب الرواح. يحبّ أن يدردش… لذلك يقول: أعتبرني أخوض الآن تجربة مختلفة. مللتُ الجلوس بالبيت، فلم أجد أفضل من التعلم. انخرطت قبل سنوات في الباكالوريا الحرة وحصلت عليها، وولجت الكلية.

يتابع جفيظ: الآن سأقول إنني لم أعد أخاف الموت، لأن الجامعة في هذا العمر غيّرت نظرتي للحياة إجمالاً. آتي للدراسة بمتعة وأشتاق للدّروس. أعاني من مشاكل صحية تجعلني أتغيب عن بعض الدروس لكني أحرص أن أتواصل مع زملائي. هذه التجربة ليست ترفا، بل هي تنفيذ لجملة من الأفكار التي كانت تجول في رأسي حين توقّفت عن العمل قبل سنوات قليلة.

حفيظ لا يخفي أنه يواجه صعوبات كبيرة في عملية التكوين الجامعيّ، لكنه لا يجد حرجا في اللجوء إلى أساتذته وزملائه الذين تفصله عنهم عقود من الزمن. يقول بامتنان: معظم الأساتذة يشجعونني لكي لا أصاب بالضّجر وأفقد هذه الرغبة، وأنا أقدر فيهم أيضًا هذا النبل، مع أنني غير مستعد للتوقف هنا. الدراسة خلقت لديّ أملاً جديدا في الرؤية فقط، يعني لن أحاول مثلا أن أشتغل بشهادة الإجازة التي سأحصل عليها، لكنني أعيش ملحمة شخصية للتفوق على التّعب النفسي والجسدي.

“أعيش حياة مجتمعية طريفة منذ العودة للدراسة، فأحد الجيران يهنئني بشكل دوريّ وأنا متجه للكلية. إحدى صديقات زوجتي قالت لها إنها تضرب بي المثل لدفع أبنائها إلى الذهاب للكلية عوض الغيابات: أنظروا إلى عمكم حفيظ يواظب رغم كبر سنه للدراسة وأنتم لا تستوعبون قيمتها”، يقول المتحدث.

يستطرد حفيظ: هي مشاهد جميلة أعيشها وأفتخر بها وتحفزني أكثر وتمنحني مشاعر خاصة من الحبّ والعناية من أهلي وجيراني ومعارفي؛ خصوصا أنني أحصل على نقط جيدة، ولا تتم دعوتي للدّورة الاستدراكيّة إلاّ نادراً. أحصل على نفس نقط أشخاص من الجيل الحالي ويتفوقون عليّ في مواد أخرى. نحن جميعا سواسية في معايير التنقيط”.

برشاقة في اللفظ والمعنى، يجمل حفيظ قائلاً: حين أكون عائدا من الكليّة، أقوم بتوصيل بعض زملائي معي في بعض الأحيان. هم في العشرينيات من عمرهم. يجدونني قديما أستمع لعبد الحليم حافظ وأم كلثوم وعبد الهادي بلخياط وآخرون. أستسمح منهم دائما لذلك، لكنهم يعبّرون أحيانا أن زمننا أجمل. ربما هو فضول لديهم فقط. كل الأجيال تحبّ الحكايات القديمة؛ لكنني أعتبرهم جيلاً أكثر حظّا منا، وعليه فقط أن يحسن استخدام ما لديه من ثروة فكرية وعلمية وتقنية جاهزة.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *