السيرة النبوية سيرة شعبية أسطورية وإيديولوجية. الحلقة الثانية: السيرة النبوية سيرة يمنية وإيديولوجية
الأبعاد الأيديولوجية في السيرة (صراع القيسية واليمانية، صراع الوثنية والتوحيد، تنافس الإسلام مع المسيحية حول عرش الدين التوحيدي) تحتاج الى تحليلات أخرى لتحليل الخطاب الأيديولوجي للسيرة في إطار اللحظة التاريخية كتابة السيرة.
فما دونته السيرة ليس بالضرورة حقيقة بطل السيرة، وانما ضرورات وضغوطات اللحظة التاريخية السياسية للتدوين.
أول من دون السيرة النبوية هو ابن اسحاق ومن بعده ابن هشام الذي اختصرها وهذبها. غير أن عدم وجود نسخة مكتوبة لسيرة ابن إسحاق تجعلنا نعتقد انها ظلت سيرة سائلة وحائرة بين الشكلين الشفهي والكتابي.
إن أحد الجوانب التي لم ينتبه لها كثير من دارسي السيرة المحمدية، أنها تبدأ بسرد تاريخ ملوك اليمن سردا مفصلا واصفة التحولات التي حدثت في الحضارة اليمنية في الفترة الأخيرة من تاريخها في أكثر من مائة صفحة.
هذا التمهيد التاريخي الطويل فسره نصر حامد أبو زيد بسعي السيرة لتأكيد عروبة الرسول، وهذا صحيح. لكن هناك بعدا سياسيا آخر متعلقا بالصراع السياسي داخل الإمبراطورية الإسلامية بين اليمانية والقرشية.
الحضور اليمني في السيرة ليس فقط في المقدمة التاريخية الطويلة لأخبار الملوك اليمنيين قبل البعثة، بل حتى ما بعد ذلك من أحداث تدونها السيرة حول تاريخ مكة، حيث نجد أن الحضور اليمني هو الطاغي؛ فتاريخ مكة كما تقدمه السيرة النبوية لابن هشام هو تاريخ صراع القبيلتين اليمنيتين جرهم وخزاعة، للسيطرة على الحج وموارده. ولن تنتقل السيطرة من اليمنيين الى القرشيين إلا مع قصي بن كلاب ، الجد الأعلى للرسول.
ونجد الحضور اليمني أيضا في تاريخ الأوس والخزرج، القبيلتان اليمنيتان اللتان لعبتا الدور الأكبر في نصرة مشروع دعوة ودولة محمد.
رغم أن مدون السيرة الأول هو ابن إسحاق، إلا أن ما بين أيدينا اليوم هو في الحقيقة ما أبقاه ابن هشام من السيرة الضخمة. ابن هشام يمني ومن رموز “الانتلجنسيا” اليمنية الذين خاضوا الصراع ضد تهميش قريش لليمنيين في تولي المناصب السياسية والنصيب من الغنائم، رغم دورهم البارز في تأسيس الدولة الإسلامية. صراع اليمنيين ضد هيمنة قريش عرف باسم صراع القيسية واليمانية، وكان القرشيون فيه يبررون هيمنتهم بقربهم من الرسول كونهم أبناء قبيلته؛ فكان الرد اليمني بجانب آخر يمكن أن يكون له نفس قيمة الافتخار بالقرب من الرسول، وهو كونهم أبناء حضارة قديمة كانت لها إنجازاتها في العمران والعلم والزراعة والتجارة و”الفتوحات”.
نشط “المثقفون” اليمنيون في تأليف الكتب التي تتغنى بملوكهم وحضارتهم القديمة، حيث يعيدون صياغة تاريخ العرب كله من وجهة النظر اليمنية. في هذا السياق، نفهم سبب افتتاح السيرة بأخبار فتوحات وبطولات الملوك واليمنيين.
هناك سبب آخر للمقدمة الطويلة في السيرة حول ملوك اليمن، رغم عدم وجود علاقة مباشرة مع سيرة الرسول، وهو السبب الأيديولوجي الديني؛ فانتقال الملك والسلطة من اليمن إلى قريش تأكيد تاريخي، من إحدى النواحي، على التفوق اليمني تاريخيا، ومن ناحية أخرى إشارة دينية إلى انتقال الملك عقابا لملوك اليمنيين على معاصيهم واضطهادهم الديني الذي مارسه بعض ملوكهم ضد “المؤمنين”.
تقول المصادر التاريخية أن ابن سحاق كتب السيرة في ثلاثة أجزاء ضخمة:
الأول بعنوان المبتدأ وهو: تاريخ العصر الجاهلي منذ الخليقة حتى البعثة.
والثاني بعنوان المبعث: وهو تاريخ النبي حتى السنة الأولى للهجرة،
والثالث عن المغازي: وهي غزوات الرسول حتى وفاته.
إن المتأمل للسيرة في نسخة ابن هشام، يرى أنه قام بعملية حذف وتركيب متقن لتحقيق أهداف أيديولوجية واضحة. فمن الجزء الأول حول تاريخ العالم منذ الخليقة حتى البعثة، لم يختر إلا تاريخ الممالك اليمنية من ناحية، وتاريخ النبي إسماعيل وأبناءه من ناحية أخرى.
وسبب اختيار تاريخ ملوك اليمن دون غيرهم، هو انخراط نشط في جدالات القرشية واليمانية ومن هو الأحق بالسلطة: أقارب الرسول وقبيلته، أم أبناء أعظم حضارة في جنوب الجزيرة.
أما إهمال تاريخ كل أنبياء اليهودية والمسيحية والتركيز فقط على النبي إسماعيل وما بعده، فهو تأكيد، كما يرى أبو زيد، لعروبة الدين وعروبة الرسالة على الاعتبار الشائع القائل أن إسماعيل أبو العرب. ولم يكن تأكيد عروبة النبي والرسالة بعيدا عن معارك العرب والشعوبية، ذلك الصراع الذي دخل في كل جوانب الفكر الديني؛ حتى أن الشافعي وصل به الى مداه في اشتراط قراءة القرآن في الصلاة بالعربية فقط، حتى من قبل المسلمين غير العرب.
كون ابن اسحاق لم يكن منخرطا بشكل مباشر، على ما يبدو، في صراعات عصره السياسية، فإنه أدخل حكايات الملوك والممالك في السيرة المحمدية تبعا لتقليد السير الشعبية في حشد كل ما هو غريب ومثير، مراعاة لجانب التشويق، خاصة وأن التاريخ القرشي فقير في مثل هذه الأحداث. وكانت الاستعانة بالتاريخ الأسطوري أقرب وسيلة من وسائل جعل السيرة النبوية سيرة شعبية مسلية.
يلفت أبو زيد نظرنا إلى أن التاريخ اليمني المذكور في السيرة هو تاريخ يركز على الصراع الذي دار بين اليهودية والنصرانية في العقود الاخيرة من تاريخ الدول اليمنية القديمة، وهو مرتبط أيضا بالجانب الايديولوجي الديني للسيرة باعتبارها سيرة انتقال البشرية من الوثنية الى التوحيد.
اليمنيون تركوا الوثنية واعتنقوا اليهودية (وثنية ضد اليهودية)، لكن اليهود اضطهدوا المسيحيين في نجران (يهودية ضد نصرانية)، ثم ينتقل السرد الى كهنة النصارى الذين بشروا بمحمد أو حاولوا إخفاء البشارات (نصرانية ضد إسلام).
كاتب (أو كتاب السيرة) كانوا واعين بالهدف الأيديولوجي-الأخلاقي لها. فالأحداث التي تبدو عشوائية على السطح وتغطي ساحة جغرافية مترامية وممالك متعددة (اليمن، فارس، بيزنطة) تصب كلها في تأكيد فكرة التحول الطويل للبشرية من الوثنية الى التوحيد.
فمملكة اليمن العظيمة سقطت، من وجهة نظر السيرة، بسبب انحرافها من توحيد ملوكها العظام كأسعد الكامل الى الملوك المضطهدين للمسيحيين (ذو نواس) ثم وقوعها تحت سيطرة الفرس. ومكة ستنحرف من التوحيد الى الوثنية على يد الحاكم اليمني عمرو بن لحي الذي سيدخل عبادة الأصنام، حتى يستعيدها ويعيدها إلى التوحيد قصي بن كلاب، الجد الأعلى للرسول الذي سيبني سلطة قريش على المستوى التجاري والديني. تأسيس بداية عودة التوحيد لمكة على يد قصي، ليس بعيدا عن معركة أيديولوجية أخرى هي معركة “الحزب الهاشمي” كما عبر عنها سيد القمني وشرحها.
النقلات الايديولوجية الماهرة تكتمل بظهور أصوات الرهبان المسيحيين المتنبئين بنبوة محمد كدليل على أن موعد الانتقال لم يعد فقط الانتقال من الوثنية الى التوحيد، بل أيضا الانتقال من أديان التوحيد السابقة الى الدين الخاتم دين الإسلام.
قامت السيرة النبوية، أيضا، على ثنائية الشر والخير، أو البطل الخير والعدو الشرير. عندما تتحدث عن ملوك اليمن، هناك ملك الأخيار وهناك ملك الأشرار الذين حاربوا التوحيد واضطهدوا المؤمنين الذين كانوا يعلمون بحقيقة الإله الواحد قبل الإسلام. وعندما تنتقل السيرة من تاريخ اليمن إلى تاريخ مكة، هناك أيضا الأبطال الخيرون مثل قصي والأشرار مثل عمرو بن لحي، وهناك من الكهنة والعرافين الصادقين الذين يقرون بنبوة محمد في مقابل الأشرار الذين يحاولون إخفاءها.
السيرة النبوية لا تعتمد على التسلسل التاريخي للأحداث دائما، بل تعتمد على أسلوب القصص الصغيرة داخل القصص الكبرى التي تتفرع عنها بطريقة شبيهة أحيانا بطريقة القص في ألف ليلة وليلة، حيث إن الحكاية تؤدي إلى حكاية الفرعية، والحكاية الفرعية تؤدي إلى حكاية أخرى، ثم بعد ذلك يتم العودة إلى الحكاية الرئيسية. لكنها لا تفقد هدفها الأيديولوجي- الأخلاقي وسط هذا التنوع السردي.
هذه الأبعاد الأيديولوجية في السيرة (صراع القيسية واليمانية، صراع الوثنية والتوحيد، تنافس الإسلام مع المسيحية حول عرش الدين التوحيدي) تحتاج الى تحليلات أخرى لتحليل الخطاب الأيديولوجي للسيرة في إطار اللحظة التاريخية كتابة السيرة.
فما دونته السيرة ليس بالضرورة حقيقة بطل السيرة، وإنما ضرورات وضغوطات اللحظة التاريخية السياسية للتدوين.
لقراءة الجزء الأول: السيرة النبوية سيرة شعبية أسطورية وإيديولوجية: الحلقة الأولى: النبي بطلا شعبيا
قد يهمك:
- علي اليوسفي: مخاض ولادة دولة الرسول – الجزء 1: صحيفة المدينة
- علي اليوسفي: مخاض ولادة دولة الرسول – الجزء 2: أسس قيام دولة الرسول
- Marayana TV: علي اليوسفي علوي: الجذور التاريخية لدولة الإسلام – الحلقة1: في البدء كانت قريش
- علي عبد الرازق… الأزهري الذي جلد نظام الخلافة وكشف حقيقته في التاريخ الإسلامي
- في مكة والجاهلية والحج: قصي بن كلاب يؤسس المدنس على المقدس
*سيرة نبوية “جديدة”.*
صدرت قبل ايام سيرة نبوية جديدة : “سيرة موسى بن عقبة” المتوفى سنة 141 ه بالمدينة المنورة.
أقدم كتاب سيري صحيح النّسبة يظهر بعد ثلاثة عشر قرناً.
وهو بذلك اقدم من “سيرة ابن اسحاق” ومن “مغازي معمر ابن راشد”.
وكانت مخطوطاته قد فقدت ولم يتبقى منه إلا اقتباسات و روايات متفرقة في بطون كتب أخرى اجتهد بعض المعاصرين في محاولة تتبعها لجمعها وإظهارها بشكل متكامل.
طبع الكتاب تحت عنوان : *”مغازي سيدنا محمد”*. من إصدار “الهيئة العامة للعناية بالقرآن الكريم والسنة النبوية” في دولة الكويت.
ويقع في ثلاثة أجزاء/مجلدات.
وقد نشر في المغرب و الكويت فقط حتى الآن.
و يحظى موسى ابن عقبة وكتابه المغازي بتقدير كبير من العلماء، وبلغ لديهم مبلغاً كبيراً من الثقة والصدق والأمانة
وممن أثنوا عليه: الإمام مالك بن أنس حيث كان يقول: “عليكم بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي عندنا”، وفي رواية: “عليكم بمغازي موسى بن عقبة فإنه ثقة”.
وقال عنه الإمام الشافعي: “ليس في المغازي أصح من كتابه مع صغره، وخلوه من أكثر ما يذكر في كتب غيره”.
وحدث عنه الإمام سفيان بن عيينة فقال: “إنما كنت أجيء إلى المدينة من أجل موسى بن عقبة، فلما مات تركت المدينة”.
وقال الإمام الذهبي عنه: “كان ثقة ثبتاً كثير الحديث”.
وذكر الإمام النووي أن العلماء “اتفقوا على توثيقه.
وروى له البخاري ومسلم وقال عنه : “ثقة ثبت من صغار التابعين” .
وقال الإمام ابن حجر العسقلاني عنه: “ثقة فقيه إمام في المغازي”.
ا أنتم تتحدثون عن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأتمنى أن تشملوا أيضاً سيرة النبي موسى عليه السلام، بما في ذلك التوراة وما يرتبط بها من ثورات. هل يمكنكم التحدث عن التلمود؟ وهل يقتصر تركيزكم على الإسلام فقط، أم أنكم تناقشون أيضاً موضوعات تتعلق باليهودية والتوراة والتشكيك فيهما؟