علي اليوسفي: مخاض ولادة دولة الرسول – الجزء 2: أسس قيام دولة الرسول - Marayana - مرايانا
×
×

علي اليوسفي: مخاض ولادة دولة الرسول – الجزء 2: أسس قيام دولة الرسول

على الرغم من أنه لم يكن له بعد جيش نظامي، فإنه ما كان يعلن عن وشك غزوة حتى يقترح عليه زعماء قبائل المدينة محاربين يختار أحسنهم. وإذا لم يكن بعد قد شكل شرطة، فإن من المسلمين من كان يتطوع لإسكات الأصوات الفردية المعارضة له أو الساخرة منه هنا وهناك. وإذا لم يكن بعد قد شكل حكومة، فإنه كان دائما محاطا بمستشاريْه أبي بكر وعمر، ولم يكن يتخذ أي قرار إلا بموافقة زعماء القبائل وكل من كان له نصيب من سلطة في قومه. وإذا كان القانون لم يتشكل بعد في صيغة مركزة، فإن القرآن كان يتنزل على الرسول كلما استعصى عليه أمر، أو رفع إليه المسلمون تساؤلاتهم، ولا غرابة في أن تكون معظم الآيات التشريعية قد نزلت بالمدينة.
باختصار، لقد كرست الأحداث محمدا بن عبد الله رسولا وحكما وقائدا سياسيا وحربيا على رأس دولة/ أمة مكونة من قبائل مختلفة توحدها العقيدة والغنيمة وتتركز السلطة فيها في شخص الرسول الذي يقودها باسم الله.

علي اليوسفي ALI EL YOUSFI ALAOUI
علي اليوسفي العلوي، أستاذ مبرز باحث في تاريخ الفكر السياسي في بلاد الإسلام

هل كان الرسول يسعى إلى إقامة دولة؟

لا شيء في القرآن ولا في السيرة، سواء في شقها المتعلق بمكة أو في ذلك المتعلق بوصوله إلى المدينة، أو حتى عند صياغته الصحيفة، يدل على ذلك أو يوحي به البتة؛ إذ أن الصحيفة قد كرست محمدا بن عبد الله حكما ورسولا لله لا أكثر. ومع ذلك، فإن مجريات الأحداث ستقود الرسول تدريجيا إلى مواجهة مجموعات من التحديات على المستويين الداخلي والخارجي، وذلك ما سيقوده إلى وضع اللبنات الأولى للدولة الإسلامية.

على المستوى الداخلي (المدينة)، كان يتعين على الرسول، من جهة، أن يدبر شؤون عيشه وعيش المهاجرين، إذ لم يكن بإمكانهم أن يظلوا عالة على الأنصار إلى ما لا نهاية، خاصة وأن معظم هؤلاء أيضا لم يكونوا ميسورين. من جهة ثانية، فإنه لم يكن مطمئنا أبدا إلى القبائل اليهودية الثلاثة الكبرى بالمدينة: بنو قينقاع، وبنو النضير وبنو قريظة، التي، على الرغم من مختلف محاولاته التقرب منها، كانت ترى فيه منافسا قويا ومهددا لمصالحها، فتقابله بالمناورة أحيانا، وبالازدراء أحيانا، وبالتحدي أحيانا أخرى، وهو ما كان يهدد بتقويض وحدة المدينة الفتية، خاصة أن بعض هذه القبائل كان حليفا للأوس وبعضها للخزرج. أما على المستوى الخارجي، فإن الرسول كان يتوجس من الأرستقراطية القريشية بمكة، التي لن تتركه يشكل قوة اقتصادية واجتماعية موحدة بالمدينة، على الطريق التجاري الرابط بين مكة والإمبراطورية البيزنطية شمالا (رحلة الصيف).

كان على الرسول إذن أن يتصرف بحكمة ودهاء سياسي محسوب العواقب، وأن يحدد أولوياته بدقة. لذلك، سيبدأ بالبحث عن مورد عيش، وفي نفس الوقت عن رص الصفوف الداخلية. وبما أنه لم تكن له ولا للمهاجرين أرض يحرثونها، ولا قطعان مواش ولا رؤوس أموال للتجارة، – وتلك كانت مصادر عيش المدينيين آنذاك- فإن الاختيار الوحيد الذي بقي أمامه هو غزو قبائل خارجية أو اعتراض طريق القوافل التجارية وسلب بضائعها ودوابها، وإن اقتضى الأمر، أسر مرافقي القوافل حتى يتم تحصيل فدية من ذويهم.

كان هناك أكثر من سبب لأن يستهدف الرسول قوافل قريش: فقريش هي من دفعه وأتباعه إلى ترك ديارهم وممتلكاتهم، وقوافلها تمثل أفضل غنيمة يمكن الحصول عليها، وتلك القوافل تمر على أقل من 100 كلم من المدينة في طريقها بين مكة وسوريا.

خمسة عشر شهرا تقريبا بعد وصول الرسول إلى المدينة، بعث “عبدَ الله بن جحش ومعه ثمانية مهاجرين، لاعتراض عير قريش – بنخلة على طريق الطائف- دون سفك دماء حتى لا يجر ذلك إلى الثأر. لكن الرجال لم يكتفوا بالغنيمة المهمة، وإنما قتلوا أحد مرافقي القافلة وأسروا اثنين، بينما فر الرابع. فكانت تلك أول غنيمة غنمها المسلمون، فخصوا الرسول بخمسها.

شهران بعد هجمة نخلة، خرج الرسول على رأس 314 رجل، 90 منهم فقط مهاجرون والباقي أنصار، لاعتراض قافلة قريشية مهمة ساهم فيها كل القريشيين. وإذا كان أبو سفيان قد أفلت بالقافلة، إذ لم يمر على بدر، فإن القريشيين خرجوا لمواجهة الرسول ورجاله، فكانت النتيجة لصالح الرسول الذي غنم ورجاله الشيء الكثير من القريشيين: 150 جملا، و10 خيول، وكثيرا من الأسلحة والدروع وأغراضا مختلفة، علاوة على قتل 70 قريشيا وأسر 70 آخرين أدى القريشيون عن كل واحد منهم ما بين 1000 و4000 درهم حسب مستوى غناهم.

يشكل هذان الحدثان أهمية كبرى في وضع اللبنات الأولى لدولة المدينة: ذلك أن خروج 224 أنصاريا من أصل 314 وراء الرسول في هذه الغزوة، يشكل تجاوزا لبند الدفاع الذي تنص عليه الصحيفة، إلى المشاركة في الهجوم، وهو ما يكرس الرسول قائدا حربيا، وزعيما سياسيا. أضف إلى ذلك أن آية قرآنية ستنزل بعد غزوة بدر لتثبت أحقية الرسول في خمس الغنائم، وتبرر ذلك بما أناطته به من مسؤوليات “إطعام الفقراء واليتامى والمساكين وابن السبيل”، علاوة على تلبية حاجياته وأهله، وعلى ما كان يتعين عليه من شراء الأسلحة وأداء فدية عن الأسرى، ومنح هدايا لمحاوريه من زعماء القبائل؛ مما يعني أن ما سيتحصل عليه الرسول من أموال، يشكل اللبنة الأولى لمالية عمومية جنينية.

لقد لعبت معركة بدر دورا حاسما في رص صفوف الأنصار والمهاجرين في مواجهة عدو الرسول الأول قريش، وكرست الرسول زعيما يحدد السلم والحرب. لذلك، أصبحت الخطوة الموالية تحقيق الانسجام المجتمعي على المستوى العقدي، أو ما يمكن أن نسميه بالكثير من التجاوز: “المستوى الإيديولوجي”. لذلك، لم يمض شهر على غزوة بدر حتى توجه الرسول إلى قبيلة قينقاع؛ حليفة عبد الله بن أُبي، أحد كبار زعماء المدينة الذي كان الرسول يشك في صدق إسلامه ويتوجس من انقلابه عليه، فدعا أهلها إلى الإسلام؛ لكنهم أعرضوا عنه وتحدوه أن يحاربهم، فما كان منه إلا أن حاصرهم لمدة خمسة عشر ليلة، وكان عازما على قتلهم لولا أنْ تدخل حليفهم عبد الله بن أُبي بقوة، فاكتفى الرسولُ بإجلائهم، وغنم ما كان لهم من مال وسلاح، أخذ منه الخمسَ وسهمه، وقسم أربعة أخماس على أصحابه.

في السنة الرابعة للهجرة، خرج إلى بني النضير يستعينهم في دية رجلين، وبينما هو في أحد بيوتهم إذ “أتاه الخبر من السماء” أنهم كانوا يعتزمون إلقاء صخرة على رأسه وقتله، فترك أصحابه – أبا بكر وعمر وعلي– وانصرف كأنما ليقضي حاجة، فرجع إلى المدينة، وأمر بالتهيؤ لحربهم، والسير إليهم. حاصرهم خمسة عشر يوما، حتى صالحوه على أن يحقن لهم دماءهم، وله الأموال والسلاح. فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وتركوا الأموال، “فكانت لرسول الله خاصة يضعها حيث يشاء”، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار.

أما بنو قريظة، فقد تحالفوا مع قريش وغطفان ضد المسلمين في معركة الخندق، فما وضع الرسول السلاح حتى أتاه جبريل وقال له: “إن الله يأمرك يا محمد بالسير إلى بني قريظة”، فما كان من الرسول إلا أن حاصرهم خمسا وعشرين ليلة. فلما اشتد عليهم الحصار نزلوا، فكان حكم الله ورسوله فيهم “أن تُقتَل الرجال، وتُقسَم الأموال، وتُسبى الذراري والنساء”… وكذلك كان، فقسم رسول الله أموالهم ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، بعد أن أخذ منها الخمس، واصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة، ثم بعث سعد بن زيد الأنصاري بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد، فابتاع له بهم خيلا وسلاحا.

في السنة السابعة للهجرة، أغار الرسول على يهود خيبر، التي كانت قد آوت سادة بني النضير وأشرافهم، وعقدت تحالفات مع يهود واحة فدك على نصرتهم، فحاصرهم بضع عشرة ليلة، حتى إذا أيقنوا من الهلاك صالحوا الرسول على نصف أموالهم، وصالحه أهل فدك على مثل ذلك، فكانت خيبر فيئا بين المسلمين، – قسمت على أهل الحديبية من شهد منهم خيبر ومن لم يشهدها- وكانت فدك خالصة للرسول، لأنها لم تأت عن غزوة. ظلت كل من خيبر وفدك تقتسم محاصيلها مع المسلمين إلى أن أجلاهم عمر عن أرضهم، بعدما علم أن الرسول قال في وجعه الذي قبضه الله فيه: “لا يجتمعن بجزيرة العرب دِينان”.

لقد فشلت قريش وغطفان مجتمعتين في إلحاق هزيمة بالرسول ومن معه من مسلمي المدينة في معركة الخندق، مما كرس تفوق المدينة على مكة. تفوق أكده غزو مكة حوالي سنتين قبل وفاة الرسول. هكذا، يكون الرسول قد دحر أعداءه الخارجيين: قريش، كما دحر أعداءه الداخليين: اليهود.

فوق ذلك، تشكلت لديه أموال وأراض وأسلحة وخيل وجمال، -في ما يمكن أن يقابل ميزانية عمومية تتداخل فيها أموال الرسول بأموال الأمة- واغتنى إلى جانبه من شاركوه الغزوات من المسلمين.

وعلى الرغم من أنه لم يكن له بعد جيش نظامي، فإنه ما كان يعلن عن وشك غزوة حتى يقترح عليه زعماء قبائل المدينة محاربين يختار أحسنهم. وإذا لم يكن بعد قد شكل شرطة، فإن من المسلمين من كان يتطوع لإسكات الأصوات الفردية المعارضة له أو الساخرة منه هنا وهناك. وإذا لم يكن بعد قد شكل حكومة، فإنه كان دائما محاطا بمستشاريْه أبي بكر وعمر، ولم يكن يتخذ أي قرار إلا بموافقة زعماء القبائل وكل من كان له نصيب من سلطة في قومه. وإذا كان القانون لم يتشكل بعد في صيغة مركزة، فإن القرآن كان يتنزل على الرسول كلما استعصى عليه أمر، أو رفع إليه المسلمون تساؤلاتهم، ولا غرابة في أن تكون معظم الآيات التشريعية قد نزلت بالمدينة.

باختصار، لقد كرست الأحداث محمدا بن عبد الله رسولا وحكما وقائدا سياسيا وحربيا على رأس دولة/ أمة مكونة من قبائل مختلفة توحدها العقيدة والغنيمة وتتركز السلطة فيها في شخص الرسول الذي يقودها باسم الله.

 

المراجـــع:

1-       محمد عبد الله بن هشام المعافري، السيرة النبوية، [السيرة النبوية] دار الحديث- القاهرة، 2006.

2-       أبو جعفر بن محمد الطبري، تاريخ الأمم والملوك، [تاريخ الطبري]، درا الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2012.

3-       MAXIME RODINSON, Mahomet, Ed. du Seuil, (1968), mai 1994

4-       A. GUILLAUME, The life of Muhammad, a translation of Ibn Ishaq’s sirat rasul allah, OXFORD UNIVERSITY PRESS, 2017.

 

مقالات قد تهمك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *