الحداثة ونقد التراث: القطيعة… أم التجاوز؟ 2/1 - Marayana - مرايانا
×
×

الحداثة ونقد التراث: القطيعة… أم التجاوز؟ 2/1

التراث، ذلك المجال المُعقد الذي يطرح إشكالات الفهم والاستيعاب مع الحداثة والماركسية وغيرها. بين طروحات التجاوز والاستيعاب والقطيعة يتموقع التراث ليأخذ أوجهاً متعددة.

على امتداد سنين خلتَ، كان التراث محطَّ نقاش وجدل، وكان نقدُ التراث جدلاً موازيا بين مُقارعات طروحات الحداثة، والطرح الداعي للقطيعة والعبور على التراث، بالنظر إلى الجمود الذي صار يعتريه اليوم.

هل تصلح الماركسية والقطيعة لقراءة التراث وتجاوزه، أم أنها طرح نقيض للأصولية ويُمكن أن تكونَ متجاوزة اليوم باعتبارها أصولية جديدة؟ هل يُمكن أن تكونَ هاته المقاربات مفيدة للتطوُّر الفكري أم أننا بحاجة لأفكارَ جديدة لاستيعاب التراث ونقده وبناء طرح جديد؟

الاستيعابية: طرح بديل

الكاتب والباحث إدريس هاني يشير في حديث لمرايانا أن إشكالية نقد التراث لم تعُد تعالج بالطريقة الكلاسيكية. يُمكن الحديث عن طريقة كلاسيكية للتعاطي مع التراث، وطريقة جديدة تتضمن تجاوزات كثيرة. والتجاوز بمفهومه الفلسفي؛ تجاوز التخوم والاختصاصات، أي مقاربة الأشياء بالتفكيك والتحليل والجينالوجيا (علم الأنساب).

يؤكد إدريس هاني أن الطريقة الكلاسيكية هي نفسها الطريقة الحداثية الصلبة، التي كانت تتعاطى مع التراث على أساس القطيعة المطلقة. وقد أصبحت متجاوزة الآن حتى عند التفكير الحداثي نفسه في طوره التجديدي.

حسبَ المتحدث: “بدأنا اليوم نتحدث عن التراث كشيء أصيل يصعب القطع معه، وإنما يمكن إعادة إنتاج موقف من التراث يتجاوز فكرة الانتقاء والقطيعة. وهنا أستحضر موقفا اشتغلت عليه مُسبقا، وهو الاستيعابية، وهو ابتعاد لا يقصي على مستوى المحددات القائلة هنا يبدأ وهنا ينتهي، وإنما على البعد والرؤية المتبادلة والقراءة حتى الاستفزازية، التي تنتج معرفة، أما الانتقاء والقطيعة فلا يُنتجان معرفة ويمكن تجاوزهما”.

يعود هاني لعبد الله العروي، إذ يقول إنه طرح فكرة القطيعة، ومحمد عابد الجابري تحدث عن الانتقاء. فيما يطرح هاني مفهوم الاستيعابية، القائمة على النظر للتراث كقضية مستمرة مركبة، في تداخل وجدل بين القديم والحديث دون إنهاء للقديم.

يخلصُ ادريس هاني للقول هنا أن الأصل في معضلة التفكير الإنساني هي المشكلة الأنطولوجية ومن حيث أن كل موقف معرفي، سياسي حضاري، ينطوي على موقف أنطولوجي (الأنطولوجيا: علم الوجود أو علم تجريد الوجود).

التراث وجدلية التفكيك

إذا ما اتجهنا لنبيل فازيو، الكاتب والأستاذ الجامعي المتخصص في قضايا الفلسفة، فإنه يقول في حديث لمرايانا، إن للمشاريع النقدية، التي اهتمت بالتراث، مكانتها الفكرية وراهنيتها. فمن الناحية التاريخية، لعبت هذه المشاريع دورا بارزا في إعادة ترتيب أوضاع صلتنا بالتراث، عندما ضخّت فيه جملة من المفاهيم الإجرائية، خلخلت الرؤية التقليدية التي سطت عليه لمدة طويلة.

حسب فازيو، فإن هذا الطرح: “نجدهُ عند محمد أركون الذي حاول تجاوز الرؤية التقليدية إلى التراث من خلال الاعتداد بمنظور مفاهيمي ومنهجي نقدي مستمد من الفكر الحديث والمعاصر، وخاصة من ثورة العلوم الإنسانية بمختلف قطاعاتها. وهو عينه ما نجده عند محمد عابد الجابري الذي يمثل تلقي أعماله، علامة فارقة على مدى تعطش الفكر العربي إلى مثل قراءته النقدية للتراث وللعقل الحاكم له”.

قد يبدو للباحث المتخصص في هذا الحيز أو ذاك من التراث العربي، مثل المتخصص في الفلسفة الإسلامية أو المنطق الإسلامي العربي أو علم الكلام، أن الجابري وأركون يمارسان كثيرا من التعسف على النصوص التي يقرآنِها. هؤلاء، حسب فازيو، يجرون هذا المفكر أو ذاك، قسراً، إلى دوائر رؤيتهما، دونما اهتمام بالتفاصيل والجزئيات التي يراها المتخصص ضرورية ومهمة.

يقول نبيل فازيو: “نرى في حكم محمد أركون على لا تاريخية العقل الفقهي وتعاليه تعسفا، بسبب عدم احتفاله بصلة الفقه السياسي الوثيقة بالواقع وطوارئه؛ كما نرى في حكم الجابري على ابن رشد، واعتبار نكبته علامة على استقالة العَقل ونهاية القول الفلسفي في العالم العربي الإسلامي، وانتقاله إلى أوروبا، (نرى) في ذلك غفلة عن مظاهر استمرار الفلسفة في العالم العربي بعد ابن رشد؛ أو في موقفه من الغزالي تجنيا على عقل فريد صنع رؤية المسلمين إلى ذاتهم”.

يتوقف فازيو هنا للتأكيد على أن هذه تفاصيل لا أحد ينكر أهميتها، لكن من طبيعة المشروع النقدي أن يصدر عن نفس كليٍّ وشامل، لأن لديه رهانات حضارية تتجاوز حدود الرهانات الأكاديمية.

يعتبر فازيو أن هناك مفكرين، لم يكونوا أقل أهمية من أركون ولا من الجابري، لكنهم فضلوا التبرم عن فكرة المشروع النقدي، وآثروا الاشتغال في دائرة البحث الأكاديمي الرصين لتاريخ الفكر الإسلامي. وهذا اختيارهم.

ما يميز المشاريع النقدية للتراث، أنها لم تفصل دراسته وتأويله عن رهاناتها التقدمية والحضارية، ولم تجد حرجا في الاعتراف بأن تأويلها للتراث محكوم بالحاضر وأسئلته، ومسكونٌ بالمُستقبل وهواجسه.

في هذا الصدد، يقول فازيو إن الحاجة ملحة إلى مثل هذه المشاريع، لأنها تحول دون فصل المعرفي عن السياسي والإيديولوجي في دراستنا للتراث العربي الإسلامي، وتجعل من هذه الدراسة “مهمة حضارية” تتجاوز نطاق المهمة المعرفية الخالصة.

تُرى هل المشاريع المطروحة للسجال الخلافي مع التراث قد تكون حلاَّ وبديلاً كما هو الحال بالنسبة للطروحات الماركسية؟ وهل يُمكن أن تكون الماركسية والمادية، آلية للتحليل، أم أنها طرح يحتاج نقاشاً آخر؟

هذا ما سنتعرف عليه في الجزء الثاني من الملف، وعنوانه: الماركسية والتراث العربي الإسلامي: هل يُنقذ المتجاوز متجاوزا آخر؟ 2/2

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *