الجاحظ… الفيلسوف العربي الذي مات مُضرّجا بالكتب
اشتدّ عود الجاحظ، فغدا بحراً مُتلاطماً بأمواج المعرفة من كل المشارب. لم يترك علماً إلاّ واغترف منه. درس الفلسفة والمنطق وعلم الكلام وفقه اللّغة وعُلوم الشّريعة والأخلاق والعلوم الطبيعية والرياضيات والنباتات، حتى اكتملت آلته المَعرفية غصباً.
… “هو خطيبُ المسلمين، وشيخُ المتكلِّمين، ومَدْرَهُ المتقدمين والمتأخِّرين. إن تكلَّم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النَّظَّام في الجدال، وإن جدَّ خرج في مسك عامر بن عبد قيس، وإن هَزَلَ زاد على مزبد، حبيب القلوب، ومزاج الأرَّواح، وشيخ الأدب، ولسان العرب، كتبه رياضٌ زاهرةٌ، ورسائله أفنانٌ مثمرةٌ، ما نازعه منازعٌ إلا رشاه أنفاً، ولا تعرَّض له منقوصٌ إلا قدَّم له التَّواضع استبقاءً. الخلفاء تعرفه، والأمراء تصافيه وتنادمه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصَّة تسلِّم له، والعامَّة تحبُّه. جَمَعَ بَيْنَ اللسان والقلم، وبَيْنَ الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم، طال عمره، وفشت حكمته، وظهرت خلَّته، ووطئ الرِّجال عقبه، وتهادوا أدبه، وافتخروا بالانتساب إليه…”
هذا… وصف ابن قرة الجاحظ المعتزلي، أحد الفلاسفة النّوابغ في التّراث العربي الإسلامي.
فمن هو هذا الرجل يا ترى؟ وما هي أهمّ الأفكار التي جاء بها للقطع مع التّقاليد الخرافية والانتصار للعقل ؟
تلك الصرخة الأولى للجاحظ!
هو أبو عثمان عمرو بن محبوب الكناني الفقيمي. لُقّب بالجاحظ لجحوظ عينيه، أي نتوئها.
في البصرة، أرضُ البلاغة والنحو والأدب، رأى الجاحظُ النّور لأول مرة سنة 776م الموافقة لـ160 هجرية.
بسبب قبح خلقته، هناك من يذهبُ إلى كون الجاحظ تفقّه في العلم والتفلسف، لكسب احترامٍ تفرضهُ قوّة المعرفة، ولأنه يأبى أن يرزح تحت “عقدة نقصه” أو “نقطة ضعفه”، دافعاً بالمثل القائل ” كلّ ذي عاهة جبّار” إلى الأقاصي.
تتضاربُ الآراء بشأن أصله، فثمّة من يذهبُ إلى كونه كنعانيّا ليثيا، ومنها ما يؤكّد أنّه مولى أبي القلمس عمرو بن قلع الكناني، وأنّ جدّه أسود يقالُ له فزارة وكان حمّالاً عند بن قلع. [1]
في وسط فقير بشكل مدقع، ترعرع الجاحظُ يتيماً. لكنه، بالمقابل، كان ميالاً للعلم بـ”الفطرة”، وباحثاً عن الاستزادة من المعرفة والعلوم الإنسانية، فكان يعملُ ويتعلّم. يذكرُ البعضُ أنّه كان يبيعُ الخبز والسّمك بجوار نهر سبحان بالبصرة.
لم تكن البصرةُ تشفي غليل الجاحظ، ولا تجيبُ عن الأسئلة البكر التي تسقطُ تباعاً على ذهنه؛ فالتجأ إلى بغداد، عاصمة الأدب والعلم والجمال آنئذٍ، لاستكمال بحثه العلمي وطلب المعرفة.
بعد ذلك، اشتدّ عوده فغدا بحراً متلاطماً بأمواج المعرفة من كل المشارب. لم يترك علماً إلاّ واغترف منه. درس الفلسفة والمنطق وعلم الكلام وفقه اللّغة وعُلوم الشّريعة والأخلاق والعلوم الطبيعية والرياضيات والنباتات، حتى اكتملت آلته المَعرفية غصباً. فصار، بدون منازع، أحد أكثر الموسُوعيين في التّراث العربي الإسلامي.
تفرد بقولِه بأنّ المعرفة طبائع، وهي مع ذلك معرفة العباد على الحقيقة.
كان يعتبر البلاغة هي الإيجاز والاختصار ومجمل القول. جعل من اللغة أداة طيّعة بين أنامله. يشهدُ النّقاد أنّ اللغة العربية لم تعرف من يمسك بناصيتها، كما فعل الجاحظ. حين يكتبُ، تجدُ لغتَه عالمة ورفيعة وتتسم بالجزالة والقوة والغنى بالمرادفات والمفردات. كان ذاك سببا كافيا أن يلقّبه البعضُ بـ “الرّسام بالكلمات”.
يقول الجاحظ في “البيان والتبيين”: المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير.
معنى ذلك أنّ اللفظ والمبنى وشاعرية البنيات اللغوية هي ما يخدم المعاني، التي هي متاحة للجميع، بينما صقلها لغوياً، عن طريق اللفظ، هو ما يجعل منها صورةً مكتملة.
في فلسفة الجاحظ…
يشاعُ عن الجاحظ كونه كان يستكري الورّاقين، حيثُ تطبعُ الكتب خلال العصر الذّهبي، ليبيت فيها، بغية استغلال الليل أيضاً لطلب العلم. وعُرف عنه أنه كان يقرأ ما ينيفُ عن كتابٍ في اليوم.
ولأنه ابنُ مدرسة المعتزلة وأحد أكبر أعلامها، ولأنه كان تلميذ أبي إسحاق إبراهيم بن سيار البلخي المعروف بالنظّام المتكلم المشهور، فقد كان من الطبيعيّ جدا أن يجعل، بحكم تمنطُقه، من العقل أساس الفصل في كلّ شيء. أخضع الجاحظ شتّى شؤون الدّين والسّياسة والتّقاليد لسلطان العقل ليتمكّن، في النهاية، من إدراك التفاوت البيّن والتناقض الجليّ بين ما بلغه العقل الإنسانيّ من مستوى في الثقافة، وبين الثقافة السائدة وسط العوام وقتئذٍ ولدى بعض المثقفين والفقهاء، والتي تحرّم العقل وتجترّ ثقلاً غير معقول من التقاليد البائدة.
نتاجاً لهذه الحقيقة، لم يتوان الجاحظ على التوجه للجماهير داخل الدّولة بالمنطق، وذلك لنقد كل ما يصطدم والعقل البشريّ ويحجمهُ، في أفق نشر ذوق سليم ووعي حرّ ينسف الاعتقادات الغارقة في الجهل في ذلك الوقت.
في ذات السياق العقلي، جاء عداؤه الفكري للخرافات والحماقات والأساطير التي ظلّت تعشّش في ذهنية العوام. على إثر ذلكَ، خاض “حرباً” فكريةً ضارية، تشملُ الدّجالين والمُشعوذين، سواءٌ المفسّرين منهم أو المنجّمين.
يشمل الاتّجاه العقلي لأبي عثمان النّظر في أمور الدّين أيضاً، فهو كان يؤمنُ أن العقل أحدد أسس الإيمان، ولا إيمان بدون رؤية عقلية، تحفظُ للعقل مكانته الاعتبارية في التفكير والنظر والتأمل والتبصّر.
لذلكَ، مفهوم الجاحظّ للدّين، مثل مفهومه للمُلك، أي أنه “قوّة محافظة في جوّ انضباط اجتماعيّ تتّصل اتصالاً وثيقاً بفكرة الدفاع عن المحرومين. إنه، بجوهره، مظهر من مظاهر إطلاقية الجاحظ تبرز وجوده نظرته إلى الإنسان ككائن سيّء، لا يكبحُ بهيميّته الطبيعية إلاّ الخوف من العقاب أو الثّواب”. [2]
يشاعُ عن الجاحظ كونه كان يستكري الورّاقين، حيثُ تطبعُ الكتب خلال العصر الذّهبي، ليبيت فيها بغية استغلال الليل أيضاً لطلب العلم. وعُرف عنه أنه كان يقرأ ما ينيفُ عن كتابٍ في اليوم.
أصبح اسم الجاحظ على كل شفة ولسان. ثم علا، بالتّبعة، كعب الجاحظية، ابنة المعتزلة، داخل الدّولة. قرأ الخليفة المأمون بعض كُتب الجاحظ، ومن فرط إعجابه بفكره وعقليَته ومنطقه، عيّنه في رئاسة ديوان الكتاب، لكن الجاحظ اعتذر بعد ثلاثة أيام من توليه المهمّة، وطلب من الخليفة إعفاءه، وذلك لأنّه وجد أن تلك المهمّة تقَيّده وتعيق أبحاثه وسفرياته ذات المضمون المعرفي والعلمي.
إثر وفاة المأمون وتراجع دور المعتزلة، “بُدئ بملاحقتهم وتحجيم سطوتهم، وكان ممن ألقي القبض عليه الوزير محمد بن عبد الملك الزيات الذي كان الجاحظ مقربا منه، فعوقب برميه في التنور. لكنّ أبا عثمان الجاحظ تمكن من الهرب والنجاة من تلك الملاحقة، فقيل له: لم هربت؟ فقال: خفت أن أكون ثاني اثنين إذ هما في التنور، يريد بذلك ما صنعوا بابن الزيات، من إدخاله تنورا فيه مسامير محمّاة، كان هو صنعه ليعذب الناس فيه فعُذب به حتى مات.” [3]
“البؤسُ” في ثوب التهكّم
لم يكن “الحظّ”، حليف أبا عُثمان دائماً. فمن الأشياء التي “عانى” منها، تنمّر النّاس من شكله الذي لا يسرّ النّاظر، إذ عُرف عنه أنّه كان دميم الوجه قبيحَ المنظر. ويَحكِي أنّه مرة كان واقفًا أمام بيته، فمرّت قربه امرأة حسناء وابتسمت له، وقالت: لي إليك حاجة.
فقال الجاحظ: وما حاجتك؟
قالت: أريدك أن تذهب معي.
قال: إلى أين؟
قالت: اتبعني وستعرف.
فتبعها الجاحظ إلى أن وصلا إلى دُكّان صائغ، وهناك قالت المرأة للصّائغ: مثل هذا!… ثم انصرفت.
عندئذ سأل الجاحظ الصّائغ عن تفسير ما قالته المرأة!
فقال له الصائغ: لا مؤاخذة يا سيدي! لقد أتتني المرأة بخاتم (في رواية أخرى قلادة)، وطلبت مني أن أنقش عليه صورة شيطان، فقلت لها: لم أرَ شيطانًا في حياتي، فأتت بك إلى هنا لظنّها أنك تشبهه…
لا غرابة أن تُبيّن هذه النادّرة بشاعة الجاحظ وقُبح خلقته، والذي يعترفُ به ولا ينكره بحكيه هذه النّوادر، بنوع من السّخرية، في كتبه، فهو كان خفيف الظلّ مرح الروح، يحبّ التهكّم للتهكّم، حتى لو كان هو نفسُه موضوعَ سُخريتِهِ.
يشمل الاتّجاه العقلي لأبي عثمان النّظر في أمور الدّين أيضاً، فهو كان يؤمنُ أن العقل أحدد أسس الإيمان، ولا إيمان بدون رؤية عقلية، تحفظُ للعقل مكانته الاعتبارية في التفكير والنظر والتأمل والتبصّر.
بل إنّ هناك من يذهبُ إلى كون الجاحظ تفقّه في العلم والتفلسف، لكسب احترامٍ تفرضهُ قوّة المعرفة، ولأنه يأبى أن يرزح تحت “عقدة نقصه” أو “نقطة ضعفه”، دافعاً بالمثل القائل ” كلّ ذي عاهة جبّار” إلى الأقاصي.
يرى بعض النّقاد أن السّخرية طبيعةٌ فُطِرَ عليها الجاحظ في الكتابة للتّفريج على القارئ؛ إذ تعتبر بعض كتبه بمثابة لوحات تزخرُ بالنّقد والدّعابة والتّفكّه والنّكتة للنّكتة.
في كتاب “البخلاء” مثلاً، يصوّر الجاحظ قاسم الثمار، بسخرية قائلاً: “وكان قاسم شديد الأكل، شديد الخبط، قذر المؤاكلة. وكان أسخى الناس على طعام غيره، وأبخل الناس على طعام نفسه”.
… في السّنوات الأخيرة من حياته، أصيب الجاحظ بالفالج، فكان “يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته، والنصف الأيسر لو قُرض بالمقاريض ما أحس به من خدره وشدة برده. وكان يقول في مرضه: اصطلحت على جسدي الأضداد، إن أكلت باردا أخذ برجلي، وإن أكلت حارا أخذ برأسي”. [4]
لكن… أتدري ما الأكثر غرابة في كل حكاية الجاحظ هذه؟
في سنة 869م، الموافقة لـ255 هـ في البصرة…
في “المشهد”، رجل كهلٌ في التسعينات من عمره، يقف أمام رفوف مكتبته، يبذل قصارى الجهود للحصول على أحد الكتب، في اليد الأخرى يتكئ على عصاهُ ليستوي ويستند عليها كي يمسك الكتاب.
لكن…
في غضون ذلك؛ تسقط الكتب دفعةً واحدة فترديه قتيلاً مدفوناً تحت المؤلّفات.
ذاك لم يكن سوى الجاحظ!
يبدو أنّ عمرو زهد بالكتب، وعاش لأجل الكُتب… وماتَ بالكُتب!
فكم من قارئ نهم، قد يتمنى أن تقتله المعرفة…
الهوامش:
[1] جميل جبر، الجاحظ، ومجتمع عصره في بغداد، دار صادر بيروت.
[2] المرجع نفسه.
[3] سنان ساتيك، أبو عثمان الجاحظ.. رائد النثر وإمام الفصاحة الذي قتلته كتبه، الجزيرة الوثائقية.
[4] المرجع نفسه.
مقالات قد تثير اهتمامك:
- إخَوان الصّفا… هذه حكايةُ رواد الفكر التنويري في التراث الإسلامي! 1\4
- علي الوردي… ابن خلدون العراق!
- جورج طرابيشي… أن تنذر حياتكَ لإيقاظ العقل العربي
- جرجي زيدان: المسيحي الذي جعل التاريخ الإسلامي… حكاية حب
- المعتزلة… العقل العربي الإسلامي في بداية تشكّله! 1\3
- المأمون و”محنة خلق القرآن”… صورة عباسية أخرى لاستغلال الديني في السياسي! 2/1
top top top