سلسلة ــ من السلفية إلى الشك. هكذا تكلم عبد الله القصيمي 4/4
فكر عبد الله القصيمي مخاض مستمر، وبحر هائج لا يستقر بين مد وجزر، وفسيفساء عجيبة جمعت من كل فكر طرفا، ومن كل تيار أجمل ما فيه وأعقد ما فيه…
لأجل ذلك كان فكره عصيا على التصنيف والأدلجة.
حاولنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، تفكيك تيمة الشك في الثقافة الإسلامية، وكيف تم ربطها بالإيمان بالغيب كحل لكل الأسئلة التي يمكن أن تطرحها. وفي الحلقة الثانية، اقتفينا أثر عبد الله القصيمي في رحلته مع الشك، ووقفنا عند بداياته كسلفي متعصب، أفحم كبار مشايخ الأزهر، وكبار المفكرين، وتابعنا في الحلقة الثالثة أبرز ردود فعل التيارات الإسلامية بخصوص تحول القصيمي، وإعلان قطيعته مع ماضيه السلفي.
في هذه الحلقة، الرابعة والأخيرة، نتعرف على أهم عناوين فكر عبد الله القصيمي…
إنه التمرد على الثوابت في أعنف صوره، والتحلل من كل التزام ديني وأخلاقي تُمليه العقائد والأعراف. إنه التحلي بكل ما ينتهي إليه العقل الباحث عن ماهية الذات وحقيقة العالم والمعنى في هذا الوجود. إنه احتجاج صاخب وثورة على الأنا والوعي الجمعي المؤثَث بمظاهر الخنوع والانصهار في الجماعة. إنه الألم المحموم لانهزام الذات المفكرة أمام الضياع والمآسي الإنسانية.
فكر عبد الله القصيمي مخاض مستمر، وبحر هائج لا يستقر بين مد وجزر، وفسيفساء عجيبة جمعت من كل فكر طرفا، ومن كل تيار أجمل ما فيه وأعقد ما فيه… فجاء فكره عصيا على التصنيف والأدلجة.
يقول المفكر الحاج أنسي: “هذا الرجل القادم من الصحراء الرافض كل شيء، الحر في وجه كل شيء، يتكلم كالشهيد الحي. ماذا يريد؟ يريد أن يفرغ الدنيا العربية من نفسها ويؤلفها على الحرية والعقل والكرامة. كتبه فضيحة تاريخية. فضيحة أن يكون العقل العربي قد ظل حتى الآن خاليا من عبد الله القصيمي… فضيحة عبد الله القصيمي تفضح ألوف ناسخي الكلمة العربية كل يوم من المحيط إلى الخليج. «إقرؤوا القصيمي. لا تقرؤوا الآن إلا القصيمي. يا ما حلمنا أن نكتب بهذه الشجاعة! يا ما هربنا من قول ما يقول! يا ما روضنا أنفسنا على النفاق، وتكيَّفنا وحطمنا في أنفسنا الحقيقة لكي نتقي شر جزء مما لم يحاول القصيمي أن يتقي شر قوله في كتبه”. (كلمات كلمات).
ويقول المفكر صبحي حداد في مقاله بمجلة الكلمة عن فكر عبد الله القصيمي: “اقتحم القصيمي الحياة الفكرية العربية، وبدا على الفور صوتاً جديداً غير مألوف في نبرته التمردية الشاملة، يستخدم لغة احتجاج حارّة لم يسبق للمعجم العربي أن استولد منها هذا الموشور العريض والمتفجر من مفردات الانشقاق، ويتكئ على طرائق في المحاججة (العقلية والوجدانية، التأملية المنسرحة على هواها والمنطقية المنحصرة في نطاق ملموس ومُضيّق كخرم إبرة)، تبدو كمَنْ تحرّرت نهائياً من وطأة المحرّم أياً كان، وانفلتت من أي عقال ـ تقليدي أو غير تقليدي ـ لَجَمَ ويلجم قواعد التفكير العربي في المسائل الفلسفية أو الاجتماعية-السياسية أو الأخلاقية أو الفقهية. وفي تلك الحقبة، استهدف القصيمي العقل العربي بكلّ ما كان يتعايش أو يتصارع في جنباته من تيارات وأفكار، سلفية كانت أم ثورية، يمينية أم يسارية، ملتزمة بهذا اليقين أو عدمية بصدد أي يقين”.
. من أقوال عبد الله القصيمي:
ــ “من المعلوم أن أوروبا يوم، إن كانت مؤمنة بالكنيسة متدينة، كانت في ذلك الهوان والضعف والعجز الذي نعرفه ونقرأه، فلما أن فرت من إيمانها وتنازلت عن ذلك الأمل الأخروي وجعلت الصناعة والتجارة والحياة الكبيرة القوية هي آلهتها التي وحدتها، وأبت الإشراك بها، صعدت بالحياة”.
ــ “إن الآلهة والعقائد والمذاهب تصاب بالخمول والفساد والتعفن، ويتراكم التراب والحشرات إذا تقادمت دون تغيير أو تحريك أو تنظيف”.
ــ “طبيعة المتدين غالباً طبيعة فاترة فاقدة للحرارة المولدة للحركة المولدة للإبداع. ومن ثم، فإنك غير واجد أعجز ولا أوهى من الذين يربطون مصيرهم بالجمعيات الدينية “.
ــ “ذهبت إلى الغار، غار حراء، غار محمد وإلهه وملاكه… إلى الغار العابس اليابس البائس اليائس، ذهبت إليه استجابة للأوامر”. دخلت الغار، دخلته. صُدمت… ذهلت.. فُجعت.. خجلت… خجلت من نفسي وقومي وديني وتاريخي وإلهي ونبيي ومن قراءاتي والمحفوظات! أهذ هو الغار. غار حراء؟؟؟ هو الذي لجأ واختبأ فيه الإله كل هذا التاريخ !!ذهبت إليه. إلى الغار. غار القرآن المغلق والهادم لكل غار قبله ولكل غار بعده، لأنه يجب أن يكون هو كل غار وآخر غار والغائر والغيور من كل غار “.
ــ “العقائد والآلهة والمذاهب هي أحق الأشياء بالتغيير”.
ــ “إن الدعاء والصلاة اتهام بليد لله! إنك إذا دعوت الله، فقد طلبت منه أن يكون أو لا يكون… إنك تطلب منه حينئذ أن يغير سلوكه، ومنطقه وانفعالاته… إنك إذا صليت لله، فقد رشوته لتؤثر في أخلاقه، ليفعل لك طبق هواك، فالمؤمنون العابدون قوم يريدون أن يؤثروا في ذات الله، أو يصوغوا سلوكه”.
ــ “إن التحريم يعني أنه يوجد شيء فوق البشر. إنه دائمًا دلالة أليمة على أن الإنسان محكوم من بعيد”.
ــ “إنه لمجتمع مخيف في تخلفه، ذلك المجتمع الذي تصبح فيه خائفا من أن يتهمك غيرك بالإلحاد، أو تصبح فيه مخيفا لأنك قد تتهم غيرك بالإلحاد”.
ــ “إن المتدينين عجزوا أن يتصورا إلههم تصورًا يسمو كثيرًا على ما يعرفون ويشاهدون من القادرين الآخرين، فالله في تقديرهم وتصويرهم – وإن اختلفوا في هذا وتحالفوا كثيرًا – لا يعدو أن يكون في أفعاله وقضائه وقضاياه وحكمه على الأشياء والآخرين، وعلى سائر عبيده ورعاياه بشرًا مقتدرًا؟!”.
ــ “كلّ الأمم عرضت تاريخها للنقد إلاّ بني يعرب، كلّ الأمم نزعت القداسة عن تراثها إلاّ بني يعرب، كلّ الأمم تتطلع إلى مستقبل يقطع مع مساوئ ماضيها إلاّ بني يعرب، يرون مستقبلهم في عودة الماضي، كلّ الأمم ترى أنّ الدين لله والوطن للجميع إلاّ بني يعرب، كلّ الأمم تجاوزت الفصل بين السياسة والدين إلاّ بني يعرب، كلّ الأمم تعشق الفنون والثقافة وتحترم المرأة إلاّ بني يعرب يؤسّسون ثقافة القبور وغسل الموتى وتغليف المرأة”.
إنه من المحزن حقا أن تتفتق أرض العرب عن مفكر مبدع من أمثال عبد الله القصيمي، ثم لا تُعطى له المكانة اللائقة بإسهامه الفكري، وتظل كتبه بعيدة عن التداول بين شعوب العالم العربي التي يُراد لها أن تظل حبيس إيديولوجية مسيطرة لاعتبارات سوسيو- سياسية، تنأى بهم عن النهل من فكرٍ سيمكنهم من التخلص من ثقل الموروث والأعراف، ليلتحقوا بركب الحضارة مساهمين ومنتجين.
الحلقة الأولى: سلسلة ــ عبد الله القصيمي: من السلفية إلى الشك 1/4
الحلقة الثانية: سلسلة ــ من السلفية إلى الشك. عبد الله القصيمي، السلفي المتعصب 2/4
الحلقة الثالثة: سلسلة ــ من السلفية إلى الشك. ردة فعل التيارات الإسلامية من تحول عبد اللـه القصيمي 3/4
مقالات قد تهمك:
- صادق جلال العظم: أبرز العلمانيين “العرب”! 1\2
- صادق جلال العظم: المفكّر الذي هدّ يقينيّات الفكر الديني! 2\2
- من أين جئنا؟ وما هو مصيرنا؟ نظرية التطور، الانفجار الكبير، الخلق…؟
- إخَوان الصّفا… هذه حكايةُ رواد الفكر التنويري في التراث الإسلامي! 1\4
- إخوان الصفا… رفع الطّلاق بين الشّريعة والفلسفة! 2\4
- ابن السيد البطليوسي ومحاولتهُ التوفيق بين الفلسفة والدين
- جورج طرابيشي… أن تنذر حياتكَ لإيقاظ العقل العربي
- أبو حيان التوحيدي: كتب بجرأة كبيرة وانتهى إلى حرق معظم كتبه