ولادة بنت المستكفي… أيقونة الشعر النسائي بالأندلس: أميرة ثائرة وشاعرة جريئة! 2/3 - Marayana - مرايانا
×
×

ولادة بنت المستكفي… أيقونة الشعر النسائي بالأندلس: أميرة ثائرة وشاعرة جريئة! 2/3

اختلفَ الكثيرُ من المؤرخين حول أخلاقيات ولاّدة… فثمّة من قال إنها، “كانت شريفة عفيفة، بنت عز وكرم”، وآخرون تعاملوا مع فنّها على نحو أخلاقي، فاتهموها بالانحلال الخلقي… بل إن بعضهم ذهب إلى أنها “مثلية جنسيا” واتهمومها بربط “علاقة مشبوهة” بخادمتها “مهجة”!

في الجزء الأول من هذا الملف، حاولنا التعريف ببعض شاعرات الأندلس، لم يحظين بقدر كبير من الاهتمام تاريخياً.

في هذا الجزء الثاني، نعاينُ صورةً أكثر جرأةً لدى الشّاعرة ولاّدة بنت المستكفي.

الأكيد أن هذه الشّاعرة لقيت اهتمام الكثير من المستشرقين أكثر من غيرها، لدرجة أنّه إذا استعرضنا موسوعات “شعراء العالم” الأجنبية، فإننا لا نكاد نجد فيها إلا اسماً عربياً واحداً هو “ولادة بنت المستكفي”، كما يقولُ أحد الباحثين.

“كانت ولاّدة أديبة شاعرة جزلة القول حسنة الشعر، وكانت تُناضل الشعراء وتفوق الأدباء”.

فمن هي هذه الشاعرة؟

الأميرةُ الثّائرة والحُرّة!

هي ابنةُ الخليفة محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الناصر لدين الله، الشهير بالمستكفي الذي بايعه أهل قرطبة خليفة عليهم بعد أن خلعوا الخليفة المستظهر عام 414 هـ (1023م).

أما والدتها، فهي “سكرى الموروية”، وهي ليست عربية قطعاً. لكن المؤرخين اختلفوا بين نسبتها إلى الأمازيغ أو إلى الأندلسيين الأصليين!

يحاول بعض النقاد ربط انفتاح ولاّدة بنت المستكفي إلى ظروفها العائلية، حيثُ كان والدها حاكماً ضعيفاً وجاهلاً يهوى الخمرة، ووصل إلى الخلافة وهي في باكورة أيام المراهقة (14 عاماً)، فنشأت بنوعٍ من الغُرور.  [1]

كما تُشير الروايات التاريخية أن قرطبة شهدت العديد من الثورات والفتن الداخلية في زمن والدها، المستكفي، ما “دفع ابنته لتميل إلى تحدي المجتمع والاستهتار به وخرق تقاليده. لهذا، لم يكن غريباً أن يدفعها الغرور” [2] إلى أن تكتب على طرف ثوبها الأيمن:

أنا والله أصــلح للمعــالي … وأمشي مشيتي وأتيـه تيهـا

وأن تكتب على الطرف الأيسر بالمقابل:

وأُمكن عاشقي من صحن خدي … وأعطي قبلتي مـن يـشتهيها!

مع ذلكَ، قدّر الكثير من المؤرخين فنّها وحلّوها بأوصافٍ ثقافية وخلفية طيبة وذات عفاف، حيث قال عنها المقري صاحب “نفح الطيب” إنها كانت “حسنة المحاضرة، مشكورة المذاكرة”، كما قال عنها ابن بشكوال في “الصلة” إنها “كانت أديبة شاعرة جزلة القول حسنة الشعر، وكانت تُناضل الشعراء وتفوق الأدباء”. [3]

المرأة الأندلسية، على ما يبدو، كانت تتمتّع بحرية بالمقارنة مع المشرق، وكانت مثل الرّجل تطالب بحقّها في الحياة…

وقال صاحب “المغْرب” عنها “إنها في الغرب مثل علية في الشرق، إلا أن هذه تزيد بمزية الحسن الفائق، وأما الأدب والشعر وخفة الروح، فلم تكن تقصر عنها، وكانت لها صنعة في الغناء وإنشاد الشعر”. [4]

اختلفَ الكثيرُ من المؤرخين حول أخلاقيات ولاّدة… فثمّة من قال إنها، “كانت شريفة عفيفة، بنت عز وكرم”، وآخرون تعاملوا مع فنّها على نحو أخلاقي، فاتهموها بالانحلال الخلقي… بل إن بعضهم ذهب إلى أنها “مثلية جنسيا” واتهمومها بربط “علاقة مشبوهة” بخادمتها “مهجة”!

لكن الذي لم يختلف حوله أحدٌ هو أنها كانت ذاتُ ثقافة واسعة ومنفتحة على الآخرين. كما لم يختلف أحد حول فائدة “المجلس الأدبي” الذي افتتحته في قصرها، حيث كان مجمعاً للشعراء والأدباء في ذلك العصر، ونحن نتحدث هنا عن القرن الخامس الهجري.[5]

يقُول المقري في “نفح الطيب”: “كان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والشعر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غُرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، وعلى سهولة حجابها وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب وكرم أنساب وطهارة أثواب”. [6]

ابن زيدون… مُلهم ولاّدة!

تشير الكتبُ التاريخية إلى عشق استبدّ بولاّدة بنت المستكفي تجاه ابن زيدون، الذي كان أيضاً شاعراً ومثقفاً ووزيراً، فأصبحَ بذلك هو مُلهمها وصاحبُ النصيب الأكبر من قصائدها الغزلية!

في أول لقاء لها معه، بعثت إليه ببيتين من الشعر الجميل تحدد له في أولهما موعداً للقاء ليلاً، لأن الليل أكتم للسر، وفي ثانيهما توضح له ما تعانيه وتكابده بسبب حبه… إذ تقول [7] :

ترقب إذا جـنّ الظلام زيارتـي … فإنـي رأيت الليل أكتـم للسـرّ

وبي منك ما لو كان بالبدر ما بدا … وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسـر

وذكر ابن زيدون نتيجة ذلك اللقاء قائلاً: “وبتنا بليلة نجني أقحوان الثغور ونقطف رمّان الصدور”. [8]

على ما يبدو من هذا، فإنّ غزل ولاّدة كان عاطفياً روحياً، كما كان جسدياً وجنسياً في الوقت ذاته، وهو ما يُوضّحُ تحرّر ولاّدة جنسياً من رقبة التقاليد وهيمنة الدين في الأندلس.

فضلاً عن ذلك، فإنّه يُعرفُ أنّ ابن زيدون كانَ يغار من غريمه في حبّها، ابن عبدوس، والذي يُحكى أنه هو الذي كادَ له وألّب الحاكم عليه فغذّى ذلك الحقد الذي يكيلُهُ له، حتّى سُجن وهاجر من قرطبة.

كان ابن عبدوس يهوى ولاّدة أيضاً، وكان يقتربُ منها بين الحين والآخر، وكانت هي تستغل الأمر رغبةً في إشعال نيران الغيرة في صدر ابن زيدون… لكن ضربتهُ كانت موجعة لها، كما يُحكى!

تمادى ابن زيدون في إحدى الليالي بالتعبير عن إعجابه بصوت جارية ولّادة وهي تغني، وطلب منها أن تزيده وتكرر على مسامعه ما كانت تغنيه متغنياً بعذوبة صوتها. تذهب بعضُ الروايات إلى أنّه بالفعل أعجب بالجارية وتورّط معها… فانفجرتِ الغيرة في وجدان ولّادة… وقالت:

لو كنت تنصفُ في الهوى ما بيننا … لم تهو جاريتي ولم تتخيّر

وتركت غصناً مثمراً بجماله … وجنحتَ للغصن الذي لم يثمر

ولقد علمتَ بأنني بدر الـسما … لكن ولعتَ، لشقوتي، بالمشتري

فقستْ بعدَ ذلك وقلبت له ظهر المجن، وصاحبت غريمه ابن عبدوس، حين حدثت نكبة ابن زيدون وهرب من قرطبة إلى الزهراء، ولم تشفع له قصيدته التي أرسلها إليها، والتي تبدأ بالشطر المشهور: “إني ذكرتك بالزهراء مشتاقاً”. [9]

توفيت ولاّدة في عمر الثّمانين، وهناك من قال إنها ماتت في الخمسة وثمانين عامًا، وآخرون قالوا التسعين سنة… دون أن تتزوّج.

في الأخير، فقد ذهب أحد المُستشرقين، واسمه هنري بيريس، إلى أنّ ولاّدة بنت المستكفي تشكّل استثناءً وقُدوةً لنساء جيلها في الأندلس؛ لأنّ العادات في ذلك الوقت كانت تحتّم الخضوع لآراء الفقهاء… بينما رفضت ولادة ومثيلاتها الخضوع والانصياع، وفضلنَ التعبير عن أحاسيسهنّ بعفوية دون قيد أو شرط.

في أول لقاء لولادة مع بن زيدون، بعثت إليه ببيتين من الشعر الجميل تحدد له في أولهما موعداً للقاء ليلاً، لأن الليل أكتم للسر، وفي ثانيهما توضح له ما تعانيه وتكابده بسبب حبه…

وهو ما يفسّر أكثر، حسب بيريس، بلوغ المرأة في القرن الحادي عشر مكانةً ثقافية مُعتبرة، جعلتها تسعى إلى احتلال الصف الأول في المجتمع والمساهمة في شؤونه؛ وقد ساهم في هذا الأمر ازدهارُ الشّعر النسائي العاطفي آنئذٍ، حيثُ أضحت المرأة كياناً ناضجاً ومثالياً يقطعُ مع الصّور النمطية…

لا شكّ أنّ المرأة الأندلسية، على ما يبدو، كانت تتمتّع بحرية بالمقارنة مع المشرق، وكانت مثل الرّجل تطالب بحقّها في الحياة… هذا الأمر لا تجسّدهُ ولاّدة بنت المستكفي وحدها، بل أيضاً الشّاعرة حفصة الرّكونية، التي تعتبرُ قصائدها مظهراً من جرأة المرأة الشاعرة في منتهاها.

فمن هي هذه الشّاعرة؟ وما قصّتها؟ وأين يكمنُ منتهى الجرأة في أشعارها؟

سنحاول الإجابة في الجزء الثالث والأخير من هذا الملف.

[1] إحسان هندي، أشهر شاعراتُ الحبّ في بلاد الشّرق والغرب، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب وزارة الثقـافة، دمشق 2012.

[2] المرجع نفسه.

[3] نفسه.

[4] نفسه.

[5] نفسه.

[6] نفسه.

[7] يونس هاشم مجيد، معاني الغزل عند شاعرات الأندلس، مجلة الفتح، العدد الرابع والعشرون.

[8] المرجع نفسه.

[9] إحسان هندي، المرجع السابق.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *