المعتزلة… عقلنة الشريعة لإصلاح الخِلافة! 3 - Marayana - مرايانا
×
×

المعتزلة… عقلنة الشريعة لإصلاح الخِلافة! 3\3

عداء المعتزلة لبني أمية راجعٌ إلى اعتقاد الفرقة أنّ الأمويين عملوا على اغتصاب الخلافة، وأنهم فرضوا قوام دولتهم بالسيف مع تبريرها بفلسفة “الجبر”، ونحن نعرفُ أن المعتزلة كان شعارهم الاختيار.
ثمّة علاقة جدلية في منظور المعتزلة، بين الجبر والاستبداد… وبين الاختيار والحرية.

في الجزء الأول والجزء الثاني من هذا الملف، عرضنا لمرحلة ظهور الفكر المعتزلي، كما سلطنا الضّوء على أهم أفكار المعتزلة العقلانية في التّوحيد وفي الحرية وفي العدالة.

في هذا الجزء الثالث، نرى كيف نظّر المعتزلة لسياسة الخليفة، ومتى تجوز الثورة ضدّ الحاكم الجائر ومتى لا تجوز…

الحقّ أن المعتزلة رفضوا بالمطلق أن تكون ثمة قوى ميتافيزيقية غيبية تسند الحاكم؛ والإشارة هنا، أنّ الحاكم لا يستمدّ حكمه من الله. فالخليفة عندهم بالاختيار، لا بالنّص والوِصاية.

رأي المعتزلة سياسياً يتسم بنوع من الحيطة والاستنارة والتعقل في التخطيط للثورة والإعداد لها، وكذلك بالإيمان بعدالة القضية التي من أجلها تشهرُ السيوف وتراقُ الدّماء.

تحيل هذه الخُطوة على مبدأ “هيوماني” علماني، ينزع استبداد الحكام باسم الله، مع أنّ المعتزلة لا ينكرون الشّريعة.

العداء لبني أمية

عداء المعتزلة لبني أمية راجعٌ إلى اعتقاد الفرقة أنّ الأمويين عملوا على اغتصاب الخلافة، وأنهم فرضوا قوام دولتهم بالسيف مع تبريرها بفلسفة “الجبر”، ونحن نعرفُ أن المعتزلة كان شعارهم الاختيار.

ثمّة علاقة جدلية في منظور المعتزلة، بين الجبر والاستبداد… وبين الاختيار والحرية.

كان معاوية بن أبي سفيان أول من قال بالجبر ودافع عنه، و”أظهر أنّ ما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه ليجعلهُ عذراً فيما يأتيه ويوهم أنه مصيب فيه، وأن الله جعله إماماً وولاّه الأمر”، يقول المؤرخ الإسلامي البغدادي.

من الواضح أنّ الاختيار، لدى المعتزلة، ينتصبُ، صريحاً أو ضمنياً، من جهة أخرى على مضمون سياسي، يرمي إلى محاربة السلطة المغتصبة، على أساس أنّ وجودها نتيجة لفعل بشري، وأن إسقاطها لا يتمّ إلا بفعل بشري مضاد، مادام الإنسان حرّا في صنع أفعاله.

اعتقد بعض الباحثين أنّ المعتزلة، سياسياً، كانوا في صفّ معاوية يميلون إلى طرحه، على اعتبار أنه لم يتم اضطهاد زعمائهم خلال العصر الأموي، في حين يذهب البعض الآخر، ومنهم محمود إسماعيل، إلى أنّ المعتزلة، من الواضح أنهم كانوا في صفّ علي، ولذلك ينسبون عليّا لفرقة المعتزلة.

أمام اغتصاب بني أميّة للخلافة، كان من اللازم أن تناضل الفرق الإسلامية، رغم اختلافاتها الجوهرية، وتثور وفقاً لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي كان يوحّد فرق المعارضة حينها سياسياً وأيديولوجياً. حتى أنّ بعضهم حثّ على اللجوء إلى السيف لإقرار الحقّ ودرء المنكر في الدّولة. [1]

المعتزلة تمكنوا من استمالة آخر خلفاء بني أمية، مروان بن محمد، الذي اعتنق المذهب وسعى إلى الإصلاح. لكن الدولة وقتها كانت على شفير الانهيار، فكانت نهاية بني أمية سنة 132 هـ.

يتضمّن الأمر إذن خلافاً عميقاً مع أهل الحديث، الذين قالوا بتحريم السّيف، حتى لو كان الحاكم جائراً.

رغم ذلك، فإن الفرق تختلف في تطبيق هذا المبدأ؛ فالخوارج يعتقدون بصوابية وضرورة اللجوء إلى السّيف للثورة ضدّ الإمام الظالم دون مهادنة أو مواربة أو انتظار.

أمّا الإمامية، فقد اعتبروا اللجوء إلى القتال الدموي حكراً على الإمام، ودور الأمة يكمن، حسبهم، في إسداء النّصح لتقويم اعوجاج الخلافة.

بينما المعتزلة في هذا السّجال، أمسكوا العصى من الوسط، فيما بين الشّيعة والخوارج. فقد رأوا أنه من حق الأمة اللجوء إلى السيف لردّ المنكر والظلم والجور. بيد أنهم، مع ذلك، تحفظوا على المسألة قائلين: “إذا كنا جماعةً وكان الغالب عندنا أننا نكفي مخالفينا، وأن يكون الخروج مع إمام عادل”، كما ينقل محمود إسماعيل عن أحمد أمين.

على ضوء ذلك، يرى محمود إسماعيل أنّ رأي المعتزلة سياسياً، يتسم بنوع من الحيطة والاستنارة والتعقل في التخطيط للثورة والإعداد لها، وكذلك بالإيمان بعدالة القضية التي من أجلها تشهرُ السيوف وتراقُ الدّماء.

بهذا، تعاطفوا مع الفرق والصحابة وأهل العدل، الذين لم يستمروا في مناوءة بني أمية، خشية أن يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة على يد طغاة أهل الشّام. في أبجديات المعتزلة الثورية، “لا يصحّ الخروج إلا عند غلبة الظنّ بنجاح الثورة. [2]

يتضح هنا أنّ فكر المعتزلة لم يكن دموياً صرفا، بل ترك القتال إلى آخر مرحلة. لذلك، اتسمت معارضتهم بنوع من العزوف حيناً والسرية حيناً آخر؛ وذلك راجع إلى الحكمة في تقدير الظروف التي آل إليها سابقوهم من “الغيلانية” و”القدرية”، التي حملتها السّيوف الأموية على حين غرّة!

الاعتزال في بيت الحُكم!

يذهبُ محمود إسماعيل إلى الاستنتاج بأنّ سياسة المعتزلة تجاه بني أمية اتسمت بشقين، الأول هو السعي إلى ترشيد الخلافة في أفق احتوائها، والثاني هو الركون إلى العمل السري المنظم.

نجح المعتزلة في خطتهم التي ترنو إلى احتواء الخلفاء الأمويين الأوائل، وكذلك بعض بني عباس. هؤلاء الحكام تبنوا أفكار المعتزلة ونهجوا سبيلاً إصلاحياً في المجال السياسي.

على سبيل المثال، فإن الخليفة الأموي يزيد بن الوليد قال بـ”القدر” على شاكلة المعتزلة، ودعا الناس إلى الأخذ به، وبهذا يكون أول من أخذ أحد أسس الاعتزال الخمسة، حسب تقدير الكاتب.

الاختيار، لدى المعتزلة، ينتصبُ، صريحاً أو ضمنياً، من جهة أخرى على مضمون سياسي، يرمي إلى محاربة السلطة المغتصبة، على أساس أنّ وجودها نتيجة لفعل بشري، وأن إسقاطها لا يتمّ إلا بفعل بشري مضاد

فيما بعد، وقف المعتزلة إلى صفّ يزيد بن الوليد في منافسة الوليد بن يزيد، حتى ظفر الأول بالخلافة؛ فكان ذاك النجاح بمثابة نهج إصلاحي قاده المعتزلة، لضمان صعود خليفة ورع وزاهد، وسقوط غريمه الماجن والخليع.

بعدها، استرشد يزيد بطروحات الاعتزال، وسعى إلى تطبيق الشريعة على هذا الأساس. ارتفعت أسهم زعماء المعتزلة في بورصة الخلافة فكرياً؛ فبلغوا سدة الحكم، وتمكنوا من انتزاع مكانة اعتبارية تتيحُ لهم توجيه الحاكم وفق مبادئهم، لدرجة أنهم ألحوا على الخليفة أن يختار ولاة عهده ممن كانوا على شاكلته في الدين والورع. [3]

بيّنت التجربة أنّ تأثير المعتزلة على يزيد لم يكن دينياً فقط، بل كان أيضاً ذا بعد سياسي، شمل شؤون الحكم بدورها. [4]

أكثر من ذلك، فإن محمود إسماعيل يورد أن المعتزلة تمكنوا من استمالة آخر خلفاء بني أمية، مروان بن محمد، الذي اعتنق المذهب وسعى إلى الإصلاح. لكن الدولة وقتها كانت على شفير الانهيار، فكانت نهاية بني أمية سنة 132 هـ.

يبدو أن المعتزلة راهنوا على ورقتين خاسرتين، فالخليفة الأول توفي شهوراً بعد توليته، والثاني طوّحت به الثورة العباسية…

وحتى في أوج العصر العباسي، ظلت المعتزلة وفية في أسلوب مخاطبتها للحكام، أي إسداء النصح والمشورة والاحتواء، فنجحوا في استقطاب الخليفة المأمون، فأعلن حينها الاعتزال مذهبا رسمياً للدولة.

لكن…

عاد المدّ السني بقوة إلى الواجهة في عهد الخليفة المتوكل، وبدأت محنة المعتزلة واضْطُهِدوا وأحرقت كتبهم أيضاً.

ما يتضح بعد كل هذه الحكاية أن انتصار الفكر السني الغيبي على الفكر الاعتزالي العقلي، لم يكن انتصاراً فكرياً، بل سياسياً يتقوى من السلطة ومحيط الخلافة…

كما أن نهاية المعتزلة تاريخياً، وفشل مشروعها العقلاني، كانت بمثابة وأد مولود جديد يخرج من رحم التراث… ذاك المولود لم يكن سوى العقل الإسلاميّ في بداية تشكّله ونضجه.

المؤسف أن هزيمة العقل تركت الساحة فارغةً لتغلّب الآراء الظلامية اللاعقلانية، والتي لازالت مهيمنة في شق كبير على البلدان العربية والإسلامية ككل، إلى… يومنا هذا.

هوامش:

[1] محمود إسماعيل، الحركات السّرية في الإسلام، الطبعة الخامسة 1997.

[2] المصدر نفسه.

[3] نفسه.

[4] نفسه.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *