الفرح والتّسلية عند المغاربة: تغيرت الأشكال… لكنّ الرّوح واحدة
الفرح هو الشعور الذي فطن إلى أهميته الإنسان لمقاومة توحش ما، وابتدع، بالتبعة، أشكالاً تنجيه من المضمون المرعب للحياة. منذ العصور البدائية القديمة، انتزع المغاربة، ككلّ البشر، أنماطًا للاحتفال وخلقوا طقوسا للتّسلية والمرح، بغية تبديد رتابة الوجود، بما يتماشى وبيئتهم وزمانهم ومجالهم ومكانتهم الاجتماعية وميولاتهم وتركيبتهم النّفسية.
لكن الفرح عند المغاربة اتّخذ طابعا قيميًّا وخصوصيًّا ينتمي إلى ثقافتهم بشكل حصريّ… وسايروا الطّبيعة المتغيرة والمتحولة لتلك الثقافة في مختلف مناحيها.
الاحتفال كطقس اجتماعيّ
حسان حجيج، جامعي باحث في الأنثروبولوجيا، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بكلية الآداب فاس – سايس، يقول إنّه يمكننا أن نلتقط البدايات الأولى للفرح عند الإنسان حين كان يصطاد حيوانا ما، فيشعل النار ويلتفّ حوله بالصراخ والرقص كنوع من الانتشاء وإشباع أشياء روحية خالصة، وهذا كان حاضرا عند المغاربة “البدائيين”، إن شئنا.
لكن، لو أردنا التعمق قليلاً، فأشكال الفرح تحوّلت في سياق تاريخي، متبدّل باستمرار؛ لأنه، لو نظرنا مثلاً لأحد أبرز طقوس الفرح عند الأمازيغ: أحيدوس. هذا الطقسُ تغيّر من شكله الدائري الصارم، وصار عبارة عن خطّ مستقيم، مراعاةً للشّروط التي أملاها الشّكل المسرحيّ، نظرا لكونه حتّم نمطا خطيًّا. لكنه حافظ على روحه ومنبعه: نحن هنا لنفرح، نحن هنا… لنحتفل. طقس أحيدوس في بداياته كان يُشبه التوجه الذي يحتفي بالغنيمة.
حجيج يرى في تصريحه لمرايانا أنه، أنثروبولوجيًّا، الطريقة التي قدمت بها أحيدوس في البداية، كانت مرتبطة بالأكل والإشباع والشِّواء و”الزردة”، وفق الدارجة المغربية. والناس حينها، بمختلف مشاربهم وأعراقهم، ربطوا الفرح الوجداني بفرح فيزيولوجي يعبر عنهُ الغذاء. ذلك أنّ العرس وحفلات العقيقة وباقي المناسبات هي موسمية، وغير معروف متى يمكن الحصول على فرصة أخرى. لذلك، كان أحيدوس والفرح يمتزجان جدليًّا، أو الرقص والوليمة في بيئة أخرى، ليقدّما إحساسًا وجوديًّا بحتًا.
من ناحية مغايرة، فإن حجيج يقرأ الفرح كوريغرافيًّا، معتبراً أن هناك ما يؤكد أن النزوع الجمعي للحفلات والمناسبات، لا ينطبق على المكون الأمازيغي فقط في تقاليده وطقوسه، بل نجد الأمر عند مختلف المناطق المغربية، التي توضح في العمق أن هناك تماسكًا ما. هذا التماسك يرجع بالضّرورة للموروث الثّقافي، فكلّ من تفرّق قد يجتمع في لحظة فرح، وكل الغائبين قد يحضرون عندما يحضر الفرح محيطا ما. الوحدة في التنوع من أبرز الأشكال التي يعبر عنها الفرح عند المغاربة، فنحن نفرح بطقوس مختلفة، لكن شعورنا بالانتماء واحد.
لهذا، يصبح الرقص مدهشًا حين يكُون جماعيًّا ونسقيًّا، وفق ما يذكره الباحث. وحتى لو سلمنا أنّ ظهور الرقص الفردي حديثًا غيَّر كثيراً من الاعتبارات لدينا تجاه الفرح، فإنّ الشكل الجماعي بقي حاضرا. فالاحتفال حين يكون جماعيًّا يكون هناك تكامل، والدّليل أن الذي صوته خشن ولا يصلُح للغناء، حين يتماهى مع أصوات الجموع في لحظة انتشاء، يبدو صوتا رائقًا ورائعًا ومنسجمًا…
وليس ترفًا أن تعود السياسات العمومية بالمملكة المغربية إلى الاهتمام بالتّراث الشعبي والعيطة والشيخات وكناوة وتنظيم المهرجانات والملتقيات الفنيّة، وذلك لأنّ الفرح هو أحد أسس الدّيمومة والاستمرار الرّوحيين للشّعوب.
لكن، لماذا تحوّل مفهوم الفرح؟
يعدّ العرس هو الحفل الأول للفرح، لأنه ليس هناك عرس بلا احتفال أو موسيقى وغناء، والعرس في حد ذاته احتفال، ولا وجود لعرس بدون طقوس، بما أنه خليّة الفرح الأولى…
لهذا، يعتبر الباحث جلال زين العابدين، الباحث في التسلية عند المغاربة، أنّ “العرس وباقي الاحتفالات، التي كانت تعكسُ صوراً متنوّعة للثقافة الشعبية المغربية، وتترجم أيضًا غنى وثراء وعراقة العوائد التي خلفها الأجداد، طالتها تقريبًا، منذ بداية القرن الحالي، تحوّلات عميقة كما طالت باقي المظَاهر والسّلوكات الاحتفاليّة التي يُحيي بها المغاربة مناسبتهم الدّينية والاجتماعية.
هذه التحولات، في عمقها، ارتبطت بما حملته العولمة والتطور التقني الكبير من تحول قيمي وتكريس لقيم الفردانية على حساب مظاهر التآزر والتضامن والتكافل، التي كانت عنصرا أساسيًّا في تنظيم الأعراس والأجواء الاحتفالية المغربية“.
يضيفُ زين العابدين في تصريحه لمرايانا، أنّ العرس ومختلف المناسبات الاجتماعية، ظلت لقرون طويلة بمثابة شكل من أشكال الفرح والتسلية التي كان المغاربة، وما زالوا، يوثقون من خلاله للزواج وحفلات الختان والعقيقة، ويحتفلون بهذه المناسبات وفق طقوس تختلف من منطقة لأخرى ومن طبقة اجتماعية لأخرى.
لكن، الواضح أن المناسبات دائما ما كانت متباينة الأثر، فعرس العامّة ليس هو عرس الخاصة. وطقوس عرس البادية ليست هي طقوس المدينة، لكنّ الجامع بينها هو حضور روح الفرح ومعناه بأشكال مُختلفة.
يعتبر الباحث أنّه “بصفة عامة تنوعت طقوس وعادات العرس المغربي بتنوع المناطق والثقافات، ومستويات الخلق والإبداع لدى كل مجتمع ومنسوب المعاني والقيم التي يستجيب لها. فهو بمثابة المرآة العاكسة التي تعكس في تنوعها وتعددها عناصر وجود هوية المجتمع”.
طبعًا، تفنن المغاربة في تطوير وفي ابتكار أشكال مختلفة لإدارة وتنظيم أعراسهم بما ينسجم ووضعيتهم الاقتصادية والاجتماعية، المتحولة باستمرار بفعل وتيرة الحياة المتسارعة.
تحول ذو حدّين…
بشكل عام، يرى جلال زين العابدين أنّ التّحديثات التي طالت مفاهيم الفرح والتسلية خضعت للطبيعة المتحولة للحياة، بفعل ما أتاحته مواقع التواصل الاجتماعي للانفتاح على تجارب أخرى وشعوب أخرى، وأصبح الفرح، ليس فعلاً ثقافيا محضا، يمارسه الفرد ضمن مقولات الثقافة الجاهزة، بل أصبح الفرد المغربي يرمّق أشكال فرحه بالمزج والدّمج بين الثّقافة المحلية والثقافة العالميّة.
المغربي، بهذا المعنى، يمكن أن يحتفل بالهالوين وبعاشوراء وبأعياد الميلاد، ويمكن أن يذهب للمهرجانات والسّهرات ليستمع للموسيقى والرّقص بمفرده أو مع أصدقائه… وغيرها من الأشكال الحديثة والمُعاصرة للدلالة الثقافية للاحتفال.
لكن الاحتفالات والتسلية عموما، تبقى من غايَاتها الأولى، الصريحة والضمنية، هي نسف الروتين، وفق ما يفسره زين العابدين، وذلك سواء تعلق الأمر بأشكالها التقليدية أو الحديثة. وبما أنّها تؤدي الوظائف المرجوّة من ورائِها في إضافة معنى ما للحياة اليومية، فالتحولات ليست دائمّا سيّئة. وإنّما التبدلات القيميّة التي همت مكنونات الفرح، منحت الأنثى الفرصة في أن ترقص مزهوّة، وأن تغني بصوت عال ومرتفع… في مختلف المناسبات والسّياقات، وأن تنفلت من اعتبارات ما…
يجمل زين العابدين، أن التّحول الذي طرأ على جوهر التسلية، جعلنا نعاين حالات خطِيرة، مثل البحث عن الفرح بشكل مرضي. وهو ما ارتبط عند بعض الأطفال بالألعاب الإلكترونية وألعاب الفيديو خصوصًا، فهذه الأشكال أصبحت تطرحُ مشكلا حقيقيا بالنسبة لكثير من العائلات، سواء من حيث السلوك أو التربية، إلخ.
أخيراً، يبدو أنّ الفرح ملازم لكل الشعوب، بما فيها المغاربة عمومًا. والشعوب لا يمكن أن تحيا دون فرح، ولا يمكن أن يكون “الحزن” وضعًا عامًّا دائمًا، فالمغاربة حافظوا على جوهر الفرح، ولو غيروا صوره وأنماط حضوره.
مقالات قد تثير اهتمامك:
- كيف حولت رغبة الإنسان في التجديد، العالمَ، من الفرح إلى الدمار؟ 2/1
- المجتمعات الإنسانية: من العيد إلى الحرب… من الفرح إلى الدمار! 2/2
- “مدينة عدن تتنفس فنًا وموسيقى بعد سنوات الحرب والتطرف الديني”
- الإبادة الثقافية: الفظاعة الناعمة للبشرية! 2/1″
- “الوجه الآخر لصلاح الدين الأيوبي… كما رسمته المصادر الإسلامية السنية 5/1”