ابن الرومي: شيء من التشيع والثورة… والاعتزال! 1\2
كان شاعراً مختلفا وصادقا، لم يهادن حتى نفسه…
جمع في شعره بين مؤثرات روميّة يونانيّة “خارجية” عن الثقافة العربية في ذلك الزمان، ومؤثرات أخرى داخلية تنتمي للتراث الشعري الذي سبقه منذ ما يسمى بـ”الشعر الجاهلي”.
جمع بين النقيضين فتألّب عليه شعراء زمانه ونقادها ونحويّوها.
لكلّ ذلك، هو ابنُ الروميّ الذي لم يكتفي بذمّهم له، بل ساعدهم حيث نالت ذاتهنصيباً من الذم الذاتي والهجاء؛ بمعنى أنّ ذات ابن الرومي كانت في حد ذاتها موضوعاً هجائيًّا له، وكأنه يريد من شعره أن يغدو مرآة لروحه وبوحا دافئا لرفضه للعصر وتطيّره من الأوضاع. كان شجاعاً مثل أبي نواس والمتنبي وغيرهم.
ابن الرومي: مشاهد لا بد منها!
اسمه أبو الحسن علي بن العباس بن جریج (جرجيس) مولى عبيد الله بن جعفر بن المنصور. جده جریج رومي قح، وترجّح بعض المصادر أن أباه كان أسيراً روميًّا. بعض المراجح رجحت، أيضًا، أن يكون زمن أسره إبان طفولته أو في زهرة شبابه، ويعتقدون أنّ اسمه “العربيّ” الأصل: عباس، تمّ انتقاؤه تقربًّا للعباسيين الذين وهبوه حريّته.
لكنّ متون ابن الرومي الشعرية التي اعتمدت لدراسة معظم صور حياته، ليس فيها ما يفيد في أن والده كان عبدا أو رقيقا. عدم ذكر والده كثيراً في قصائده، وعدم تعرّضه لموته بالرثاء حين ترجّل، دفع بعض النقاد المعاصرين، على غرار العقاد، إلى القول بأنّ والده توفي خلال طفُولته.
على خلاف والدته التي رحلت عنه وهو كهلٌ، ورثاها في قصيدة يقول فيها:
أقولُ وقد قالوا أتبكي كفاقدٍ … رضاعاً وأين الكهلُ من راضع الحلَمْ
هي الأُّمُّ يا للنَّاسِ جُرِّعتُ ثُكْلَها … ومن يبك أُمَّا لم تُذَم قَطُّ لا يُذَمْ
هذه المرأة التي خرج من رحمها هذا “الجهبذ”، كانت فارسيّة الأصل اسمها حسنة بنت عبيد الله السجزي.
في أشعاره ما يخبرُ بهذا النسب المختلط:
وكَيْفَ أُغضي على الدَّنِيَّة ِ والْـ … فُرسُ خؤولي والرومُ أعمامي
وقد تَتَوَّجْتُ من ولاء أبي الـ … عباس تاجا يسْمُو به السَّامي
من هذا النسب “الهجين”، تمخّض هذا الاسم: ابن الروميّ. علّه روميُّ الهوى. علّه “ثائر”… وُلد في دار بإزاء قصر عیسی بن جعفر بن المنصور، بدرب الخثلية ومنطقة العتيقة (أو العقيقية من الجانب الغربي من بغداد)، يوم الثاني من رجب عام 221 هـ.
كان هذا المولود هو النجل الثاني، إذ جاء لاحقاً لشقيقه محمد، الذي سيحمل لقب أبا جعفر، لأن ابن الرومي كان اسمه عليًّا، ولقّب بأبي الحسن. وهي أسماء ذات حمولة دينية، تحيل على نشوئهما في عائلة بنزوع شيعيّ.
رغم ذلك، لم يكن مغرقًّا في التّدين، ولم تكن العقيدة لجاما له، فها هو أحد الباحثين يخمّن أنّ ابن الرومي “قضى شبابه في اللهو والملذات والنزهات، كما يظهر من شعره الذي يتذكر فيه شبابه، أو في وصفه للرحلات والمجالس والقيان والشراب وغير ذلك. ولا نظن أنه تزوج في فترة مبكرة من شبابه، لأن الزواج قيد ثقيل على شاب لاه عابث”، كما يقول الباحث ركان الصفدي.
يطلعنا شعره أنّه تزوّج مرتين، والثانية كانت بعد أن اختطفت المنون الأولى. وكان له ثلاثة أبناء، أكبرهم هبة الله، وأوسطهم محمد، وأصغرهم غير معروف ولم يذكر اسمه في شعره. وأبياته أيضا تخبرنا بأنهم قضوا نحبهم جميعا وتركوه حيًّا يبكيهم واحداً تلو الآخر، ويسكبُ دموعه شعراً ورثاء.
ورد في الكتب التاريخية أنه تتلمذ على يدي محمد بن حبيب، وقد كان صديقا لوالده. محمد بن حبيب هذا هو لغوي نسّابة كبير (كثير العلم بالأنساب) في ذلك الزمان.
كان ابن الرومي أميل في شعره إلى أبي تمام، وعلى النقيض من البحتري. وكان له خصوم شداد من الشعراء والنحويين، خصوصاً اللغوي والنحوي المسمى الزجاج. كما كان يزدري لغويا آخر هو المفضل بن سلمة، لكنهم فشلوا في سعيهم لأنهم لم يستطيعوا لشعره شيئا، فهو كان واسع الاطّلاع باللغة، ولم يعثروا على ثغرات يصفعونه بها. لذلك، التجؤوا، حسب العديد من النقاد المعاصرين، كالعقاد وركان الصفدي، إلى الطعن فيه، وتحطيمه نفسيًّا والنيل منه بنقائص شخصه.
شيعيّ معتزليّ وفقير
على خلاف غيره من الشّعراء، لم يكُن ابن الرّومي شاعراً مدعوًّا لبلاط الخِلافة، ولم تكن تغدق عليه العطايا والهبات من الخلفاء.
عاش أواخر عمره ثوريًّا مسحوقاً. يحكي في قصائده عن فقره المدقع وضعفه وقلة حاجته. فقرهُ هذا يعرضُ على ممدوحیه في شعرٍ بليغ بحُسن بيان فريد… يقول:
ثَوْبيَ الرثُّ والثيابُ طِرَاءٌ … وطعامي بِرَغْمِيَ المجشُوبُ
وخِوَاني مُلَكَّكُ وقِصَاعي … وَبرامي فكلُّها مَشْعُوبُ
ويقول في موضع آخر :
أبعْدَ ما اقتطعوا الأموال واتخذوا … حدائقاً وكروماً ذاتَ تعريش
يُحاسدوني وبيتي بيتُ مسكنةٍ … قد عَشَّشَ الفقرُ فيه أيَّ تعشيش
لكن الراجح أن الفقر لم يزرهُ إلاّ في النصف الثاني من حياته. تحالفت عليه المصائب والمواجع والفواجع، بعد فقدانه كل أفراد عائلته والتهمت النّيران ضيعته المزروعة وغرق في الديون. هناك من الناس من حاول التّسلط عليه ليغتصب منه أملاكه ومسكنه. يقول مخاطبا سليمان ابن عبد الله الأمير، مستغیثا به:
ولي وطنٌ آليت ألا أبيعَهُ … وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا
عهْدتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً … كنعمةِ قومٍ أصبحوا في ظِلالكا
فقد ألفَتْهُ النفسُ حتَّى كأنه … لها جسدٌ إن بانَ غودِرْتُ هالكا
وحبَّب أوطانَ الرجالِ إليهمُ … مآربُ قضَّاها الشبابُ هنالكا
إذا ذكروا أوطانَهُم ذكَّرتهمُ … عُهودَ الصبا فيها فحنّوا لذلكا
وقد ضامني فيه لئيمٌ وعزَّني … وها أنا منه مُعْصِمٌ بحبالكا
وأحْدث أحْداثاً أضرَّت بمنزلي … يريغُ إلى بيْعِيْهِ منه المسالكا
كان شاعراً نافراً من كلّ شيء في عصره. كان متطيراً. في أشعاره ما يدلّ على ذلك:
لا تهاوَن بِطيرة ٍ أيُّها النَّظْ … ظارُ واعلم بأنَّها عنوان
قِفْ إذا طِيرة ٌ تلقَّتْكَ وانُظرْ … واستمعْ ثَمَّ ما يقولُ الزمان
قد أتى عن نبّينا حبُّه الفأ … ل مضيئاً بذلك البرهان
خبَّر اللَّهُ أنَّ مَشْأمةً كا … نَتْ لقومٍ وخبَّر القرآن
هذا التطير فسّره حسين مروة بإرجاعه إلى نزوع “أيديولوجي” لدى ابن الرومي. ذلك أنه كانت ثمّة دوافع اجتماعية وسياسية كانت تلوّن نفسية ابن الرومي وتزيد في اضطراباتها وخللها، يلخصها مروة في جفاء الدولة له، ورهافة حسه، والانحلال الاجتماعي والانهيار الاقتصادي في الدولة، وإغداق أموال الدولة على المتزلفين دون حق، وحاجته وفقره وفقدان أولاده.
بهذا المعنى، يؤكّد حسين مروة أن طيرة ابن الرومي جاءته من خارج نفسه، أي من ظروف حياته كلها، وما تسببت فيه أوضاع الدولة العباسيّة. هكذا، التطير ليس طبعًا أصيلاً قد خلق فيه، بحسب هذا التفسير، والدليل الذي يقدمه مروة هو كون جميع الأخبار التي رواها المؤرخون عن أعراض الطيرة في ابن الرومي، إنما ترجع إلى ما بعد العقد الخامس من عمره.
يشير الباحث ركان الصفدي في كتابه “ابن الرومي: الشّاعر المجدد”، أنّ ابن الررمي “لم يكن متدينا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وإنما كان رقيق الدين، بعيداً كل البعد عن التقى والورع، يشهد على ذلك هجاؤه الفاحش الذي لا يمكن أن يصدر عن رجل يحترم الدين ويؤمن بالمقدسات التي لا ينبغي ابتذالها، كالقرآن الكريم والكعبة والأنبياء وما إلى ذلك”.
الواضح أنه كان متشيّعا. وتشيعه هذا، يعتبرُه ذا طبيعة سياسية، خصوصا أنه كان، على الأغلب، زيديا في تشيعه. بعض قصائده تحمل هجوما لاذعا على الخلفاء العباسيين، رغم أنه مدح بعضا من وزرائهم، لكنه كان يرفض تهميش الخليفة لآل البيت، وما يؤكده هو مدحه المعتضد لرأفته بمن جعل من التّشيّع مذهبًا عقديًّا.
هناك من قال إنه كان من شعراء الشعوبيّة، رغم أنه لا يعثر له على أشعار تهجم فيها على العرب على نحو عرقيّ. لكنه كان معتزليًّا، وهذا واضح في أشعاره حيثُ يقول:
أأرِفض الاعتزَال رأياً … كلّا لَهنِّي به ضنينُ
يقول في إحدى قصائده وهو يخاطب أحد أعلام المعتزلة، وهو العباس بن القاشي المعتزلي:
مقالةُ العدل والتوحيد تجمعنا … دون المضاهين من ثَنَّى ومن جحدا
إن لا يكن بيننا قُربى فآصرة … للدين يقطع فيها الوالدُ الولدا
ماعذر معتزليٍّ مُوسعٍ مَنَعتْ … كفَّاهُ مُعتزليَّاً مُقتراً صفدا
واضح من هذه الأبيات، انتماؤه لقبيلة العقلانيين في القرن الثالث، أي المعتزلة، بل هو يخبرنا صراحةً باعتناقه مبدأ العدل والتوحيد، وهو من أسس مذهب الاعتزال. ولا يدهشنا إن وجدنا عنده أبياتا تحتفي بالاختيار على مذهب المعتزلة:
أنَّى تكون كذا وأنت مُخَيَّرٌ … مُتَصرف في النقض والإمرارِ
يقول في موضع آخر:
الخيرُ مَصْنوعٌ بصانِعِهِ … فمَتَى صنعْتَ الخيرَ أعقبكا
والشَّرُّ مفعولٌ بفاعِلِهِ … فمتى فعلْتَ الشر أعطبكا
يتماهى ابن الرومي هنا مع المعتزلة الذين يرفضون “الجبرية”، التي تنفي الإرادة والاختيار. لذلك، فالشر يصنعه الإنسان والخير يصنعه الإنسان ولا شأن “للقدر” به. هم يقولون ذلك اعتقادا في تمام العدل الإلهي، على اعتبار أنه، إذا كان الخير والشر مقدرا من عند الله ومكتوبا عنده ابتداءً، لماذا يحاسبُ عليه الإنسان جزاءً حسنا أو عكسه؟
ابن الرومي، إذن، كان معتزليًّا، بمعنى أنّه كان شاعراً يحتكم للعقل والمنطق وجعل من العقل آلية لتهذيب الإيمان، كما كان يبني معتقداته على أسس التّفكير. ربما في ذلك شيءٌ من الاطمئنان تجاه ما هو غيبيّ.
في الجزء الثاني، نعاين كيف كان ابن الرومي معارضا بشدة للخلافة العباسيّة، كيف هجاها، وكيف عاش حياته في ظلّ التسلط التركي على العباسيين.
مقالات قد تثير اهتمامك:
- خمريات أبي الهندي… أبو نواس “استولى” على أكثر معانيه في نعت الخمر ووصفها.
- من تاريخ الخمر: المجون العباسي… لأول مرة، تخصيص موظفين برواتب في البلاط مكلفون بشؤون الشراب!
- مظاهرُ الحداثةِ في الشعر العربي… أبُو نواس والتغزل بالغلمان 2/1
- الشُّعوبية: حين أشعرَ العربُ “المواليَّ” بالميز العرقي الذي نهى عنه القرآن والرسول! 2/1
- توريث جاه النبوة: سياسة للناس، توسيع للنفوذ ومراكمة للثروات! 3/2