الإلحاد في تاريخ الإسلام: حين استنفدت الروح العربية قواها الدينية! (الجزء الأول)
يلعب الأنبياء في الروح العربية أبرز دور في الحياة الدينية. الدين بصفة عامة يقوم عليهم. وكما تشكل فكرة النبوة عصب الدين وجوهره، فالقضاء عليها يشكل عصب الإلحاد العربي… وطالما أن النبوة هي السبيل الوحيد إلى الألوهية، فإن إنكارها، يعني عمليا قطع الصلة بالإله.
من يقرأ تاريخ المنطقة العربية يخلص إلى أن تاريخها تاريخ إيمان… هذا ما تبرزه الكتابات الإسلامية، في حين تجاهلت عن عمد أو غيره، أي جانب يتعرض للتشكيك في الدين.
الإلحاد كفكرة كان حاضرا بقوة في زمن مضى في البلاد العربية/الإسلامية، بخاصة بين القرنين الثاني والرابع للهجرة، حيث استنفدت الروح العربية قواها الدينية على نحو ما، فظهرت جماعات عدة، تروم هدم فكرة النبوة وإنكار الله.
أحد أهم الكتب التي تناولت الإلحاد في التاريخ الإسلامي، كتاب المفكر المصري عبد الرحمن بدوي “من تاريخ الإلحاد في الإسلام”. فعلتْ ذلك، دون دفاع ولا هجوم، إنما لغاية التوثيق لجانب خفي، أو على الأقل متناثر، في تاريخ المنطقة العربية.
كتاب نعتمد عليه في هذا الملف، بجانب مصادر أخرى، لنتعرف على أبرز الذين اتهموا بالإلحاد في التاريخ الإسلامي، وعلى الأسس التي دفعتهم لانتقاد الأديان وكذا اعتراضاتهم عليها، وكيف استعملت تهم الإلحاد لقتل الكثيرين منهم.
خلافا للحضارات الأخرى، التي يكون فيها الله مقصد الإلحاد مباشرة، ترك الملحدون في الروح العربية، الألوهية، واتجهوا صوب فكرة النبوة والأنبياء.
إذا كان الإلحاد الغربي، مثلا، هو ذاك الذي يعبر عنه قول نيتشه: “لقد مات الله”، والإلحاد اليوناني هو الذي يقول إن “الآلهة المقيمة في المكان المقدس قد ماتت”، فإن الإلحاد في صيغته العربية يقول: “لقد ماتت فكرة النبوة والأنبياء”.
يقول بدوي إنه كان لا بد للإلحاد العربي أن يصدر عن الروح العربية لطبيعة الصلة بين الله والعبد، إذ إنه ثمة هوة هائلة بين الطرفين، لا يردمها سوى الوسيط الذي يحمل كلمة الله؛ أي النبي بعبارة أخرى.
اقرأ أيضا: “الأصولية” في الديانات الثلاث: مدخل (الجزء الأول)
في الروح العربية، يلعب الأنبياء أبرز دور في الحياة الدينية. الدين بصفة عامة يقوم عليهم. وكما تشكل فكرة النبوة عصب الدين وجوهره، فالقضاء عليها يشكل عصب الإلحاد العربي.
في الحقيقة، إنكار النبوة يتعداها ويمتد إلى الألوهية نفسها. فطالما أن النبوة وحدها سبيل الروح العربية إلى الألوهية، فإن قطع الصلة بها، تعني عمليا قطع السبيل إلى الألوهية.
في الروح العربية، يلعب الأنبياء أبرز دور في الحياة الدينية. الدين بصفة عامة يقوم عليهم. وكما تشكل فكرة النبوة عصب الدين وجوهره، فالقضاء عليها يشكل عصب الإلحاد العربي.
منذ القرن الثاني للهجرة وحتى الرابع، كانت الروح العربية قد استنفدت كل قواها وإمكانياتها الدينية الخصبة، وفق بدوي؛ خصوصا في المسيحية واليهودية والمانوية والزراديشتية، ثم بمجيء الإسلام الذي توج هذه الأديان كلها.
هذا التطور اقتضاه منطق التطور الحضاري أساسا. أما العوامل الأخرى، فظلت، وفق بدوي، عوامل مساعدة وحسب، لا عوامل حاسمة.
من هذه العوامل، الانتقام الشعوبي من جانب المغلوبين وما يتبعه من تعصب لدينهم القديم. العصبية العربية دائما ما قامت على الدين، باعتباره العامل الحاسم في تكوين قوميات ودول بلاد تلك الحضارة.
من بينها أيضا، نزعة التنوير التي نشأت في العالم العربي الإسلامي نتيجة لانتشار الثقافة اليونانية في أصقاعه.
اقرأ أيضا: من اليمن، حسين الوادعي يكتب: شبابنا بين الإلحاد والإيمان
هذه النزعة بدأت من قبل في بلاط كسرى، وكانت حركة ابن المقفع وابن الراوندي وابن زكريا الرازي امتدادا لنزعة التنوير الفارسية تلك، التي قامت كأي نزعة تنوير أخرى على تمجيد العقل من جهة، وعلى فكرة التقدم المستمر للإنسانية من جهة أخرى.
هذه الفكرة جاءت لتمثل اتجاها يخالف الاتجاه السنني الخالص، الذي يرد كل شيء من العلم إلى النبي، بينما يرى في أي ابتعاد عن عهد النبي تقهقرا في العلم، ومن ثم في الحضارة والتمدن.
ثمة خاصية ثالثة هنا يوردها بدوي، هي النزعة الإنسانية؛ أي تلك النزعة التي ترمي إلى الارتفاع بالقيم الإنسانية الخالصة مقابل القيم الإلهية والنبوية. ونجدها واضحة لدى الشعراء، بخاصة جماعة “عصابة المُجّان”، كما أطلق عليها “ماجنها الأكبر” أبو نواس.
اعتماد عدد من الشخصيات في التاريخ الإسلامي على فكرة التقدم المستمر للإنسانية جاء ليمثل اتجاها يخالف الاتجاه السنني الخالص، الذي يرد كل شيء من العلم إلى النبي، بينما يرى في أي ابتعاد عن عهد النبي تقهقرا في العلم، ومن ثم في الحضارة والتمدن.
ما نسب إلى هؤلاء من عبث وشك، كان يقصد به في الحقيقة السمو بكل ما هو إنساني أرضي، حسي، يشعر بمعنى الأرض. بالمقابل، الحط من كل ما هو فوق أرضي بوصفه، وفق بدوي، وهما زائفا ينتزع الدم والحياة من الإنسان الحقيقي، الإنسان الحي المكون من لحم ودم.
حين قال الشاعر بشار بن برد: “روّحي عني يا عبدة واعلمي… أنني يا عبدة من لحم ودم”، فإنما كان يود القول لصاحبته عبدة أنه كائن حي عينيّ يريد أن يعب من كأس الحياة، لا خيالا كاذبا أو هيكلا نورانيا مزعوما ينزع إلى الموت ويشيح بوجهه عن الحياة كما يدعي المتدينون.
اقرأ أيضا: الإلحاد الجديد وعلاقته بالتطرف الديني: موريتانيا نموذجا
هؤلاء، اتصف تنويرهم جميعا بأنه يطلب الحرية بكل ثمن دون أن يعبأ بما سيناله من جرائها؛ فاندفعوا يعلنون آراءهم بكل شجاعة وصراحة، على الرغم مما كان يتوعدهم به الخليفة من عذاب، وما لقيه أكثرهم من اضطهاد.
أغلبهم فضل الموت فداء لتلك الحرية الفكرية التي لم يرضوا بغيرها بديلا، كما هو الحال مع ابن المقفع وصالح بن عبد القدوس وكثير غيرهم.
كان هؤلاء يعتبرون الموت في سبيل مبادئهم استشهادا. لذا، يظهر أن الدولة تركتهم يفعلون ما يشاؤون في النصف الثاني من القرن الثالث للهجرة، وطوال القرن الرابع… لسبب بسيط…
لقد آثرت حرمانهم من فخر الشهادة.
في الجزء الثاني نواصل الملف مع قصص بعض أشهر المتهمين بالإلحاد في تاريخ الإسلام، والذين كانت لكثير منهم نهايات مأساوية، كما هو الحال مع ابن المقفع.
لقراءة الجزء الثاني: أشهر المتهمين بالإلحاد في التاريخ الإسلامي: ابن المقفع (الجزء الثاني)
لقراءة الجزء الثالث: أشهر المتهمين بالإلحاد في التاريخ الإسلامي: ابن الراوندي (الجزء الثالث)
لقراءة الجزء الرابع: أشهر المتهمين بالإلحاد في التاريخ الإسلامي: أعظم أطباء الإنسانية… الرازي (الجزء الرابع)
لقراءة الجزء الخامس: أشهر المتهمين بالإلحاد في التاريخ الإسلامي: أبو العلاء المعري (الجزء الخامس)
لقراءة الجزء السادس والأخير: علماء حاربهم الفقهاء… هؤلاء 6 من أهم علماء الإنسانية المسلمين الذين اتهموا بالزندقة والكفر (الجزء السادس والأخير)