المخزن: استخدام “الرمزية”… الجانب الخفي والأهم لممارسة السلطة وترسيخها 3\4
الحضور المادي لحكم معين، يستحيل، في غياب رموزه؛ فالرموز لازمة لوجود أي حكم وللمحافظة على استمراريته بل وتنمية الولاء له… فكيف استخدم “المخزن” الرمزية إذن؟ ذاك ما نتابعه في الجزء الثالث من هذا الملف.
تحدثنا في الجزء الثاني عن بعض من أوجه السلطة المادية لـ”المخزن”، وقلنا إن الحضور المادي للأخير لا يمكن فصله عن الحضور الرمزي… كيف ذلك؟ وما أهمية استخدام الرمزية بالنسبة لـ”المخزن”؟ ذاك ما سنتابعه في هذا الجزء الثالث.
يقول الفيلسوف الألماني إرنست كاسرير إن الإنسان كائن رمزي… السيميائي المغربي سعيد بنكراد[1] يفسر ذلك بأن الإنسان لا يعيش الواقع في ماديته، إنما يعيش ضمن بعد جديد للواقع هو البعد الرمزي.
بتعبير أوضح؛ الواقع يُصاغ صياغة ثقافية تَنزع عنه أبعاده المادية وتكسوه بطبقة من الرموز، هي ما نعرف وندرك عنه (الواقع) في آخر المطاف.
هكذا، اللغة والدين والأسطورة والخرافة وكل السلوكات الثقافية هي أشكال رمزية وفق بنكراد، تقوم لحظة إدراكها لما يوجد خارجها، بدور الوسيط بين الإنسان وعالمه الخارجي.
ثمة نوعان من السلطة الرمزية، الأولى مرئية ملموسة، فيما الثانية مرئية مجردة؛ ترتبط ممارستها بمدى خضوع المحكومين لها وبدرجة تسليمهم بمشروعيتها… وبالعودة إلى المخزن، فقارئ تاريخه سيستنتج أنه أجاد توظيف الرمزية، بغض النظر عن مدى تحقيق أهدافه من ورائها.
وكل مؤسسة، تخفي نظام أفكار تعبر عنه رموزها التي تنتشر في أبعادها “المقدسة”، وفي ممارستها السياسية التي تدخل كنسيج قوي ومتماسك… هذا ما يقوله المؤرخ الفرنسي فيتسل دو كولانج، ليؤكد عبره المؤرخ المغربي محمد جادور[2] أن الحضور المادي لحكم معين، يستحيل، في غياب رموزه.
الرموز وفق جادور لازمة لوجود أي حكم وللمحافظة على استمراريته؛ فالجبروت وحده لا يخوله الزعامة… قد يكون بوسعه ممارسة قوة الإكراه، لكن الإقناع لا يتحقق سوى بسلطة رمزية قادرة على إنتاج أشكال تعبيرية.
الحقيقة أن هذه الأشكال تضاهي في قوتها ونجاعتها كل مقابل مادي لها، بل أكثر من ذلك؛ هي التي تعمل على تبرير سلوكات النظام أو الحكم القائم.
اقرأ أيضا: موقع الدين في نظام الحكم بالمغرب: إمارة المؤمنين، حكاية البدايات..
في ما يخص هذه الأشكال، يتعلق بعضها بمظاهر ثابتة وأخرى متغيرة في الزمن، لكن وفق جادور، يوجد تدرج وحدود مضبوطة بين الرموز المختلفة، تتباين حسب أذهان الناس والوضعيات الاجتماعية التي يحيون في ظلها.
نستطيع أن نميز إذن بين ضربين من السلطة الرمزية، الأولى مرئية ملموسة، فيما الثانية مرئية مجردة؛ ترتبط ممارستها بمدى خضوع المحكومين لها وبدرجة تسليمهم بمشروعيتها.
الأعياد الدينية مثلا، لم يكن المخزن ليتركها تنفلت من بين يديه كفرصة يبرز من خلالها صورته، حيث تؤثث النخبة الدينية ورجالات البلاط، الموكبَ السلطاني، لإحياء المناسبة على نحو يستعرض أبهة السلطان وعظمته، بل ويجدد مشروعيته الثيولوجية أمام الرعايا.
بالعودة إلى المخزن، فقارئ تاريخه سيستنتج أنه أجاد توظيف الرمزية، بغض النظر عن مدى تحقيق أهدافه من ورائها.
رمزية نطالعها في المظاهر الاحتفالية والبروتوكول، وفي مواكب التنقل السلطانية، وفي البناء والترميم، التي ظلت جميعها وفق جادور، مؤطرة بنسق الثقافة الإسلامية، وبخاصية “البركة” التي يستمدها السلطان من نسبه الشريف.
بعض من ملامح الحضور الرمزي للمخزن…
وفق الباحث المغربي رضوان باتو[3]، كان الخطاب المخزني في شقيه المادي والرمزي يفصح عن ثنائيات متناقضة، لكنه مع ذلك يجيد اللعب عليها، مثل ذلك: التعالي والبساطة، الهيبة والتواضع، الدين والسياسة…
الأعياد الدينية مثلا، لم يكن المخزن ليتركها تنفلت من بين يديه كفرصة يبرز من خلالها صورته، حيث تؤثث النخبة الدينية ورجالات البلاط، الموكبَ السلطاني، لإحياء المناسبة على نحو يستعرض أبهة السلطان وعظمته، بل ويجدد مشروعيته الثيولوجية أمام الرعايا.
اقرأ أيضا: الأمن الروحي… مفهوم “مستحدث” لمواجهة التطرف أم حجر على حرية التعبير؟ 2/1
أكثر ما اتسم به المخزن؛ خصلة الكرم، لكن لغاية في نفسه دائما… الواقع أنها، وفق محمد جادور، سلطة مادية ومعنوية في آن واحد؛ لكنها تجسدت في سياقات متنوعة تجمعها الصبغة الدينية… أما هذه السياقات، فمثلا أيام المجاعة أو غلاء المعيشة، أو شفاء السلطان أو حدث سياسي وغير ذلك.
ويرى المؤرخ ذاته أنه كان ثمة تضخيم ومبالغة في الخطاب المخزني الرسمي، إذ سعى إلى رسم صورة ذات بعدين لهذا الكرم؛ الأول يحيل على أخلاق السلطان، فيما الثاني بعد سياسي؛ أي أن الشرائح الاجتماعية تدعم الوجود السياسي للمخزن.
كان المخزن أيضا يلجأ لاستعراض الأبهة العسكرية بكل أطيافها، بما فيها الجوق الموسيقي، في مراسم متنوعة سنوضح الهدف منها لاحقا.
هذا المشهد “الدرامي” يقول رضوان باتو، يضمر هدف ترسيخ الاستمرارية في الأذهان والانبهار بعظمة المخزن وضخامة عدته… هذا ما يجعل الناس وفق محمد جادور، يسلمون بتفوق المخزن، ويأملون ويسعون بوعي أو دونه إلى الدخول في أسلاك الجندية.
السلطان… مركز الرمزية
من خلال ما تقدم في هذا الملف، نستطيع أن نخرج بأن السلطان يعد نقطة رسو المخزن، أو كما يقول الحاجب باحماد في الجزء الأول: “السلطان هو السارية المركزية…”. هكذا حظي كل ما يتعلق بظهوره، برمزية بالغة.
يقول المؤرخ المغربي محمد نبيل ملين[4]، مثلا، إن إمامة السلطان للصلاة قديما كانت تسمح له بممارسة صلاحياته وبإعطاء طابع ديني لوظيفته وأيضا ليظهر أمام الملأ.
اقرأ أيضا: أبو القاسم الجنيد، منبع الصوفية في المغرب
وإذا كانت إمامة الصلاة قد ذهبت أدراج الرياح مع الزمن، فإن الخطبة وفق المؤرخ ذاته، لا زالت شارة حقيقة للسيادة؛ ففي نهايتها يُذكر السلطان القائم مع إظهار الاعتراف بفضله ولزوم طاعته.
كانت المظلة شارة السلطنة الشريفة الأكثر بلاغة دلاليا. هذه الأداة كانت مخصصة لحماية السلطان من الشمس والمطر، لكن مقبضها يبدو كأنه يمثل محور العالم وتعلوه قبة يبدو أنها تمثل الكون.
مع الموحدين في القرن الـ12م، بدأ السلطان يرتدي البردة البيضاء وقد كانت لها رمزيتها، كما كانت حكرا عليه دون غيره من رجالات البلاط.
في الاستقبالات الرسمية والمواكب العامة، كان السلطان يستخدم ترسانة كاملة من الأسلحة ليبرز دور “المجاهد”، وحامي السلم المحلي.
وكان السيف أهم الأسلحة التي يحملها السلطان؛ لدلالته الرمزية البالغة، التي تذكر بالسيرة النبوية وتؤكد على الاستمرارية التاريخية.
أما شارة السلطنة الشريفة الأكثر بلاغة دلاليا، فكانت المظلة. هذه الأداة، يقول ملين، كانت مخصصة لحماية السلطان من الشمس والمطر، لكن مقبضها يبدو كأنه يمثل محور العالم وتعلوه قبة يبدو أنها تمثل الكون.
ويفسر ملين دلالة ذلك بأن “السلطان هو مركز وقطب السلطنة بل ومركز الكون الذي يقف عليه ويدور حوله كل شيء”.
اقرأ أيضا: موقع الدين في نظام الحكم بالمغرب: مسرحة السلطة وشرعنتها
بجانب ذلك، وفي مجتمع شفاهي التواصل، كانت المراسيم كما قلنا سابقا أحد أهم وسائل مسرحة السلطة، وذلك من خلال طقوس موروثة من التراث الإسلامي تهدف إلى تعظيم السلطان وتأكيد مركزيته.
المراسيم كانت أداة إعلامية مثالية للنشر الفوري لعقيدة السلطان لدى أكبر عدد من الناس، بل وكانت وفق ملين، استعراضا للقوة بالمعنى الذي يغذي فيه السلطان الخوف والشعور بالحماية من خلال فرض حضوره “المقدس”.
الهدف دائما إذن من استعمال المخزن لـ”الرمزية”، إظهار سلطة السلطان والمحافظة على إجلال الرعية له، بل وتنمية ولائها له.
في الجزء الرابع نتعرف على أسس الحكم التي وطّن عليها المخزن المجتمع -وما زال- ضمن هدف الاستمرارية الذي دائما ما شكل هاجسه الأساس.
لقراءة الجزء الأول: “المخزن”… تاريخ طويل من الأسئلة! (الجزء الأول)
لقراءة الجزء الثاني: “المخزن”… كيف كان يقر سلطته على المغرب؟ وكيف كان يوازن العلاقة بين السلطان والرعايا؟ (الجزء الثاني)
لقراءة الجزء الرابع: “المخزن”… بين هاجس الاستمرارية والواقع التاريخي الجديد (الجزء الرابع والأخير)