“المخزن”… كيف كان يقر سلطته على المغرب؟ وكيف كان يوازن العلاقة بين السلطان والرعايا؟ 2 - Marayana - مرايانا
×
×

“المخزن”… كيف كان يقر سلطته على المغرب؟ وكيف كان يوازن العلاقة بين السلطان والرعايا؟ 2\4هكذا كان "المخزن"، تاريخيا، يمارس سلطته من خلال الحضور المادي...

في هذا الجزء نتحدث بشكل عام عن ملامح الحضور المادي للمخزن تاريخيا، كآلية لممارسة السلطة؛ تثبت وجوده وتؤكد هيمنته على البنيات الاقتصادية والاجتماعية، كما تساعده على إعادة تنظيمها وفق منظوره الخاص، بجانب هاجسي الأمن والجبي.

حاولنا في الجزء الأول أن نخرج بماهية واضحة للمخزن، لكنه مع ذلك ظل ملتبسا وإن استطعنا تكوين فهم لما يقصد به. هكذا، بوسعنا استخلاص أن ترجمة مفهوم المخزن بـ”الدولة” في معناها الحديث، أمر في غاية المجازفة.

ذاك ما يذهب إليه المؤرخ محمد جادور[1]، إذ يعتبر أن الدولة، كمفهوم، قاصرة عن الغنى الدلالي للمخزن. ثم إن الأخير لم يكن كيانا مجردا يقوم فيه السلطان بدور محدد، إنما كان جهازا يدل بجانب ذلك على كل الاشخاص المرتبطين بالسلطان أو ممثليه، وعلى مجموع الوظائف المخولة لهم، المبنية على علاقات التبعية الشخصية.

في هذا الجزء، نتحدث بشكل عام عن ملامح الحضور المادي للمخزن تاريخيا، كآلية لممارسة السلطة؛ تثبت وجوده وتؤكد هيمنته على البنيات الاقتصادية والاجتماعية، كما تساعده على إعادة تنظيمها وفق منظوره الخاص، بجانب هاجسي الأمن والجبي.

اقرأ أيضا: هشام روزاق: دولة تجدد نــ(ــحــ)ــبها!!

الواقع أن ثمة حضور رمزي يصعب فصله عن المادي، وينبغي دائما مراعاته في سبيل فهم السلوك المخزني، كما يؤكد جادور. هذا الفصل إذن منهجي وحسب، وسنعود للحضور الرمزي في الجزء الثالث.

تمثل “الحَرْكة” جوهر العملية في استخلاص الجبايات الشرعية والعادية التي تحتكم إلى سياسة العصا والجزرة… وكانت إدارة مخزنية متنقلة يعالج السلطان، بمناسبتها ومن خلالها، مشاكل مختلف البلاد معالجة مباشرة.

شكلت الإدارة والجيش أداتين رئيسيتين يسجل بهما المخزن حضوره في مختلف أنحاء البلاد، وعبرهما يتم التواصل بين السلطان ورعاياه بهدف استمرارية نفوذه.

هكذا، لم يدخر المخزن، وفق جادور، جهدا في توظيف الوسائل المادية المحلية والجهوية والمركزية، في سبيل ترسيخ نفسه، وذلك من خلال تزكية الزعامات القبلية وتكريس سلطتها الإدارية والعسكرية أو تعيين أطر مخزنية لتسيير مناطق أخرى.

الحقيقة أن التزكية والتعيين لم يكونا بعبث، إنما بتقاليد ووفقا للمكانة الاجتماعية، الجغرافية، والمصاهرة البيولوجية أيضا، التي تُمنح لأصحابها، باعتبارهم ممثلين لنخبة مخزنية، سلطات واسعة؛ والهدف دائما ترسيخ الجهاز الإداري ونجاعته.

الحضور المادي للمخزن انقسم إلى ثابت ومتنقل… أما الأول فيؤكد تبعية المجال الفعلية للسلطة المخزنية، فيما الثاني ظرفي ومؤقت، يرتبط بمدى نجاعة الحضور الثابت في الحفاظ على علاقات التوازن بين السلطان والرعايا.

جادور يلاحظ بالمناسبة أن وظائف الجهازين الإداري والعسكري تتداخل إلى حد يصعب فيه التمييز بينهما. لكن الجيش يتدخل بصفة خاصة حين تختل العلاقات التي أشرنا إليها أعلاه؛ أي حين يضطرب الأمن ويمتنع الرعايا عن أداء الضرائب.

اقرأ أيضا: أصل الدولة استقرار…أصلها تدجين حمار

وتمثل “الحَرْكة” جوهر العملية في استخلاص الجبايات الشرعية والعادية التي تحتكم إلى سياسة العصا والجزرة. الحركة بالمناسبة وفق الباحث رضوان باتو[2]، حملة تأديبية كان يقوم بها السلطان ضد القبائل لانتزاع الضرائب عنوة ولإجبارها على الاعتراف بسلطته السياسية.

لكن “الحَرْكة” هذه كانت نوعان، وفق جادور، إذ تنتج الأولى من ردة فعل المخزن ضد حركات التمرد الداخلية التي تسعى إلى “تركيع” قيادتها، ضمن مبدأ يطلق عليه المؤرخ “تأطير القبائل”، فيما كانت الثانية تتخذ طابعا مؤسساتيا إكراهيا وإلزاميا.

صحيح أن الجيش كان يحرس السلطان ويخدمه ويشتط في جباية الضرائب، أكثر مما يبذله للعمليات العسكرية سواء للذود عن البلاد أو للغزو؛ لكن، وفق المؤرخ الطيب البياض، لم يكن الأمر وكأنه حرب استنزاف معلنة من السلطان على القبائل.

الواقع أن الهدف مع تكاليفه الباهظة ومردوديته البسيطة، كان يروم، دائما وفق جادور، تصدير ونشر أجهزة جبائية دائمة تغني المخزن عن عناء التنقل، بالنظر إلى الاضطراب الأمني الذي كان يرافق عملية الجبي.

ويضيف الباحث يحيى بولحية[3] أن الحركة لم تكن مجرد وسيلة للجبي، بل كانت إدارة مخزنية متنقلة يعالج السلطان، بمناسبتها ومن خلالها، مشاكل مختلف البلاد معالجة مباشرة.

لكن…

صحيح أن الجيش كان يحرس السلطان ويخدمه ويشتط في جباية الضرائب، أكثر مما يبذله للعمليات العسكرية سواء للذود عن البلاد أو للغزو؛ لكن، وفق المؤرخ الطيب البياض[4]، لم يكن الأمر وكأنه حرب استنزاف معلنة من السلطان على القبائل.

اقرأ أيضا: أبو القاسم الجنيد، منبع الصوفية في المغرب

مع أن التاريخ دون وقائع وأحداث كبيرة، يقول البياض، إلا أنها “لم تبلغ حدا روتينيا تتحول معه إلى نظام دائم، وكأن هذا المخزن لا شغل له سوى التلذذ بتعذيب القبائل لانتزاع الضرائب، لتنفق على الجيش ليستطيع جبي الضرائب، وهكذا دواليك”.

ويفسر يحيى بولحية ذلك، معتبرا أن المخزن لم يكن موجودا وراء كل حجر وشجر، ولم تكن سلطته مطلقة استبدادية في صورتها الأوروبية خلال العصور الوسطى، وذلك للاعتبارات المجالية الجغرافية، وتركيبة المجتمع المغربي الإثنية المتنوعة، التي كانت بحاجة إلى سلطة تحكيمية محايدة، وإطار سياسي قائم على منطق البيعة والموالاة بالمعروف.

نفس الرأي ذهب فيه المؤرخ جرمان عياش كما رأينا في الجزء الأول، إذ اعتبر المخزن نظاما تعايش بشكل توافقي مع القبائل؛ إذ، وإن كان قاسيا عليها في عمليات الجبي، إلا أنه أسدى لها خدمات تحكيمية كانت في حاجة إليها.

الطيب البياض بالمناسبة اعتبر هذا الخطاب مفعما بحماس دفاعي عن المخزن.

اقرأ أيضا: موقع الدين في نظام الحكم بالمغرب: إمارة المؤمنين، حكاية البدايات..

بالمقابل، من يطالع الأطروحة الاستعمارية يجد أنها تسلط الضوء على الجانب الذي يمكن وصفه بالقاسي في المخزن.

بل وإن ذلك ناجم عن نفوذ قاصر للمخزن… المستشرق الفرنسي روبير مونتاني يقول مثلا إن نفوذ الجهاز المخزني اقتصر على ما يسمى بلاد المخزن، بينما ظل القسم الكبير خارج نفوذه، تتصرف فيه قبائل السيبة.

الإثنوغرافي الفرنسي أوغست مولييراس أيضا يقول إن جل مناطق المغرب تمتعت بالاستقلال، ولا تعترف سوى بالسلطة الروحية للسلطان. واعتبر أربعة أخماس المغرب بلاد سيبة، فيما الخمس المتبقي، بلاد المخزن.

ما يحسب على هذه الأطروحة، يقول بولحية، هو كونها تجرد المجتمع من ديناميته وخصوبته وتجعل منه هيكلا تنظيميا جامدا يرضي العقل، في حين يعجز عن تأطير الواقع.

في الجزء الثالث… كيف استخدم المخزن “الرمزية”، باعتبارها الجانب الخفي والأهم لممارسة السلطة وترسيخها؟ 

لقراءة الجزء الأول: “المخزن”… تاريخ طويل من الأسئلة! (الجزء الأول)

لقراءة الجزء الثالث: “المخزن”: استخدام “الرمزية”… الجانب الخفي والأهم لممارسة السلطة وترسيخها (الجزء الثالث)

لقراءة الجزء الرابع: “المخزن”… بين هاجس الاستمرارية والواقع التاريخي الجديد (الجزء الرابع والأخير)


[1] عن كتابه “مؤسسة المخزن في تاريخ المغرب”.
[2] عن مقاله “مؤسسة المخزن في تاريخ المغرب”.
[3] عن مقاله “المخزن في مغرب القرن التاسع عشر، ناظرا ومنظورا إليه”.
[4] عن كتابه “المخزن، الضريبة والاستعمار”.
تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *