“المخزن”… تاريخ طويل من الأسئلة! 1\4ما الذي يقصد بـ"المخزن"؟
كان هنا منذ أمد طويل، وهو نفسه بات يجد نفسه هنا مع تقدم التاريخ… وطالما أنه “فريد”، فهو يظل متسما بالغموض، لا أحد يعرف كنهه على وجه الدقة، وإن حاول، سقط في التعميم أو الاختزال… مع ذلك، أبحاث عدة تناولت “المخزن” بالدراسة والتقصي، واستنادا إليها، نبحث في هذا الملف، في أحد أكثر المفاهيم إثارة للأسئلة في تاريخ المغرب… مفهوم “المخزن”!
منذ بدأنا ندرك وجودنا، نحن المغاربة، ونحن نسمع بـ”المخزن”… لك دراية بالحياة السياسة في المغرب أو لم يكن، فأنت تملك، حتما، تمثلا عن “المخزن”… أما إن ذهبت أبعد من ذلك؛ فـ”المخزن” هذا، أمر فريد، لا وجود له في غير المغرب.
كان هنا منذ أمد طويل، وهو نفسه بات يجد نفسه هنا مع تقدم التاريخ… وطالما أنه فريد، فهو يظل متسما بالغموض، لا أحد يعرف كنهه على وجه الدقة، وإن حاول، سقط في التعميم أو الاختزال…
مع ذلك، أبحاث عدة تناولت “المخزن” بالدراسة والتقصي، واستنادا إليها، نبحث في هذا الملف، في أحد أكثر المفاهيم إثارة للأسئلة في تاريخ المغرب… أسئلة من قبيل: من يكون “المخزن” هذا؟ ماهو؟ أشخاص أم مؤسسة؟ أهو الدولة العميقة ؟ أم جيوب مقاومة التغيير؟
كيف يعمل إذن؟ لماذا يوجد في المغرب وحسب؟ كيف ارتبط به تاريخيا وكيف تطور؟ إلى ما شئتَ من الأسئلة…
كان إبراهيم بن الغالب أمير إفريقية في القرن الـ8م، يستعمل صندوقا حديديا ليخزن فيه مجموع الأموال المحصلة من الجبايات، قصد إرساله إلى الخليفة العباسي ببغداد… هذا الصندوق، سمي بـ”المخزن”، وتلك كانت… أول مرة تستخدم فيها المفردة بشمال إفريقيا.
اقرأ أيضا: موقع الدين في نظام الحكم بالمغرب: إمارة المؤمنين، حكاية البدايات..
المخزن بهذا المعنى، أو بالمعنى اللغوي على الأقل، من فعل خزن؛ أي ادخر وحافظ… قبل أن يأخذ دلالاته الجديدة إذ ارتبط بنظام الحكم في المغرب، كان متصلا بتنظيم مالي إذن.
هكذا، بعدما استعمل لنعت مستودع محلي تخزن فيه الأموال الموجهة إلى بيت مال الأمة الإسلامية، صار مع استقلال المغرب عن المشرق يحيل على خزينته الخاصة، ثم بات لاحقا، مع الدولتين السعدية والعلوية، يحمل دلالة إدارية؛ أي يشمل كل الجهاز الإداري الذي يعيش من أموال هذه الخزينة، يقول المؤرخ الطيب البياض[1].
لكن المخزن مع مرور السنين، لم يعد يحيل إلى معنى واحد واضح… ولم يعد تقصد به مؤسسة معينة تستمد مشروعيتها من الحقل الديني، وفق الطيب البياض، إنما أضيفت إليه أوجه علمانية لتطعيمه كمؤسسة باتت في تمثل المغاربة مبدأ للسلطة أو عنوانا لها.
أو بتعبير المؤرخ محمد جادور[2]، الحضور المادي للمخزن المتجسد في الجيش والإدارة، رافقه على الدوام تبرير إيديولوجي متجسد في المسوغات الدينية.
اقرأ أيضا: هشام روزاق يكتب: من يحكم المغرب؟ … “جهات ما”
الحقيقة أن مفهوم المخزن اليوم يختلف بتباين أو باختلاف الرؤى والمرجعيات الثقافية والأيديولوجية التي تتناوله بالدراسة.
ثمة من الباحثين من يعتبره معطى بديهيا علينا التسليم به، وثمة من يرى أنه بنية سياسية معقدة وصعبة التحديد، تحتاج إلى مزيد من التمحيص للكشف عن مكوناتها، وللوقوف على مراحل تطورها، وثمة أيضا من راهن على جعله نظاما سياسيا له خصوصيات مميزة ينفرد بها المغرب.
لكن، في لحظة حرجة من تاريخ المغرب السياسي، حين توفي المولى الحسن الأول وصاحبت مبايعة ابنه المولى عبد العزيز بعض الدسائس والصراعات، حدث أن جمع الحاجب الوزير باحماد[3]، القوادَ، ووجه لهم خطابا يشرح لهم فيه ماهية المخزن.
يرى الباحث يحيى بولحية[4] أن الحاجب باحماد تفوق بإتقان كبير في وصف مؤسسة المخزن وعلاقاتها المنسوجة مع أطياف المجتمع عبر سلطة القواد؛ إتقان ينم عن إدراك بالغ لخصوصيات النظام السياسي في المغرب.
يومها جمع الحاجب رموز الدولة وممثليها مركزيا وإقليميا، ثم وجه خطابه إلى القواد:
“فلتسمعوني جيدا أيها القواد، ماذا نقصد بالمخزن؟
إنه خيمة كبيرة تشبه هذه التي نجتمع داخلها اليوم، وتحتاج لبقائها قائمة ومقاومة للعواصف، لكل دعاماتها الرئيسية؛ فالسلطان هو السارية المركزية… التي ترفع هذه الخيمة عاليا، لكن مجموع الأوتاد المبثوثة في الجنبات، التي تشد الحافات الممدودة وتمنع الرياح من رفعها، هم أنتم أيها القواد…”.
اقرأ أيضا: عبد الإله أبعصيص: شرعية “البنية” أو شرعية القهر؟
فهل المخزن ببساطة هو الدولة؟ يذهب المؤرخ عبد الله العروي[5] إلى أن المخزن في جوهره نمط وسلوك اقتدت به الدول التي تعاقبت على حكم المغرب، قصد تنظيم الجيش وتدبير الشأن العام.
ذاك ما يبرزه محمد جادور في رسالة بعث بها المولى إسماعيل إلى علماء الأزهر، يقول فيها: “وكل دولة جاءت بعد أخرى، تجد الجيش قدامها موجودا موفورا، مدربا على سلوك طريقة المخزن ومعرفة قوانينه وطريقته وسيرته…”.
بهذا المعنى إذن؛ الدولة نظام لتعاقب الأسر الحاكمة والمخزن طريقة عمل.
القول إن المخزن في تمثل المغاربة يحيل على السلطة، ليس منطوقا عن الهوى… ثمة أطروحتان، كل منهما تقرأ هذه السلطة حسب إيديولوجيتها؛ أطروحة استعمارية تتحدث عن استبداد مخزني، وأطروحة أخرى مفعمة بحماس دفاعي عن المخزن.
لكن إذا سلمنا بأن المخزن طريقة عمل، فكيف يكون ذلك؟
يرى محمد جادور أن المضمون المعجمي لمفهوم المخزن، إذا كان يتسم بالبداهة، فإن حمولاته ودلالاته وتشابكهما في القاموس السياسي المغربي، تتسم بالتعقيد.
هكذا، وفق جادور، ثمة من الباحثين من يعتبره معطى بديهيا علينا التسليم به، وثمة من يرى أنه بنية سياسية معقدة وصعبة التحديد، تحتاج إلى مزيد من التمحيص للكشف عن مكوناتها، وللوقوف على مراحل تطورها، وثمة أيضا من راهن على جعله نظاما سياسيا له خصوصيات مميزة ينفرد بها المغرب.
اقرأ أيضا: حزن الظن: معركة وادي المخازن أو عندما يَصُمُّ رنين الذهب عقل التاريخ
مع ذلك، يذهب جادور إلى أنه يوجد شبه إجماع على أن المخزن أصبح منذ العصر الحديث يدل على مجموع التنظيمات الإدارية، التي تشكلت تدريجيا بفعل الضرورات الداخلية المتمثلة في الحفاظ على الأمن وتحصيل الضرائب، ثم التزامات السياسة الخارجية وما واكبها من تبادل المبعوثين، وتوقيع الاتفاقيات التجارية، وافتداء الأسرى.
كل هذا، تدريجيا، جعل المخزن يتشكل في هيئة مؤسسة سياسية حقيقية.
بالعودة إلى أن المخزن في تمثل المغاربة يحيل على السلطة، فإن هذا القول ليس منطوقا عن الهوى… وفق الطيب البياض، ثمة أطروحتان، كل منهما تقرأ هذه السلطة حسب إيديولوجيتها.
من جهة لدينا الأطروحة الاستعمارية، وقد تحدث روادها عن استبداد مخزني يسعى إلى تدمير الديمقراطية القبلية، واستغلال اقتصادي من لدن جهاز طفيلي جاثم على رقاب القبائل يسلبها خيراتها بالإكراه.
ومن جهة أخرى، لدينا من رأى سلطة المخزن حكومة مختلفة الأجهزة تسهر على تدبير الشأن العام والمحلي، لها طابع تنفيذي لتشريعات الأمة المغربية، وهو خطاب يعتبره البياض، مفعما بحماس دفاعي عن المخزن.
اقرأ أيضا: موقع الدين في نظام الحكم بالمغرب: مسرحة السلطة وشرعنتها
مثال عن هذه الأطروحة، ما أورده المؤرخ جرمان عياش[6] من كون المخزن، في رأيه، نظام تعايش بشكل توافقي مع القبائل؛ إذ وإن كان قاسيا عليها في عمليات الجبي، فإنه قد أسدى لها خدمات تحكيمية كانت في حاجة إليها.
في الجزء الثاني… كيف كان المخزن يقر سلطته على المغرب؟ وكيف كان يوازن العلاقة بين السلطان والرعايا؟
لقراءة الجزء الثاني: “المخزن”… كيف كان يقر سلطته على المغرب؟ وكيف كان يوازن العلاقة بين السلطان والرعايا؟ (الجزء الثاني)
لقراءة الجزء الثالث: “المخزن”: استخدام “الرمزية”… الجانب الخفي والأهم لممارسة السلطة وترسيخها (الجزء الثالث)
لقراءة الجزء الرابع: “المخزن”… بين هاجس الاستمرارية والواقع التاريخي الجديد (الجزء الرابع والأخير)