حربُ الثلاثين عاما… الحربُ التي أرست أركانَ الدّولة الحديثة! 2/3
التوجّسُ من غلُوّ الكاثوليكية وفُقدان العرش كان سببا كافيا ليدخل غوستاف الحربَ…
ثمّ أمر جيشَه بالتحرّك، فنزل على شاطئ ألمانيا الشمالي… كبطل جاء يُنقذ البروتستانت من بطش فيرديناند.
انتصرَ الجيشُ على قوّات الكونت تيلي في معركتين، فبسط سيطرته على ميونخ لعامين حوّلت موازين العقائد هناك.
لكنّ نهبَ السويديين خيرات البلاد أثار الألمان… ولم يكنْ ليخنعوا أكثر!
لم تكن حربُ الثلاثين عاما حرباً عاديّةً في التاريخ الإنساني… لقد خَلّفت دماراً مُكلّفاً في أوروبا، كما تابعنا في الجزء الأول، على نحو أفضى بالدول إلى الاقتناع بتأسيس نظام جديد ينبني على السّيادة.
في الجزء الثاني، نُواصلُ حكاية هذه الحرب إلى محطتها الأخيرة: معاهدةُ وستفاليا.
تنويه: أنهى المؤرخ البريطاني بيتر ويلسون كتابه “حرب الثلاثين سنة، المأساة الأوروبية” في أزيد من ألف صفحة…
الذي نودّ قولَه إنّ ملفا صحافيا لن يسعَ، مهما حاولَ، حرباً تمتدّ لثلاثين عاما… فيما يلي، نحيط بالأهمّ أو كُبرى الملامحِ، ونعرف أنّنا نقفز على تفاصيلَ عديدة!
توجّسٌ دنماركي
خشيّتْ الدنمارك كدولة بروتستانتية، كما تابعنا في نهاية الجزء الأول، من نجاحات الكاثوليكية تحت قيادة الإمبراطور فيرديناند الثاني…
رأى حينَها الملك، كريستيان الرابع، أنْ يتحالفَ مع دوق هولشتاين التي كانت تقع ضمن الإمبراطورية الرومانية، وقاما بمساعدة الحُكّام اللوثريين في منطقة تُدعى ساكسونيا السّفلى.
… بل إنّ الملكَ، إذ عزم على صدّ فيرديناند، نصّب نفسه قائدا عسكريا على جيش قوامه حوالي 20 ألف مرتزق و15 ألف مقاتل وطنيّ.
واصلت السويد تحقيق الانتصارات في ألمانيا، مُستوليّة على مناطق عدة… تدخّل البابا أريان الثامن، حينَها، في محاولة فاشلة لعقد الصلح. ثمّ تُوفيّ الإمبراطور فرديناند (1637م) وآل الحكم إلى ابنه فرديناند “الثالث”، الذي لم يكن بِقامة أبيه العكسريّة والدبلوماسيّة.
في بوهيميا، كان ثمّةَ نبيلٌ فاحش الثراء بعدما استولى على أملاك الناس، يُدعى ألبرشت فون فالنشتاين.
فالنشتاين هذا أعانَ الإمبراطور بجيش كبير… مقابلَ أن يمنحه الحق في نهبِ الأراضي التي سيُستولى عليها.
لم يكن كريستيان الرابع يعلم شيئا عن هذا الجيش الذّي سيّره فيرديناند مع جيشه الوطني تحت قيادة الكونت تيلي، وعثر حظّه أكثر حين تخلى عنه حلفاؤه مثل إنجلترا وفرنسا والسويد…
مع ذلك، كانت الحرب سجالا بين الطرفين على مدى أربع سنوات… وحسبُ كريستيان أن جيش فيرديناند لم يستطع الاستيلاء على العاصمة كوبنهاغن.
في النهاية، أدرَكَ الطرفان أنّ تكلفة استمرار الحرب ستفوق بكثير أيّ مكاسب محتملة… ثمّ قرّرا التفاوض!
… وكانت معاهدة لوبيك (1629م)، التي نصت على احتفاظ كريستيان بالتاج الدنماركي شريطة أن يتخلى عن دعم الدول الألمانية البروتستانتية، وأنْ تستردّ بلاده ما فقدته من أملاك أثناء الحرب.
السويد تدخلُ على الخط
كان الجيش السويديّ واحدا من أعتى جيوش القارة آنذاك؛ اعتمد في تكوينه على مرتزقة إسكتلنديين وُهبوا شدّةً وقوة دون مثيل.
… حدث ذات يومٍ، عام 1630م، أنْ وجّه الملكُ السويدي، غوستاف الثاني، خطابا إلى شعبه، يقول: “كما تتبع الموجةُ موجةً أخرى، كذلك سيأتي الطوفان البابوي إلى شُطآننا“.
كان فيرديناند لا يعترف بغوستاف ملكاً، وتمسّك بقوله إنّ عرشَ السويد من حق أحد الكاثوليكيين…
التوجّسُ من غلُوّ الكاثوليكية وفُقدان العرش كان سببا كافيا ليدخل غوستاف الحربَ…
ثمّ أمر جيشَه بالتحرّك، فنزل على شاطئ ألمانيا الشمالي… كبطل جاء يُنقذ البروتستانت من بطش فيرديناند.
انتصرَ الجيشُ على قوّات الكونت تيلي في معركتين، فبسط سيطرته على ميونخ لعامين حوّلت موازين العقائد هناك.
لكنّ نهبَ السويديين خيرات البلاد أثار الألمان… ولم يكنْ ليخنعوا أكثر!
هبّ فالنشتاين مرة أخرى لنجدة فيرديناند على جيش كبير… وفي ثاني المعارك بين الطرفين، عام 1632م، سقط الملك غوستاف قتيلا، ورغم ذلك، واصلت السويد الحرب دون هوادة على أمل عقد صُلح موفّق…
لم تعد الحرب دينيّةً أو مذهبيّة! ففرنسا التي كان يحكمها آل بوربون كانت تدين بالكاثوليكية! كان همّها في الواقع أن تكبح تزايد نفوذ آل هابسبرغ الذين يحكمون ألمانيا وعدوّها الأول إسبانيا. ثمّ هبّت إسبانيا إلى مساعدة ألمانيا… وصارت الحربُ صراعا على السيادة بين العائلتين!
ثمّ بعد عامين، اتُّهِم فالنشتاين بالخيانة فاغتيل… ولاحت بوادر حربٍ تخمدُ!
… ذلك أن الإمبراطور سمحَ أخيراً للبروتستانت بالعبادة على أسلوبهم، فكان أن هدّأهم، وتخلوا بذلك عَمّن ساعدهم… إذ سحبوا تأييدهم للتدخّل السويدي.
لفرنسا… رأيٌ آخر!
إلى حدود عام 1635م، اكتفت فرنسا بمساعدة السويد ماليا في الحرب… لكنها، في ضوء تخلي البروتستانت الألمان عن دعم تدخل السويد، سيّرت جيوشها لتقديم العون العسكري.
… منذ هذه اللحظة، لم تعد الحرب دينيّةً أو مذهبيّة! ففرنسا التي كان يحكمها آل بوربون كانت تدين بالكاثوليكية!
كان همّها في الواقع أن تكبح تزايد نفوذ آل هابسبرغ الذين يحكمون ألمانيا… وعدوّها الأول إسبانيا.
ثمّ هبّت إسبانيا إلى مساعدة ألمانيا… وصارت الحربُ صراعا على السيادة بين العائلتين!
كانت الخطة بين السويد وفرنسا ألّا يكونَ هجومهما مُشتركاً على الإمبراطورية… لكنّ الخطة فشلتْ إذ لقيّت جيوشهما الهزيمة أمام ألمانيا، فارتدّا كلّ إلى ديّاره.
… بل إن جيش فيرديناند توغّل في باريس، لولا أنّ انتصاراً للجيش السويدي في ويتستوك (مدينة ألمانية) شدّ عزم الجيش الفرنسي إلى حدّ طرد الإمبراطور.
في أثناء ذلك، واصلت السويد تحقيق الانتصارات في ألمانيا، مُستوليّة على مناطق عدة…
تدخّل البابا أريان الثامن، حينَها، في محاولة فاشلة لعقد الصلح… ثمّ تُوفيّ الإمبراطور فرديناند (1637م) وآل الحكم إلى ابنه فرديناند “الثالث”، الذي لم يكن بِقامة أبيه العكسريّة والدبلوماسيّة.
استمرّت الحربُ واستولت فرنسا على الألزاس، ثمّ حاولَ الإمبراطور الجديد طلبَ الصّلح عام 1640م، لكن دون جدوى…
أخذ الجيشان، الفرنسي والسويدي، يزحفان على ألمانيا، ثم اتّحدا عام 1646م، مُحقّقين انتصارا بعد آخر… حتى إسبانيا لم تستطع شيئا أمام هذه القوة الضاربة!
… وإذ حلّ عام 1648م، كان التعبُ قد نال من الدول المنتصرة وكانت قوى فرديناند الثالث قد خرّت…
فتحت آنذاك الأطراف، جميعها، باب مُفاوضاتٍ انتهت بتوقيع صلح وستفاليا في الـ24 من أكتوبر 1648م، ليُعلنَ بعد ثلاثين عاماً من الاقتتال الضّروس… وضع الحرب أوزارها!
لقراءة الجزء الأول: حربُ الثلاثين عاما… حينَ حوّلت الطائفيّةُ أوروبا إلى قارة جرداء! 1/3
لقراءة الجزء الثالث: حربُ الثلاثين عاما: أزماتُ الشّرق الأوسط… نُسخةٌ أوروبية؟ 3/3
مقالات قد تهمك:
- شارلمان والد أوروبا وقاهر المسلمين… صورة أسطورية كتبت على ضوء الإيديولوجيا
- العيد والحرب: كيف حولت رغبة الإنسان في التجديد، العالمَ، من الفرح إلى الدمار؟ 2/1
- المجتمعات الإنسانية: من العيد إلى الحرب… من الفرح إلى الدمار! 2/2
- “حُروب الرّدة”: حين كشف أبو بكر عن وجهه الآخر! 2/1
- “حُروب الرّدة”… وجهة نظر أخرى! 2/2
- “لا أرحام بين الملوك”… عندما قتل الخلفاء العثمانيون إخوتهم
- المُلك عقيم… وحشية العرش العثماني 1/5
- الطائفية في لبنان… من الجذور إلى المأساة 5/1
راقي