تأليه الأنثى أو… الإلهة الأم (الجزء الرابع والأخير)
استمرت سيطرة الإلهة الأم على المجتمعات الأميسية آلاف السنين، عاش فيها الإنسان البدائي متساكنا مستقرا، مؤسسا لِلَّبِنات الحضارية الأولى في ظل الإلهة الأم، التي كان يعتبرها الجميع الأم والإلهة ومنبع الخصب واللُّحمة التي تجمع بين الأفراد.
و… بعد الانقلاب الذكوري في العصر الحجري الحديث، وبداية التأسيس للهيمنة الذكورية والآلهة المذكرة، لم يكن من السهل أن تذوب عقائد الخصب وتأليه الأنثى وتنصهر بشكل كامل في عقائد الحضارات الجديدة، بل ظلت حاضرةً جنبا إلى جنب في الوجدان الديني والمنحوتات الإلهية، بزخم أقل وبشكل متفاوت بين المناطق الحضارية.
الانتباه إلى الأنثى وعجائبية جسمها، وحبلها ووضعها وذر الحليب من ثدييها وعطفها على أبنائها، بالإضافة لما يشكله جسدها من سحر وشبق؛ كلها أسباب استرعت انتباه الإنسان البدائي في العصور الجليدية المتقدمة (الباليوليت الأعلى)، قبل أن يتبلور مفهوم الإلهة الأم في العصور الحجرية الحديثة؛ فخصص لها حيزا مهما في رسوماته الجدارية وبَوَّأها مركز لوحاته الفنية المقدسة، كما يؤكد ذلك الباحث le roi gourhan في دراسته لأكثر من ألفين لوحة على جدران الكهوف.
العجيب أن في تلك العصور الغابرة، وقبل ثلاثين ألف سنة، استطاع ذلك الإنسان تقديس المرأة ونحت أولى الدمى للإلهة الأم، كالدمية التي عُثِر عليها في جنوب فرنسا للإلهة “لاوسيل” ومعها بعض المنحوتات لدمى أنثوية وألواح حجرية نُحِتت عليها أشكال العضو الجنسي الأنثوي. كما عثر أيضا في جنوب فرنسا على دمية الإلهة “ليسبوغ”، وفي جنوب النمسا على دمية الإلهة “وليندروف”.
الغريب أن شكل هذه الدمى يشبه إلى حد كبير شكل الدمى للإلهة الأم التي ستظهر بشكل أكبر وأكثر مع بداية عصر “النيوليت” في الشرق الأدنى… رغم التباعد الزمني والجغرافي الكبيرين.
استمر حضور المرأة في عصر الميزوليت، وازدادت أدوراها الاجتماعية والسحرية كما تؤرخه اللوحات التي عثر عليه في شمال إفريقيا والأردن لساحرات يرقصن في مشهد صيد. لكن الانطلاقة الحقيقية للعصر الذهبي للإلهة الأم، بدأت مع بداية عصر “النيوليت”، عندما استطاع الإنسان تدجين القطعان واكتشاف الزراعة، وإحداث أكبر انعطافة في تاريخ البشرية، أدت إلى ظهور القرى واستقرار الإنسان، وبداية التعامل الواعي بشكل كبير مع عناصر الطبيعة.
انعكس اكتشاف الزراعة على المنظومة الروحية والدينية للإنسان البدائي، وشكلت الأرض والخصوبة نواة معتقداته الدينية. ونظرا للتشابه الكبير بين الأرض والأنثى الأم في الحمل والخصوبة والعطاء، فقد أسقط عليها الإنسان البدائي صفات القداسة والألوهية، لما تتمتع به من قدرات كان يراها خارقة، ودورها الكبير في السهر على تنشئة الأولاد والقيام برعاية الحقول، فرأى فيها كائنا يستحق العبادة وتولي زعامة العشائر البدائية. يقول الباحث خزعل الماجدي: “لقد رأى الإنسان أن المقدس أو القوة العظمى للوجود يكمن في صفات الإخصاب والولادة، التي هي من خصائص المرأة، ثم حاكى هذه القوة العظمى بالأنثى (الأرض والمرأة) ذات الطبيعة الإلهية. بذلك، ظهرت الإلهات الأم في مناطق النيوليت في تواتر واضح ببصمات كل مرحلة، في شكل وصفات هذه الإلهة الأم”. المصدر: ديانات ومعتقدات ما قبل التاريخ، ص 83.
اهتم الإنسان البدائي بنحت الدمى للإلهة الأم، للتبجيل والتعظيم أو للعبادة، وصورها في شكل امرأة مكتنزة عظيمة الأثداء والأرداف، وظهرت منحوتات الإلهات بشكل غزير في مناطق الشرق الأدنى ومنطقة الأناضول. وسنذكر أهم تلك الدمى المكتشفة في تلك المناطق: (إلهة تل أسود السورية/ إلهة المربيط السورية/ إلهة المنحطة/ إلهة الأم الرهيبة/ إلهة جرمو/ إلهة الصوان /إلهة شتال حيوك/ إلهة الفهود/ إلهة النسور/ الإلهة الصليب/ إلهة حسونة…)
شكل هذا الحضور الطاغي للإلهة الأم، واحتكارها المشهد الديني، وهيمنتها على الحقل الرمزي والفني، ونحت عضوها الجنسي بشكل مكرر على الأطباق الفخارية، أهم ملامح عصر النيوليت المشبع بدلالات الخصوبة والجنس.
واستمرت سيطرة الإلهة الأم على المجتمعات الأميسية آلاف السنين، عاش فيها الإنسان البدائي متساكنا مستقرا، مؤسسا لِلَّبِنات الحضارية الأولى في ظل الإلهة الأم، التي كان يعتبرها الجميع الأم والإلهة ومنبع الخصب واللُّحمة التي تجمع بين الأفراد.
يقول الفيلسوف وعالم النفس إريك فروم: “في المجتمع الأميسي، كان الأمر مختلفًا تمامًا. فالشخصية المحترمة على العموم، والتي لا يمكن الحديث عندها عن الرغبة في التملك والاستبداد، بل عن كونها كانت محط اهتمام دون منازع، كانت هي الأم”. المصدر: كتاب الحب والحياة، بتصرف.
بعد الانقلاب الذكوري في العصر الحجري الحديث (الكالكوليت)، وبداية التأسيس للهيمنة الذكورية والآلهة المذكرة، لم يكن من السهل أن تذوب عقائد الخصب وتأليه الأنثى وتنصهر بشكل كامل في عقائد الحضارات الجديدة، بل ظلت حاضرةً جنبا إلى جنب في الوجدان الديني والمنحوتات الإلهية، بزخم أقل وبشكل متفاوت بين المناطق الحضارية. وفي ظل تشكل البنية الذكورية ورمزيتها الدينية، وإدراك الرجل أهميته في الإخصاب وتأليه إله الهواء والماء، وانتقال الألوهية من الأرض إلى السماء، أنتج المخيال الديني في الحضارات التي تلت العصر الحجري، آلهةً أمهات جديدة ذاعت شهرتها تاريخيا، كعشتار وإنانا وإيزيس وأفروديت ونوت ودورجا، وتم تنصيب ملكات على ممالك بحالها، كبلقيس في سبأ وزنوبيا المتمردة على الحضارة الرومانية في تَدْمُر ونيفرتيتي في مصر وسَمِيرَمِيس في بلاد الرافدين وديهيا من شمال افريقيا…
كما استمر نحت الأعضاء التناسلية الأنثوية في العصور التي خلفت النيوليت والاحتفاء بها على أعمدة المدن الأثرية، كرمز لطقوسِ عبادةٍ جنسية لم يصلنا منها الكثير. وإذا كانت أغلب العقائد والطقوس الدينية التي ابتدعها الإنسان البدائي، لازلت مستمرة بأشكال مُحَوَّرَة ومتعددة، فإن تأليه الأنثى وتقديس أعضائها التناسلية بقي مستمرا حتى عصور متأخرة. وسوف نكتفي بثلاثة نماذج احتفظن بطقوس العبادة الجنسية الموروثة عن العصور الحجرية:
1- الاحتفال بالجنس ومفاتن المرأة في التوراة
مُعاشرة العبرانيين للمجتمعات الرافدينية التي ورثت الكثير من الأسس الدينية عن المجتمعات البدائية في الشرق الأدنى القديم إبان السبي البابلي، مَكَّنهم من الوقوف على الكثير من مظاهر التغني والتغزل بالمرأة الإلهة. فنقل حاخاماتهم الكثير من ذلك التبجيل والتغزل بمفاتن المرأة وبثوه في كتبهم المقدسة، نقرأ في الأصحاح السابع – نشيد الأنشاد:
آية (1): “مَا أَجْمَلَ رِجْلَيْكِ بِالنَّعْلَيْنِ يَا بِنْتَ الْكَرِيمِ! دَوَائِرُ فَخْذَيْكِ مِثْلُ الْحَلِيِّ، صَنْعَةِ يَدَيْ صَنَّاعٍ.”
آية (2): “سُرَّتُكِ كَأْسٌ مُدَوَّرَةٌ، لاَ يُعْوِزُهَا شَرَابٌ مَمْزُوجٌ. بَطْنُكِ صُبْرَةُ حِنْطَةٍ مُسَيَّجَةٌ بِالسَّوْسَنِ.”
آية (3): “ثَدْيَاكِ كَخَشْفَتَيْنِ، تَوْأَمَيْ ظَبْيَةٍ.”
آية (4): “عُنُقُكِ كَبُرْجٍ مِنْ عَاجٍ. عَيْنَاكِ كَالْبِرَكِ فِي حَشْبُونَ عِنْدَ بَابِ بَثِّ رَبِّيمَ. أَنْفُكِ كَبُرْجِ لُبْنَانَ النَّاظِرِ تُجَاهَ دِمَشْقَ.”
آية (5): “رَأْسُكِ عَلَيْكِ مِثْلُ الْكَرْمَلِ، وَشَعْرُ رَأْسِكِ كَأُرْجُوَانٍ. مَلِكٌ قَدْ أُسِرَ بِالْخُصَلِ.”
آية (6): “مَا أَجْمَلَكِ وَمَا أَحْلاَكِ أَيَّتُهَا الْحَبِيبَةُ بِاللَّذَّاتِ!”
آية (7): “قَامَتُكِ هذِهِ شَبِيهَةٌ بِالنَّخْلَةِ، وَثَدْيَاكِ بِالْعَنَاقِيدِ.”
آية (8): “قُلْتُ: «إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى النَّخْلَةِ وَأُمْسِكُ بِعُذُوقِهَا». وَتَكُونُ ثَدْيَاكِ كَعَنَاقِيدِ الْكَرْمِ، وَرَائِحَةُ أَنْفِكِ كَالتُّفَّاحِ،”
آية (9): “وَحَنَكُكِ كَأَجْوَدِ الْخَمْرِ. لِحَبِيبِي السَّائِغَةُ الْمُرَقْرِقَةُ السَّائِحَةُ عَلَى شِفَاهِ النَّائِمِينَ.”
آية (10): “أَنَا لِحَبِيبِي، وَإِلَيَّ اشْتِيَاقُهُ.”
آية (11): “تَعَالَ يَا حَبِيبِي لِنَخْرُجْ إِلَى الْحَقْلِ، وَلْنَبِتْ فِي الْقُرَى.”
آية (12): “لِنُبَكِّرَنَّ إِلَى الْكُرُومِ، لِنَنْظُرَ: هَلْ أَزْهَرَ الْكَرْمُ؟ هَلْ تَفَتَّحَ الْقُعَالُ؟ هَلْ نَوَّرَ الرُّمَّانُ؟ هُنَالِكَ أُعْطِيكَ حُبِّي.”
آية (13): “اَللُّفَّاحُ يَفُوحُ رَائِحَةً، وَعِنْدَ أَبْوَابِنَا كُلُّ النَّفَائِسِ مِنْ جَدِيدَةٍ وَقَدِيمَةٍ، ذَخَرْتُهَا لَكَ يَا حَبِيبِي.”
ولا يخفى ما في هذه الآيات من تغزل رائق بمحاسن الأنثى، وإسباغ صفات الحسن والكمال في أبهى حلتيهما، وإبراز ملامح الخصب في الأنثى، وتشبيهها بمحاصيل الكروم والحقول، في محاكاة لما كانت تعتقده المجتمعات الأميسية البدائية، وإيمانها بالعلاقة المطردة بين خصوبة المرأة وخصوبة الأرض، كما لا يخفى الحضور الطاغي لذكر الثمار والأزهار في الآيات كعُنوان على الخصب والينعان:
(حنطة/سوسن/ظبية/النخلة/العناقيد/العذوق/التفاح/الخمر/الرمان…) مما يدل على استمرار عقائد العصر الحجري في استحضار رمزية الأنثى داخل المشهد الديني البابلي واليهودي، واستمرار التبرك بخصوبتها وجمالها.
2- المجتمع العربي قبل الإسلام
احتفظت المجتمعات العربية بالكثير من مظاهر تأليه الإناث وأعطتهن مكانة دينية ورمزية اجتماعية لا يُستهان بها، وجعلت الآلهة الرئيسية لأهم القبائل العربية إناثا كـ”اللاَّت” وهي صنم الخصوبة عند العرب قبل الإسلام، ورمز الأرض، وأخواتها هن “العزى” و”منات”، وهذه الآلهات هن الغرانيق العُلى اللواتي ذُكِرْنَ سهوا في سورة النجم في قوله “تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لتُرتجى”. والحديث موضوع الحادثة يصر الإسلاميون على رفضه، رغم أن القرآن يشهد بصحته. كما أنث الإنسان العربي جميع الملائكة تعظيما لشأن الملكوت الأعلى.
وإلى جانب حضور الإلهة الأم في المجتمعات قبل الإسلام، فقد اجتهد الإنسان العربي في التكثير من مظاهر التعظيم للإلهة الأنثى، فعبدت القبائل العربية القمر “سين” رمز الأنوثة، وصممت الكعبات الموضوعة للطواف وعبادة إله القمر على شكل فرج يحتوي على ثلاث قضبان من الداخل، وكان العرب يحجون للطواف حول الكعبات عراة. جاء في الأثر عن بن عباس قال: كانوا يطوفون عراة وكانت المرأة تقول: اليوم يبدو كله أو بعضه (أي فرجها) وما بدا منه فلا أحِله.
واحتلت الكاهنات مكانة مرموقة في النسيج الاجتماعي، واشتهرت الكثيرات منهن كطريفة كاهنة اليمن، وفاطمة الخثعمية كاهنة مكة، والزرقاء بنت زهير، وزبراء كاهنة بني رئام، وأم قرفة…
كما ظهرت فئة من النساء الحسنوات كن يدعين بنات طارق، اقتصر دورهن على إلهاب عزائم الجنود في الحرب مقابل لحظات حميمية من المتعة (يمكن الرجوع للملف الذي أعدته مرايانا عن المجتمع المسمى جاهليا).
ومما يدل على شيوع عبادة اللاَّت، إلهة الخصوبة، عبادةً جنسية، قول أبي بكر الصديق لعروة بن مسعود في الحديث الذي رواه البخاري: “أُمْصُصْ بظر اللات”. ولولا شيوع هذه العبارة في المجتمع العربي قبل الإسلام، ما كان ليقولها أبو بكر. بل كانت لفظا دارجا على الألسنة، كما يؤكد ذلك شيوخ الإسلام لتبرئة أبي بكر من الفحش والبذاءة.
وحتى من أرادو لَيَّ عنق الحديث، وقعوا في نقيض قصدهم، وأثبتوا من حيث أرادوا النفي، شيوع العبارة في المجتمع العربي، مما يدل على أصولها الموروثة عن العبادات الجنسية. يقول ابن حجر في شرحه على البخاري: “البَظْرُ قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، وكانت عادة العرب الشتم بذلك، لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة مَنْ كان يعبد مقام أمه”. ومص بظر اللات أو الأم لا يُلغي فعل المص الذي كان سائدا في فترة من الفترات التاريخية كما سنوضحه في الفقرة الموالية.
3 تقديس الفرج في العصر الحديث
تنتشر في بعض المناطق في سوريا والعراق ولبنان وإيران وجنوب تركيا، فرقة دينية قليلة العدد تُدعى السماعلة، من الباحثين من ينسبهم لإحدى الطوائف الإسماعيلية الباطنية، لتشابه الأسماء؛ لكن الأصل فيها أنها فرقة مستقلة لها طقوسها وعقيدتها المقدسة في عبادة الفرج، وتتخذ هذه الفرقة من النجمة الخماسية (رمز بدائي ظهر في العصر الحجري النيوليتي) شعارا لها، وتتوجه بالعبادة للإله “حَدَدْ”، إله الخصوبة عند السوريين.
وتقوم تعاليم الديانة حسب “عدنان دوسري” على يوم مقدس في السنة، تُعتبر الفتاة التي تولد ذلك اليوم من المقدسات، وبالأخص فرجها وأثداؤها، وتكتسب مكانة عظيمة لديهم، لأن فرجها وأثداءها تعتبر مفاخرة لأقربائها، وتتم عملية العبادة أو الصلاة بوضع الفتاة عند بلوغها على كرسي شبيه بكرسي الولادة، ليقوم أبناء الطائفة بتقبيله مع ترديد آية: (يا معبود…. تلك أيام السعود… قد قطعنا لك كل العهود)، أما في حالة الوفاة، فالكاهنة (المقدسة) تقف على شفير القبر وهي عارية، فيدخل الميت من بين سيقانها مرورا بفرجها، ويردد الحاضرون (يا معبود… منك خرجنا وإليك نعود).
وترى الباحثة نجوى النابلسي أن “وجود هذه الطقوس والأعضاء التناسلية المنحوتة على الأعمدة التي تزين المدن الأثرية في سوريا (أفاما)، المنطقة الوسطى، يثبت أنها معتقد قديم وثني، تسلل وبقي راسخا في وعي هذه الفئة؛ ورغم دخول الإسلام لمناطقهم إلا أنهم احتفظوا بطقوسهم ولم يتخلوا عنها. لذلك، يقولون إنهم ينتمون للإسلام وإن ظلوا محافظين على عقيدتهم وطبعا لم يستطيعوا التصريح بهذه العبادة وستبقى سرية.”
ويصرح ممثل طائفة السماعلة بألمانيا، الشيخ “سمير الكساب” لمجلة “ديرشبيغل” الألمانية في عددها الصادر في فبراير 2009: “بأن ديانتهم من أقدم الديانات كما أثبت الدراسات والنقوش الموجودة في مناطقهم وأن تقديس الفرج يعتبر منطقيا وطبيعيا، بل ويستغرب انتقاد البعض لهذه العبادة أو حتى الاستغراب منها، حيث يعزي ذلك لكون الفرج شيئا مقدسا وله أهمية كبرى، فبدونه لا حياة، لأن الفرج أصل البشرية.
في مقابلته، ذكر سمير الكساب أيضا أنه ليس لديه أي مانع من تقبيل فرج أي امرأة يصادفها في الطريق، لأن هذا الأمر بالنسبة إلى عقيدتهم أمر إيجابي. إلا أن أبناء الطائفة لا يستطيعون فعل ذلك علانية خاصة في الدول التي تحتضن طائفتهم، لأن العبادة غير مقبولة اجتماعيا. لذلك، فهم يكتفون بتقبيل فرج المرأة التي تنتسب إلى عقيدتهم وفئتهم. كما أكد أن ذلك يحصل برضى الفتاة دون اعتراض من أي أحد، حتى من أقربائها، بل الذي لا يقبل الفرج يعتبر على ضلالة وعلى خطيئة ويتهم بعدم التزامه بالعقيدة السماعلية”.
ونساء هذه الطائفة، سواء العاديات أو المحظوظات اللواتي ولدن في اليوم المقدس، منهن المتعلمات والحاصلات على درجات علمية عالية، ومنهن المحجبات وغير المحجبات، لأن الديانة لا تفرض على أتباعها لباسا محددا؛ لا يخجلن من ديانتهن وطقوسها، لكنهن يخفينها خشية الاضطهاد.
إن الخوض في بعض تفاصيل عبادة الأعضاء الجنسية الأنثوية أثناء الحقبة الأميسية كنوع من التعظيم للإلهة الأم، لم يكن الغرض منه الإثارة أو إهاجة المشاعر، ولكنه مجرد إشارة إلى أن معظم ما جادت به روحانيات الإنسان البدائي من عقائد وطقوس، ظل مستمرا عبر مختلف الأزمنة، فتارة يصطبغ بتوابل الأساطير وتارة تُقدسه الأديان، وتارة يدعي البعض أصالةً مزعومة في إنشاء المعتقد والطقوس… لكن الحقيقة، المدعومة بالأدلة الأركيولويجية والشواهد التاريخية، تثبت أن التدين أقدم من ذلك بكثير، فالعبادات والطقوس الدينية كالقرابين ومراسم الجنائز والأعياد واتخاذ الرموز الدينية وبناء المعابد وتخصيص فئة من المجتمع للكهانة والسحر… وغيرها من الشعائر والطقوس، لم تنتجها الحضارات التاريخية، بل وُجِدت إرهاصاتها الأولى مع الإنسان الحجري الذي وضع حجر أساسها قبل آلاف السنين.
وعندما نتكلم عن تأثير الحضارات السومرية والبابلية والهندية على الديانات التوحيدية، فينبغي من باب العدل والإنصاف، أن نتكلم عن تأثير الثقافات الدينية البدائية التي ألهمت سومر وبابل وأثينا وروما. يقول فراس السواح: “إن أول ما انفرد به الإنسان عن غيره من جماعات الرئيسيات العليا، هو تشكيل الأدوات الحجرية بواسطة تقنيات الشطف. وبعد ظهور الأدوات الحجرية، ترك لنا الإنسان الأول، إلى جانب أدواته، شواهد على وسطه الفكري، تشير إلى بوادر دينية لا لبس فيها، وتُبين ظهور الدين إلى جانب التكنولوجيا كمؤشرين أساسين على ابتداء الحضارة الإنسانية. ولازِالتُ، إلى يوم الناس هذا، لا أرى في كل نواتج الحضارة الإنسانية إلا استمرارا لهاتين الخصيصتين الرئيسيتين للإنسان، فكل ارتقاء مادي تكنولوجي قد تسلسل من تلك التقنيات الحجرية الأولى، وكل ارتقاء فكري وروحي قد تسلسل من تلك البوادر الدينية الأولى وتطور عنها”. المصدر: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني. ص 19.
إن الوقوف على منشأ العقائد والطقوس الدينية في العصور الحجرية، والأجوبة البسيطة والساذجة التي بلورها الإنسان في تعاطيه الواعي مع الطبيعة، والتصورات البريئة والطفولية التي صاغها عن المرأة والكون والظواهر الطبيعية، يجعل الباحث يقف متحيرا كيف لم تستطع بعض الشعوب المتدينة -التي تدعو لتحكيم الشرائع الدينية لسياسة العالم- أن تتجاوز العتبات الأولى للفكر الإنساني؟! وكيف تراهن على حمولةٍ دينية تجاوزها الزمن كما تجاوز الأدوات الحجرية التي وُجِدت بالتزامن معها ؟!