دفن الموتى وأولى محاولات بناء المعابد (الجزء الثالث) - Marayana - مرايانا
×
×

دفن الموتى وأولى محاولات بناء المعابد (الجزء الثالث)

انتقل الإنسان من الكهف إلى رفع أعمدة أول المعابد الساذجة، متمثلة في أنصاب الميغاليت، وهي شواخص حجرية مرتفعة ومتنوعة، نصبها الإنسان القديم ليتعبد عندها أو يعبدها.
وتوجد شواهد لهذه الأنصاب في كل من الأردن وفلسطين قبل انتشارها في كافة أنحاء أوروبا في الألفين الثالث والرابع قبل الميلاد.

الفترات الطويلة التي قضاها إنسان النياندرتال في الكهوف أثناء عصر الباليوليت الأوسط، وطدت وشائج القرابة بين المتساكنين فيها، وألهمتهم دفن أقاربهم تحت الكهف إكراما لهم من الرمي في العراء، ثم تطورت مراسيم الدفن مع مرور الزمن، وأصبحت مشحونة بالكثير من الروحانية التي تدل على إيمان الإنسان البدائي بحياة ما بعد الموت.

من شعائر الدفن المكتشفة في الكهوف القديمة:

–         الدفن باتجاه الشرق في وضعية جُثُوٍّ، أو متوسدا يده اليمنى، مع وضع بعض أحجار الصوان تحت رأسه وحمايته من فوق بألواح حجرية.

–         تناول أدمغة الموتى كنوع من الامتزاج الروحي مع المتوفي، حيث عُثِر في مجموعة كهوف، في كل من كرواتيا وإيطاليا وبكين، على جماجم لإنسان النياندرتال مكسورة الجماجم مما حذا ببعض الباحثين كـ: Clark Graham  للقول بأن الإنسان البدائي اعتقد بوجود الروح وتناول المكان الذي ظن أنه يحتويها كنوع من الامتزاج مع أرواح الأسلاف المتوفين.

         دفن بعض الرموز المقدسة مع الميت، كرماد النار وعظام الحيوانات وبعض المتعلقات الشخصية كقضبان الفؤوس الحجرية.

         فرش بعض المدافن بالزهور والبذور واللقاحات النباتية، كالمدفن المكتشف بموقع شانيدر العراقي.

         دفن بعض التعاويذ المصنوعة من المحار مع الموتى، حيث عُثر في مدفن بملاجئ Les eyzies بفرنسا، على مجموعة مكونة من 300 قطعة من المحار البحري موضوعة على شكل عقود قرب هيكل عظمي، كما عثر على 200 قطعة من المحار موضوعة على رأس رجل مدفون بوضع القرفصاء في كهف La grotte de cavillon .

–         صبغ جثث الموتى بصبغة حمراء، حيث عثر على العديد من الجثث والهياكل العظمية مطلية بهذه الصبغة الحمراء، في إشارة إلى رمزية استمرار الحياة بعد الموت.

         استقلال المدافن بمقابر خاصة بعيدا عن الكهوف في العصر الميزوليتي، مع استمرار دفن التعاويذ وطلي الجثث باللون الأحمر.

         تطور عقيدة الحياة بعد الموت، وتغير وضعيات الدفن، وبداية تغطية الموتى بالقماش والحصير، خاصة في مصر، وتجهيز القبر بالأواني الفخارية.

·       المعابد

كان أول معبد عرفه الإنسان الحجري هو كهفه الذي وقاه من عوادي عصر الجليد، ووفر له مساحة للتأمل والوعي بذاته التي خرجت للتو من عالم الغاب والتوحش، وإطلاق العنان لخياله البكر ليرسم على جدران الكهوف لوحات غاية في الروعة والإتقان، لازالت شاهدة على افتسال إنسانية الإنسان وإزهارها وعيا وفنا وسحرا. يقول فراس السواح: “إن إنسان الباليوليت الأعلى (الإنسان الحجري) في هذه البقع القَصِيَّة المظلمة، يبحث عن تواصل مع المجال الآخر، مع عالم اللاهوت من خلال شارات قدسية تربط بين العالمين. وكما فعل إنسان الباليوليت الأوسط، فقد اختار إنسان الباليوليت الأعلى شاراته المقدسة من العالم الحيواني، لا ليعبدها بذاتها، بل ليستحضر من خلالها قوة العالم الموازي. وتحولت كهوف الدب المتواضعة التي اتخذها النياندرتال إلى مقامات مقدسة وإلى كاتدرائيات نحتتها الطبيعة في الأعماق على حدود أوقيانوس الظلمة، وأقام فيها الإنسان العاقل نقاط تواصل مع المجال الآخر من خلال هيئات حيوانية تلخصت بشكل رئيسي في الثور والبيسون والحصان”. المصدر: دين الإنسان، ص 150.

…ثم انتقل من الكهف إلى رفع أعمدة أول المعابد الساذجة، متمثلة في أنصاب الميغاليت MEGALITH وهي شواخص حجرية مرتفعة ومتنوعة، نصبها الإنسان القديم ليتعبد عندها أو يعبدها. وتوجد شواهد لهذه الأنصاب في كل من الأردن وفلسطين قبل انتشارها في كافة أنحاء أوروبا في الألفين الثالث والرابع قبل الميلاد. بعد شواخص المغاليت، بدأ الإنسان يطور معابده بشكل أكثر وضوحا في العصر النيوليتي، وانقسمت معابده إلى ثلاثة أقسام:

1 المصليات العائلية: المكتشفة في أريحا، وهي معابد صغيرة ملحقة بالبيوت يوجد في وسطها عمود صغير كالمحراب الموجود في المساجد.

2 المزار: هو أكثر تطورا من المصلى العائلي وأكبر منه، عثر عليه في أريحا أيضا، يتكون من فناء واسع نسبيا مجهز للعبادة الجماعية.

3 المقام: وهو معبد بدائي متصل بمقبرة لُوِّنت جثث موتاها بالأسود والأحمر.

   القرابين والأضاحي

كان أول شيء يتفاعل معه الإنسان بعد انبجاس عيون الوعي بداخله، هو هذه الحيوانات التي أصبح يراها لأول مرة وهو منفصل عنها بإدراكه ووعيه. حيوانات كثيرة ومتنوعة تتساكن معه في نفس المكان، منها ما كان يشكل خطرا على حياته، ومنها ما اختاره لتغذية نفسه.

هذه النظرة المُعْجَبة بقوة الحيوان والخائفة من بطشه وقوته، ألهمت الإنسان البدائي حِسًّا فنيا دفعه لتخليد صور الحيوانات على جدران الكهوف، افتتانا بجمالها وتقديسا لاحتفاليات الصيد المحاطة بالكثير من الرموز الدينية. بالإضافة لهذه الرسوم الغارقة في التأمل والتجريدية، فقد استطاع بمعداته الحجرية البسيطة أن ينحت لها دمى ومنحوتات بسيطة، مُعلنا بفعله هذا، بدايات تشكل الإله دائم الحضور خارج الكهف وداخله. ورغم هذا التبجيل والتقديس الذي كان يحيط به الحيوانات، فلم يمنعه ذلك من تقديمها كقرابين للأرواح، خاصة في العصر الحجري الحديث، “النيوليت”، طلبا للخصوبة ووفرة المحاصيل. وقد تنوعت قرابين الإنسان البدائي بين النباتية والحيوانية والبشرية حسب تنوع العصور الحجرية، وتطور أنساق الوعي البشري، فاتخذت هذه العبادة في بداياتها الأولى طقوسا قاسية، كتقديم البشر قرابين وأكل لحومهم. يقول الفيلسوف ويل ديورانت في كتابه “قصة الحضارة”: “ذلك أن أكل اللحوم البشرية كان يوما شائعا بين الناس جميعا، فقد وجدناه في كل القبائل البدائية تقريبا… ولطالما شرب أهل القبائل دم الإنسان.. باعتباره شعيرة دينية”، ج1، ص 19/20.

كما يقول الباحث خزعل الماجدي: “خوف الإنسان من المجاعات وخشيته من عدم توفر الغذاء، جعله يضحي بأبنائه بصورة طقسية دينية، وقد تزايد الإقبال على  تقديم الفديات تبعا لنقصان القوت، حتى أنها بلغت في قسوتها ومظهرها الدموي حدا عظيما، عندما بدأت المجتمعات تعتمد في أكلها على النبات بصفة مستمرة… ومع انتشار الزراعة ورسوخها كأعظم عامل اقتصادي في حياة الإنسان، وبدء تمثل نتائجها روحيا وترافق الأضاحي مع مواسم البذار والحصاد، فالأرض والبذور في حاجة إلى دماء مقدسة”. المصدر: أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ، ص81.

وقد عُثر في مقابر تعود إلى عصر النيوليت، بمواقع “تل الصوان” و”سامراء”، على قبور كثيرة لأطفال صغار أغلبهم إناث، واقترح الباحث فوزي رشيد، في مقاله المنشور على مجلة “سومر”، أن وأد البنات لم يكن مرتبطا بما نظَّرت إليه السردية الإسلامية من كون الوأد كان منتشرا في المجتمع الجاهلي تنقيصا من شأن البنات، ولكنه كان عادة بدائية قديمة ارتبطت بطقوس دينية لاسترضاء الآلهة ورثتها باقي الشعوب، (يمكن الرجوع للملفات التي أعدتها مرايانا عن مكانة المرأة في المجتمع المسمى “جاهليا”). وقد أدى هذا الوأد المستمر للبنات وتقديمهن كأضاحي، إلى نقص عددهن مقارنة بعدد الذكور، فاشتهرت بعض المناطق في الشرق الأدنى بتعديد النساء بالذكور (تزوج المرأة بأكثر من رجل)، حتى تم إلغاء هذا العادة الموروثة عن العصور القديمة بقانون “أروكاجينا” السومري حوالي 2300 قبل الميلاد، وقد ورد في إصلاحاته ما يلي:

–         النساء قديما كانت الواحدة منهن تتزوج رجلين.

–          النساء في الوقت الحاضر يُرجمن بالحجارة إذا فعلن الشيء نفسه.

وقد ظلت فكرة تقديم القرابين سائدة حتى بعد انقضاء العصور الحجرية، واتخذت أشكالا متنوعة من تخصيص جزء من المزروع للآلهة، وذبح القرابين في المواسم الدينية، وتحريم ركوب وحلب بعض الحيوانات وتَسْييبها شكرا للإله المُنْعِم بها… وقد تبنت الديانات التوحيدية طقوس تقديم القرابين بنفس المنطلقات البدائية، واعتبار دمائها مرضاة للرب ومَجْلَبةً لرزقه.

وقبل الانتقال إلى أهم ما أبدع عقل الإنسان القديم، لا بد من التذكير أن اقتصارنا على ما ذُكر من ملامح التدين في تلك العصور، لا يلغي احتفالها بالكثير من المظاهر والشعائر الدينية، كتقديس النار وممارسة طقوس الاستسقاء، والاحتفال بالأعياد الدينية، وإنتاج الرموز والأشكال التي عُبر عنها بالتشكيل ونحت الدمى الفخارية…

من أهم الرموز التي تدل على بداية التجريد وشحن الرموز بحمولة دينية متوترة: الدمى والتماثيل المختلفة/ المندالا/ الصليب/ النجمات الرباعية والخماسية والسداسية والثمانية/ رموز الحيوانات المعروفة والأسطورية… وغيرها من الرموز التي مهدت لعصر الكتابة، كما كانت تعبيرا رمزيا عن بداية تشكل الأساطير البكر للخيال البشري. (إن الرمز يحتوي إشارة حرفية، كذلك مدى أعظم منها بكثير من المعنى والتضمين والعاطفة.. والرمز كثيرا ما يندمج مع النمط الأعلى أو التعبير عن موتيفات غريزية وكونية مختلفة أو أنساق من السلوك والمعتقد الإنسانين تأتي مشحونة بزخم عاطفي بدائي). المصدر: الأسطورة والرمز، جبرا إبراهيم جبرا.

 

لقراءة الملف كاملا:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *