السحر… أولى محاولات التدين (الجزء الثاني) - Marayana - مرايانا
×
×

السحر… أولى محاولات التدين (الجزء الثاني)

انتقلت ممارسات السحر البدائية للحضارات اللاحقة واحتضنتها وطورتها، واعتبرتها على جانب من التأثير الروحي الذي ينبغي صياغته واحتواءه وإذابته في شعائر الدين.
وكانت أول حضارة تدمج الأساليب السحرية الموروثة عن العصور الحجرية، هي الحضارة السومرية باعتبارها أول حضارة إنسانية معروفة بعد اختراع الكتابة.

السحر بالنسبة للإنسان الحجري هو مواجهة الغموض بالغموض، هو الصدام مع قوى الطبيعة الجارفة والمعقدة بطلاسم وتعاويذ معقدة.

وجد الإنسان نفسه وجها لوجه مع طبيعة قاسية وحيوانات مفترسة وحداثةِ وعيٍ لا تملك  كبير حيلة لتدبير ظروفه القاهرة، فالتجأ لممارسات طقسية غامضة بهدف السيطرة على المصيد واتقاء شرور الكوارث، وخلد ذلك في لوحات فنية على جدران الكهوف، فيها من الواقعية والتجريد الشيء الذي ينم عن تطور هذه الممارسات عند الإنسان الحجري. وبتحليل مجموعة الصور التي وُجدت في أكثر من مئة كهف بجنوب فرنسا وشمال إسبانيا ككهف: (Niaux/  Les trois frères/  Lascaux/ Altamira) نشر الباحث Henri Begouen  مقالا فنياً في جزأين، في  مجلة Revue Scientia  لسنة 1939، أكد فيه على أبعاد نظرية السحر في اللوحات المكتشفة. كما أن تشابه بعض اللوحات التي تتضمن صورة مركبة لإنسان متخفي برأس “بايسون” وهو يؤدي إحدى الرقصات، دفعت الباحث L’Abbé H. Breuil  إلى تأكيد الدلالات السحرية لتلك اللوحات، لتشابهها مع نفس الطقوس للقبائل البدائية التي التقاها في آسيا وإفريقيا أثناء إجرائه بعض البحوث الأثرية.

بغض النظر عن شذوذ بعض الباحثين على اعتبار تلك الصور نوعا من الممارسات السحرية المبنية على محاكاة العناصر الطبيعية على جدران الكهوف وممارسة بعض الطقوس للسيطرة عليها، فلا يختلف أغلب الأكاديميين على شيوع الممارسات السحرية في العصور الحجرية، خصوصا المتأخرة منها، وبروز فئة من السحرة كانت تمتلك مميزات باراسيكولوجية  وقدرات كبيرة على الإخضاع والتوجيه، اهتمت بتقنين الممارسات الطوطمية، واحتكرت إشعال النار المقدسة وسهرت على المراسيم الجنائزية: كصبغ الجثث وتزيينها بالمحار ودفنها مع بعض المتعلقات الشخصية، وتقديم القرابين البشرية والحيوانية لأرواح الأسلاف وتنظيم جلسات لأكل أدمغة الموتى لتسهيل انتقال روح الميت لأقاربه والكثير من الشعائر البدائية…

تعددت استعمالات السحر وتدخل في كافة شؤون الإنسان البدائي، بدءا من الرسوم على جدران الكهوف، إلى النقش على الأواني الفخارية للحفاظ على مكنوناتها، ثم استعماله طلبا للخصب وحماية المحاصيل ونسج الرموز السحرية على القماش والنسيج والفخار…

من أهم الأسس السحرية التي أنتجها الساحر في تلك الحقب الغابرة وبنى عليها ممارساته البدائية: ثلاث أسس رئيسة للسحر، لازلت مستعملة حتى اليوم كأصول عريقة للسحر والشعوذة:

1-   التشابه أو المحاكاة:

أدت الملاحظات الأولى للإنسان البدائي لعناصر الطبيعة، إلى وجود نوع من التشابه والتكرار في ظواهرها، فحاول القيام بنفس الأمر لتحصيل مصالحه الحيوية، وعمد، من أجل ذلك، إلى رسم الحيوانات ومظاهر الطبيعة ومشاهد الصيد على الجدران والألواح الفخارية، ثم القيام بأعماله الافتراضية عليها طلبا لحصولها في الواقع، كرسم صورة ثور البيسون ثم طعن الصورة بحربة قبل الانطلاق للصيد الفعلي، أو قيامه برش الأرض استنزالا للمطر (ينظر لوحات الصيد الميزوليتية وسواستيكا الاستسقاء للراقصات الأربع).

ولازال السحرة اليوم يقومون بوخز الدمى للتأثير على شبيهها من الناس، أو نثر أعشاش الطيور تحت مراقد الأبناء لجمع شمل العائلة وغيرها من الطقوس السحرية المبنية على المحاكاة.

2-   الاتصال:

يرى بعض الباحثين أن مراقبة الإنسان البدائي للدورة الزراعية للبذور والثمار في العصور الحجرية المتأخرة، التي عرفت نوعا من الزراعة البدائية، قد أوقفه على حقيقة: كيف يعيد الجزء إنتاج الكل، وعلاقة الاتصال والتوليد بين الجزء (البذور) والكل (المحاصيل)، فحاول استصحاب ذلك لعالمه البشري، واعتبار أن التأثير على جزء من الإنسان المراد سحره، يؤدي للتأثير عليه كله. يقول الباحث “الجميل قحطان محمد صالح”: “وفي هذا النوع من السحر، يزعم الساحر أنه يستطيع إيذاء أي شخص عبر الحصول على أي شيء يرمز له  مثل:  قصاصة من ملابسه أو خصلة من شعره أو بقايا أظافره أو ضرس مخلوع. وما يحدث لهذا الجزء، يحل كذلك بالكل. ويعتقد الرجل البدائي أن الصلة بينه وبين أي جزء من جسمه تستمر حتى بعد أن ينفصل هذا الجزء منه، بحيث إذا أصاب هذا الجزء أي مكروه حل بصاحبه هذا المكروه عن بعد”. المصدر: التنبؤ وقراءة المستقبل، حقائق أم أوهام؟ ص 50.

3-   التخاطب أو التخاطر الذهني:

وهو قدرة الساحر على مخاطبة الأرواح البعيدة والتأثير فيها ودفعها لتأدية المطلوب منها، ويرى الباحث خزعل الماجدي، أن التخاطب لم يكن نوعا من الدجل ولكنه كان قوة باراسيكولوجية تقوم بها الغدة الصنوبرية لتسهيل تواصل الانسان البدائي مع أقاربه البعيدين عنه، قبل أن تقوى أواصر الاجتماع الإنساني.

يقول في كتابه “بخور الآلهة: دراسة في الطب والسحر والأسطورة والدين”: (أما قانون التخاطب أو التخاطر، فيرجح أنه نشأ من تصور أبعد للقانون الثاني بالإضافة إلى ما كان يظهر في الإنسان من قوة على التأثير عن بُعد سببه الغدة الصنوبرية، وهي غدة موجودة بين فصي المخ من الخلف وتضمر بعد الطفولة ويقتصر نشاطها على الفترة الأولى من الحياة عند الإنسان المعاصر، وقد كانت هذه الغدة قوية ونشطة عند الإنسان البدائي وكانت تساعده على تحسس عالمه والاستشعار والتخاطب عن بعد. لكن، بعد أن ألغى الانسان عزلته بالتجمعات السكنية وبعد أن أصبح كائنا اجتماعيا، ضعفت فيه هذه الغدة واقتصر نشاطها على طفولته لأنه يحتاج إليها في هذه المرحلة وكأنه إنسان بدائي) ص184.

لم تكن فئة السحرة تتعمد الكذب أو تعتقد أن ما تقوم به مجرد خرافات، بل كان الساحر أو الشامان، يؤمن بامتلاكه قدرات خارقة، خصوصا أن بعض الممارسات كانت تبتدأ بتناول أنواع قوية من المخدرات. يقول السير فريزر جيمس في كتابه “دراسة في السحر والدين”: (لا يعرف (أي الساحر) سوى الجانب العملي من السحر، ولا يحلل أبدا العمليات الذهنية التي تقوم عليها أفعاله وممارساته؛ كما أنه لا يشغل نفسه بالتأمل والتفكير في المبادئ المجردة التي تنطوي عليها تصرفاته، فالمنطق بالنسبة له أمر ضمني وليس أمرا بَيِّنا صريحا: بمعنى أنه يفكر مثلما يهضم طعامه دون أن يدري شيئا على الإطلاق عن العمليات الذهنية والفسيولوجية التي تعتبر أساسا لهذين النوعين من النشاط”.

لا يمكن القول إن مثل هذه الممارسات، التي تدل الآثار الأركيولوجية على وجودها، قد اندثرت بانتهاء العصور الحجرية، بل لازالت بعض القبائل في إفريقيا وهنود أمريكا الشمالية واستراليا وآسيا، تمارس هذه الطقوس السحرية بنفس الطريقة.

وقد انتقلت هذه الممارسات البدائية للحضارات اللاحقة واحتضنتها وطورتها، واعتبرتها على جانب من التأثير الروحي الذي ينبغي صياغته واحتواءه وإذابته في شعائر الدين، وكانت أول حضارة تدمج الأساليب السحرية الموروثة عن العصور الحجرية، هي الحضارة السومرية باعتبارها أول حضارة إنسانية معروفة بعد اختراع الكتابة. يقول الدكتور خزعل الماجدي: “إن أغلب النصوص السحرية قد أتى من سومر ثم أعيد كتابته بالآكدية زمن سلالة بابل الأولى، وكان السحر يسمى عند البابليين باسم “كشفو” أو “كيشبو”. نفس المصدر ص186.

وعرفت بابل السحر الأسود المُسَخَّر للشرور، والسحر الأبيض “الذي يشرف عليه كهنة الدولة وهو ديني إلهامه وغاياته للخير، فهناك التعاويذ والطقوس السحرية الكثيرة لأغلب المناسبات، والتي تستند على عناصر عامة لغالبية أشغال السحر، فاللون والعُقد وقواها، والدائرة وأهميتها والتطهير بالماء ثم بالنار”. المصدر: الأحمد سامي سعيد، معتقدات العراقيين القدماء في السحر والعرافة والأحلام والشرور. ص 58.

كل الممارسات والطقوس السحرية، كالتلفظ بالعزائم والطلاسم، وكتابة التعويذات على التمائم والأحجبة، ورسم الرموز والأشكال المبهمة، والاستعانة بالأرقام وبعض أعضاء الحيوانات، ودفن السحر أو إغراقه أو عقده وحله… كلها طورها البابليون والآكديون، ثم انتقلت للحضارة الفارسية والفرعونية والإغريقية والرومانية، ونقلها اليهود إبان سبيهم ببابل، وضمنوها أسفارهم المقدسة. ورغم أن الإسلام قد حرم السحر، لكنه احتفظ ببعض مظاهره كقراءة القرآن والمعوذات المأثورة على المرضى والنفث على المكان المصاب في الجسد والتداوي بالريق والتراب والحجامة في أوقات مخصوصة من الشهر القمري…

 

لقراءة الملف كاملا:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *