المدارس الحرة: المدارس المغربية الأولى… لمواجهة الاستعمار! 1 - Marayana - مرايانا
×
×

المدارس الحرة: المدارس المغربية الأولى… لمواجهة الاستعمار! 1\2

الحكاية في الأصل، أن… التعليم الحر أو المدارس الحرة، كانت رد فعل “طبيعي” و”منطقي” ضد السياسة التعليمية الفرنسية، التي كانت تقوم على التمييز وإقصاء الهوية المغربية.

السياسات التعليمية الكولونياليّة، كانت لها، على الدوام، غايات إنتاج “كائنات” خاضعة ومتماهية مع المصالح الاستعمارية. هذا ما عبّر عنه صراحة، جورج هاردي؛ مسؤول السياسة التعليمية في المستعمرات الفرنسية حين قال: “إن القوة تبني الامبراطوريات، ولكنها ليست هي التي تضمن لها الاستمرار والدوام. إن الرؤوس تنحني أمام المدافع، في حين تظل القلوب تغذي نار الحقد والرغبة في الانتقام. يجب إخضاع النفوس بعد أن تم إخضاع الأبدان”.

في هذا الملف، سنتعرف على قصّة هذه المدارس الحرة وعملية نضجها تطورها.

المدارس الحرة… جذور مرسومة؟ 

يرى عبد الله العروي في كتابه استبانة (الصفحة 29)، أنّه، “أيام السلطان الحسن الأول، كان للإنجليز مدارس إرسالية” مخالفة لنظام المسيد، وأيام الحماية كانت للكنيسة المسيحية مدارس خصوصية، كما هو الحال في فرنسا ذاتها. حيث يقول العروي: “لا فرق في هذا الباب بين المنطقة الجنوبية والشمالية أو منطقة طنجة. لا شيء كان يمنع إذن، نظريا على الأقل، أن تؤسس مدارس خصوصية مغربية، عاجلا أم آجلا”.

لكن، لما انسد باب التوظيف في إطار المخزن بسبب انحصار نفوذه، وأصبح تعيين القضاة ومساعديهم بيد الفرنسيين، وطبعا حسب درجة موالاة الناس لهم، وتعثر إصلاح التعليم؛ وبعد أن انتشرت الدعاية ضد الزوايا، لم يعد أي منفذ مفتوحا لخريجي القرويين وجامع ابن يوسف، سوى التوجه نحو التدریس خارج سلك الدولة.منذ البداية،رأىالفرنسيون في تأسيس أية مدرسة حرة خطرا على نفوذهم.

لماذا؟ لأنهم كانوا يعتبرون المسيد مدرسة دينية على شاكلة المدارس الكنسية عندهم. بالتالي، عليها، في رأيهم، ألا تتعدى تلقين القرآن.

يرى عرّاب التّاريخانية أنّه، “لو وافقوا على تطوير المسيد أولا ماديا، باستعمال السبورة والطباشير والمقاعد والكتب والكنانيش، ثم أدبيًا بإدخال مواد جديدة في البرنامج كالتاريخ والجغرافيا والحساب، وبالنسبة للبنات التدريب على الخياطة والطرز والطبخ، وهو ما كانت تفعله الراهبات الإنجليزيات، لما دعت الحاجة إلى تأسیس مدارس حرة”.

لكنهم عارضوا تلقين أية مادة غير دينية بالمعنى الضيق، حتى الحساب، حتى التاريخ؛ فجعلوا، رغما عنهم، من تأسيس كل مدرسة حرة عملاً معاديا لهم، ودليلا على انتشار النقمة ضدهم. بل وصل الأمر إلى حد أنهم اعتبروا رعاية السلطان أو بعض الأسر المغربية الغنية لمدرسة حرة، تحولا خطيرا في مسار العلاقات الفرنسية – المغربية…

هذا مع أن إدارة الحماية لم تُبد أدنی امتعاض تجاه مبادرات مماثلة من قبل الطائفة اليهودية. وعندما أعطت أكلها، سارع بعض الفرنسيين إلى مقارنة “نباهة” اليهود و”غباوة” المسلمين، وفق توصيف العروي.

من ناحية أخرى، يعلق الباحث في تاريخ المغرب المعاصر، اسماعيل صديقي، على تأسيس المدارس الحرّة بالقول إنها “جاءت، عمليًّا، كرد فعل من السكان المغلوبين على أمرهم، الذين هدفوا الى إقامة مدارس خصوصية للحفاظ على ثقافتهم وضمان استمراريتها. وفي ظل ذلك الحماس المواكب للحركة الوطنية، تطوع محسنون، فحبسوا دورا ورياضات، راوحت في البداية بين ثلاث غرف أو أربع، خصصت لتربية أبناء المغاربة وتعليمهم تعليما وطنيا عربيًّا إسلاميًّا، ردا على مقررات التعليم العصري التابع للحماية”.

صديقي يضيف في تواصله مع مرايانا أنه، إلى جانب الأسباب الهوياتية الخالصة، جاءت المدارس الحرّة لسدّ النّقص الحاصل في مجال التّعليم، إذ لم تكن المدارس العموميّة الفرنسية، أواخر الثلاثينات، تستقطب إلا اثنان في المائة من الأطفال المغاربة البالغين سن التمدرس، والمقدر عددهم بمليون طفل على الأقل، فكانت بذلك المدارس الحرة مفتوحة في وجه جميع المغاربة. هذا الأمر جعلها مكان التقاء وتلاحم اجتماعي جسد الاختيارات الوطنية والسياسية والرغبة في الاستقلال لدى العائلات المغربية.

أكثر من ذلك، يعتبر المتحدث أنّ هذه المدارس شكّلت أبرز مراكز المقاومة المغربية، إذ كان على رأسها صفوة من الوطنيين المخلصين، هدفهم بث الروح الوطنية في صفوف التلاميذ، عبر تدريسهم التاريخ المغربي، وتلقينهم مجموعة من الأناشيد التي كانت تتغنى بفكرة الوطن وبالهوية العربية الإسلامية.

بالمزاوجة مع ذلك، “كان تلاميذ المدارس الحرة يتلقون دروسا في التربية الوطنية العملية، إذ كانت تنظم فيها حلقات سرية يشرف عليها قادة الحركة الوطنيّة، لتذكير التلاميذ بالدور الواجب عليهم في معركة التحرير الكبرى (الاستقلال)، وكان من ثمار هذه الحلقات أن انتظم التلاميذ في خلايا فدائية سرية، ولعبوا دورا كبيرا في الانتفاضة التي تلت نفي الملك الراحل محمد الخامس”. هكذا يجمل صديقي حديثه لمرايانا.

مدارس من رحم “الفشل”؟ 

يفصّل لنا الباحث في التاريخ والآثار، سفيان حرقي، أنه كثيرا ما تحدث الباحثون عن الإصلاحات التي أجراها المخزن المغربي من أجل اللحاق بركب الحضارة الغربية التي اصطدم بها عسكريا، في مرحلة أولى، واقتصاديا وتجاريا وثقافيا، في مرحلة ثانية. لقد عرى هذا الصدام واقع ضعف المغرب على شتى المستويات. في هذا الباب، باشر المغرب مجموعة من التدابير الإصلاحية، التي آل أمرها إلى الفشل. إصلاحات لم تمس الميدان التعليمي إلا لماما (البعثات الطلابية إلى الخارج بدرجة أولى).

هكذا، وفق ما يوضحه حرقي لمرايانا، سيظل النسق التعليمي المغربي تقليديا، كما كان خلال العهود السالفة: تعليم يبجل تآليف الأقدمين ويعيد إنتاج نفس النظام التربوي، الذي يقوم على حفظ المختصرات أكثر مما يقوم على الفهم والدراية؛ تعليم نقل لا عقل… الأمر الذي كان يساهم في إعادة إنتاج نفس النخبة، بفكر ومنهج تقليديين.

هذا الوضع “جعل بنيات البلاد، الاجتماعية والاقتصادية والذهنية، محافظة على عتاقتها، متأبطة للجمود، ميالة للتقليد والتكرار والاجترار”.

بالنسبة للباحث، فإنّ “المسيد”، الذي يسمى أيضا في مناطق أخرى من المغرب بالكتاب أو الجامع أو المعيمرة أو المحضر، ظلّ مصدر العلم وموئله، وطبعا العلم الشرعي، إضافة إلى بعض الدروس في النحو والإعراب، ونزر قليل من الحساب والجغرافيا.

يسترسل حرقي قائلاً إنّ مجيء فرنسا، “بمهمّتها الحضارية” المزعومة، التي تبتغيمن خلالها تلقين الأهالي قيم الحضارة الغربية، عجل بتطوير مجال التعليم على نحو غير مسبوق، بحيث باشرت فرنسا، عبر مقيمها العام ليوطي، سياسة تعليمية قوامها أن “لكل فئة تعليمها الخاص”، فظهرت مدارس للأعيان (les écoles de notables) وأخرى لحرفيي المدن وصغار الموظفين والتجار سميت بـ “المدارس الحضرية” (les écoles urbaines)، ومدارس أخرى في القرى.

كل هذه المدارس، التي تشرف عليها السلطات الاستعمارية الفرنسية، كانت تعتمد منهجا دراسيا يهمش اللغة العربية والمواد الإسلامية بشكل واضح. غير أنه، في الوقت الذي كانت فيه رياح  الحركة السلفية قد هبت على المغرب، خلال هذه الفترة، بدأت أفكارها تنتشرُ في أوساط النّخب المغربيّة. أفكار تجعل من القرآن وسنة الرسول المصدرين اللذان لا ثالث لهما لإصلاح حال الأمة، التي في نظرهم قد تراجعت، أو باتت قاب قوسين أو أدنى من التراجع.

بعض أولئك السلفيين المغاربة، حسب المتحدث، لم يفته أن يلاحظ مدى هشاشة التعليم الابتدائي المغربي، مقارنة بالتجربة “النصرانية”، خاصة بعد انتشار المدارس الفرنسية. من ثمة، بدأت الدعوات والمبادرات لإنشاء المدارس الحرة التي ستشكل صرحا تترجم فيه ردود فعل المغاربة حيال التعليم الكولونيالي، وفي الآن ذاته بذوراً لميلاد ونموّ الحس الوطني.

يبدو لمرايانا أنّه من الصّعب وضع لائحة نجرد فيها الأسباب، التي على ضوئها، تم تأسيس المدارس الحرة،حيث إن هذه الأخيرة لم تؤسس في فترة واحدة، بل تمّ تأسيسها على مراحل مختلفة، بدءا من سنة 1919 إلى غاية حصول المغرب على الاستقلال.

كما أننا لا نحتاج إلى التذكير بالظرفيات التي عاشها المغرب زمن الحماية، لنبين أنه لكل مدرسة على حدة، أسباب ودوافع معينة لقيامها. لكن هذا لا يمنع من وجود بعض القواسم المشتركة في بواعث ظهور هذه المدارس.

من أهم الأسباب المباشرة أنه كانت هناك رغبة وإرادة في تحسين طبيعة ونوعية التدريس التقليدي لمجابهة نظيره الفرنسي؛ فلو لم تنشئ فرنسا نظام المدرسة العمومية الحديثة بالمغرب، لما كان هناك أي دافع لتغيير أشكال التعليم التقليدية؛ كما كان إنشاء هذه المدارس بمثابة رد فعل ثقافي، قبل أن يكون وطنيا، يتمثل في الدفاع عن الإسلام واللغة العربية، ليتخذ لاحقا طابعا وطنيا، وفق العديد من الباحثين.

فضلاً عمّا أثاره ظهير 16 ماي 1930 (والذي يعرف بـ”الظهير البربري”) من حفيظة لدى الوطنيين، بخصوص سعي فرنسا لتنصير الأمازيغ (البربر) وتجريدهم من الدين الإسلامي، وأدى الوضع حينها إلى ظهور مناخ ملائم لنمو المدارس الحرة ذات التوجه الوطني والإسلامي بالأساس.

من الظاهر أنه، في ظل غياب أحزاب مهيكلة للعمل السياسي (قبل ثلاثينيات القرن العشرين)، كان تدشين المدارس الحرة إحدى الوسائل التي يخوض المغاربة من خلالها المعركة الوطنية ضد المستعمر.

في الجزء الثاني، نعرض المحتوى البيداغوجي للمدارس الحرة، وواقعها بعد استقلال المغرب.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *