عبد الكريم جويطي يكتب: في مديح زهير سنيسلة - Marayana - مرايانا
×
×

عبد الكريم جويطي يكتب: في مديح زهير سنيسلة

يسجل سنيسلة ويهتز الفريق من حوله فرحا، ويجري نحوه من كان وراء المرمى الخصم يوجهه، فتراه هادئا بلا انفعال زائد إزاء كل الفرح الذي فجره، كأن حكمة ووجعا قديما يعرفان كيف يكفكفان هذا الفرح الطارئ، كأنه، هو وحده، يعرف بأن لا مجد في انتصار مكفوف على مكفوف…
وكأن كل العذاب الذي قاده لهذه اللحظة المجيدة يقف في حلقه ويشل يديه ويجعله يتلقى التهاني كجدع شجرة ميت.

عبد الكريم جويطي Jouiti Abdelkerim
عبد الكريم جويطي

بالقرب من بستان جدي الذي كان يجاور المقبرة اليهودية، تعالت أغصان زيتون معمر توسطه ملعب صغير بميزة عظيمة. فلأن أشجار الزيتون شاهقة جدا، فقد كانت توفر ظلا ممدودا يغطي الملعب ويجعل اللعب فيه، وحتى في صيف بني ملال الجهنمي، نعمة وترفا حقيقيا.

فضلا عن الظل، كان الملعب محاطا بسواقي الماء من كل جانب. كانت كل فرق أحياء بني ملال تتزاحم على هذه الجنة الصغيرة طيلة أيام الأسبوع، لكن لا واحدة كانت تزاحم المكفوفين صباح يوم الأحد ابتداء من العاشرة. بل إن حشدا كبيرا يأتي لرؤيتهم يلعبون، يحيط المتفرجون بالملعب من كل جانب ويقدمون للمكفوفين بصخبهم خدمة تحسيسهم بأبعاد الملعب.

سمي الملعب “تيرت العميين“، ومازال المكان، وبعد قتل الأشجار وإنبات دور مكانها، يحتفظ بعناد بنفس الاسم. كانوا يحشون كرة اللعب ببعض الحصى الذي يصدر خشخشة حين تتحرك. وبهذا كانوا يتبعون الصوت، يقذفونه، يراوغونه، يعترضونه، ويبحثون عنه بحرقة بين أرجل الآخرين، بما في ذلك أرجل من هم معهم في الفريق.

 وأنت ترى سنيسلة يهاجم، تحس بأن في مهارته شيئا أكيدا من لقبه. يدفع الكرة بشكل يجعلها تنتقل من حلقة صغيرة لحلقة أخرى. هذه الدوائر الوهمية المترابطة في سلسلة لا ترى، هي التي تجعله لا يفقد الكرة، فهي ملتصقة بقدمه والخصم عاجز عن افتكاكها. وحين يقترب من المرمى، يسدد ويسجل كأنه مبرمج على التهديف، ويمكنه، مع الآفة، أن يخطئ أي شيء… إلا مرمى يحس بأنها أمامه.

وعلى غير ما يمكن أن يتوقع الواحد، كانت مقابلات المكفوفين تدور وسط حماس وجدية مهيبة، بل احتداد كبير، كأنهم يلعبون على كأس استرداد نعمة الإبصار نفسها. يصدمون بعضهم البعض، يسقطون، ينهضون، يقذفون الكرة ويقذفون رجل من يعترضهم، يفرحون لتسجيل إصابة، يبكون لخسارة، يعترضون على قرارات الحكم… كأن ما ينشدونه أكبر من تلك الخشخشة المخاتلة التي يتنازعونها لساعة من الزمن أو يزيد. إنه الذهاب البطولي إلى أبعد ما تتيحه لهم أجسادهم المكبلة بسلاسل العمى.

وكان الجمهور المسحور بهذا الصراع الخرافي، يتابع أطوار المقابلة بصمت جدير بقداس. أهي الشفقة!؟ أم هو افتتان بالإرادة!؟ فأنت لا تعرف وسط كل ذلك الاقتتال المحاط بصمت شعائري، من يبحث، حقا، عن نور منقذ: العميان أم المبصرون؟

بعد المقابلة، وإن كان فريق رجاء بني ملال مستقبلا، فإنك ترى من تقاتلوا أمامك في الصباح يشد بعضهم بعضا، يخرجون من خيرية الغديرة الحمراء، ويعبرون أزقة المدينة القديمة متجهين نحو الملعب البلدي. وحين يصلون، يفسح لهم للدخول بدون أداء ثمن التذاكر. كم حسدناهم، نحن الأطفال، على ذلك الدخول المظفر! كم تمنينا أن نكون عميانا ولو في تلك الأمتار الفاصلة بين البوابة الكبيرة والملعب.

يدخلون ويتجهون لمكان أليف خلف المرمى الموالية للجبل. يجلسون بانضباط تام يتوسطهم صاحب المذياع الأحمر الكبير، والذي لا شك أنه خلق له مكانة رفيعة بينهم. فهو من يملك انطاقه أو إسكاته، ومن يملك خفض الصوت أو رفعه. غير أن ذلك الراديو الشهير… خر شهيدا حين تلقى قذيفة قوية من رجل لغويني، لاعب النادي المكناسي، أطارته شظايا. استقرت الكرة في حجر الرجل بعد أن مزقت الراديو، فشد عليها كما يشد على عكازه ورفض إعادتها للملعب. كان آنذاك رجاء بني ملال فريقا قويا بلاعبيه الكبار وببركة هذه العيون المنطفئة التي ترعاه…

تذكرت مكفوفي بني ملال وأنا أرى الفريق الوطني للمكفوفين، في ملحمته بألعاب ذوي الاحتياجات الخاصة بطوكيو. وحين ترى هذا الفريق المدهش والمتعاضد، ترى زهير سنيسلة وهو يهاجم لوحده، يراوغ ويسدد ويسجل. كأنه في طريقه إلى المرمى يجري في مسرب جرى فيه العمر كله ولم يعد في حاجة للنظر ليرى أدق تفصيل فيه.

يسجل سنيسلة ويهتز الفريق من حوله فرحا، ويجري نحوه من كان وراء المرمى الخصم يوجهه، فتراه هادئا بلا انفعال زائد إزاء كل الفرح الذي فجره، كأن حكمة ووجعا قديما يعرفان كيف يكفكفان هذا الفرح الطارئ، كأنه، هو وحده، يعرف بأن لا مجد في انتصار مكفوف على مكفوف، وكأن كل العذاب الذي قاده لهذه اللحظة المجيدة يقف في حلقه ويشل يديه ويجعله يتلقى التهاني كجدع شجرة ميت.

وأنت ترى سنيسلة يهاجم، تحس بأن في مهارته شيئا أكيدا من لقبه. يدفع الكرة بشكل يجعلها تنتقل من حلقة صغيرة لحلقة أخرى. هذه الدوائر الوهمية المترابطة في سلسلة لا ترى، هي التي تجعله لا يفقد الكرة، فهي ملتصقة بقدمه والخصم عاجز عن افتكاكها. وحين يقترب من المرمى، يسدد ويسجل كأنه مبرمج على التهديف، ويمكنه، مع الآفة، أن يخطئ أي شيء… إلا مرمى يحس بأنها أمامه.

فقد سنيسلة بصره في سن مبكرة. كان قد رأى العالم ولعب الكرة واكتسب مهارات وخزن صورا… ولولا حادث محزن لكان الآن أحد نجوم الوداد أو الرجاء البيضاويين. إلى جانب الآفة عاش ميسي المكفوفين الفقر المدقع وهو الآن يعيش مع حماته الأرملة التي تنفق عليه وعلى أسرته الصغيرة…

وجه سنيسلة يشبه تماما وجه فقيه بدوار بوشريط، نفس الملامح، اللحية المشذبة، حف الشارب، تقاسيم الوجه البدوية التي تشي بطيبة متأصلة، وسماحة من تكون معه على يقين بأنه لن يلحق بك ضررا، ومن بإمكانك أن تثق فيه وتصدقه من أول كلمة تسمعها منه. كان الفقيه يؤدي صلاة العصر بجلباب كتان داكن خفيف وتحته مباشرة قميص وشورط وجوارب رياضية، وما أن ينهي الصلاة السريعة، ويتحرر من الجلباب والبلغة وينتعل حذاء رياضيا، حتى يأتي جاريا ليشاركنا اللعب. لم يكن آنذاك قتلة الفرح لينهروه ويتآمروا عليه لطرده من إمامة الناس. كل من كانوا يصلون وراءه يعرفون ولعه بالكرة، ويحسون باستعجاله أثناء أدائها ولا يرون في ذلك انتقاصا من ورعه ووقاره وجدارته بالإمامة. كان الفقيه يناجي الله في الصلاة ويخرج ليبحث عنه أيضا في هذا الهواء المضغوط داخل جلد والذي أودع فيه الله كل هذه الفتنة الناعمة. كان الفقيه يعرف في قرارة نفسه بأن الكرة هبة الله للناس ليتصارعوا ويفوزوا وينكسروا بدون دماء ولا قتلى ولا ثكلى…

فقد سنيسلة بصره في سن مبكرة. كان قد رأى العالم ولعب الكرة واكتسب مهارات وخزن صورا… ولولا حادث محزن لكان الآن أحد نجوم الوداد أو الرجاء البيضاويين. إلى جانب الآفة عاش ميسي المكفوفين الفقر المدقع وهو الآن يعيش مع حماته الأرملة التي تنفق عليه وعلى أسرته الصغيرة… (يمكن قراءة بورتريه دقيق عن سنيسلة بقلم الصحافي المتميز يونس الخراشي).

كما هو الحال أمام كبار المبدعين الموهوبين في كل المجالات، ترى في وجوههم، وهم يمثلون أو يلعبون أو يغنون أو يرسمون أو يكتبون، ما رأيته في وجه سنيسلة: ذلك الحزن العميق الذي يقول كل الألم الذي أنضجهم قبل الأوان، ويقول أيضا كل تلك الطريق الشاقة والطويلة التي قطعوها نحو هدفهم.

هناك حكم في هذه الحياة لا يمكن أن تأتي إلا من أمثال زهير سنيسلة. لهذا، فأنت حين تراه، لا ترى لعبا ولا جهدا ولا تقنيات عالية ولا قدرة على التهديف، وإنما ترى بالأساس، مكابرة وكبرياء وذلك الجهد الملحمي في الانتصار الدائم على الحاجة وعلى الظلام…

 مع المكفوفين، ومعهم فقط، تعود كرة القدم لبداهاتها الأولى، وتبتعد عن الخطط الباردة والحذر العقيم، وتصير ملحمة للأجساد المتلاحمة والمتصارعة بشراسة مَنْ بينهم ثأر…

أرشح زهير سنيسلة لجائزة أفضل لاعب مغربي لهذه السنة على الإطلاق، من بين المبصرين والمكفوفين، أفضل من حكيمي وزياش، أفضل من كل لاعبي البطولة.

لنجعل من هذه السنة استثناء ونُتَوجه رمزا للتحدي في بلد يقبل على تحديات كبيرة..

 

مقالات قد تهمك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *