تاريخ الموسيقى العربية… اليدايات: من إلقاء الشعر إلى غنائه 1/3
لم تزل العرب في ضروب الغناء البسيطة حتى غزوا الأمم من حولهم، فصارت عيشتهم نَضِرةً يغلب عليها الترف والرفاه… وكان أن تفرق مغنو الفرس والروم في بلادهم، وصاروا مواليّ لهم.
موالٍ كثر، اشتغلوا في تلحين أشعار العرب على الألحان الفارسية أو الرومية. جرجي زيدان يشير إلى أن طائفة منهم نبغت أيام بني أمية، وأشهرهم، ويعد أول من أدخل غناء الفرس إلى العرب، رجل يدعى سعيد من مسجح.
متى ما حقق الإنسان ما لا تستقيم حياة دونه، وخلا باله واطمأن، تفنن في إبداع كماليات العيش. “ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان”… وإن قالوا: الموسيقى ملذّة وحسب؛ فثمة في الحياة ما يُضمر أرواحنا، وللروح ما يحييها، وقيل: “الموسيقى غذاء الروح”.
قبل أن تظهر الموسيقى عند العرب، كان الأكاسرة في بلاد فارس قد اهتموا بها منذ قرون؛ دونوا أصولها وقواعدها حتى أزهرت، فصارت ربيعا يضوع فوحه بالنغم إلى الشرق كله.
أما العرب، فقد عرفوا الشعر حصرا. وللشعر العربي جرسٌ موسيقي، يتمثل في أوزان وإيقاع وقواف… ولو أراد أحدهم تلحينه، لما كلفه ذلك مجهودا عظيما، ذلك أنه في الأصل… موسيقى!
أول الموسيقى العربية، كان ذلك اللحن البسيط الذي يتفطن له المرء في غير تعليم… ويعرف بـ”الهزج”.
بعد الخلافة الراشدة، عاب معاوية بن أبي سفيان على الراغبين في الغناء، لا سيما وجهاء القوم. لكن بعدما تولى الخلافة محبو اللهو… أخذ الغناء في الانتشار. أول من أباحه كان يزيد بن معاوية، ورسخ ذلك الوليد بن يزيد. منذ ذاك… ترك لنا العرب تراثا ضخما من الألحان والموشحات.
و”الهزج” هذا، يورد شهاب الدين الأبشيهي في “المستطرف في كل فن مستظرف”، أصل الغناء.
كانت العرب، مثلا، ترعى الإبل فتغني لها لتحثها على السير… عُرف ذلك بـ”الحُداء”. و”الحاديّ” من يسوق الإبل بالحُداء. والأُحديّة أغنية يُحدى بها، ويُحدى مِن فعل حدا حدواً؛ أي تبع.
والفتيان أيضا، حيث يختَلُون، كانوا يُرنّمون الشعر أو يغبّرون (من التغبير) لقراءة غير الشعر، وسمي ذلك بـ”النصب”، كما يورد الكاتب اللبناني جرجي زيدان في “تاريخ التمدن الإسلامي”.
هناك نوع ثالث يسمى بـ”السناد”، وأطلق على اللحن الثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات.
إجمالا، شاع الغناء قبل الإسلام، يقول زيدان، في أمهات المدن العربية وهي المدينة والطائف وخيبر، وكان يرافق بالدف والمزمار.
لا يظهر من المصادر الإخبارية أن العرب، يومها، عرفت آلات موسيقية غير هذه.
غير أن الغناء الحق قبل الإسلام، كان قاصرا على القيان وحدهن. لم تصلنا أخبار عن رجال مغنين، يورد الكاتب المصري محمد كامل حجاج في “الموسيقى الشرقية”.
والقيّان، جمع قينة، وهي الأَمَة التي تتقن صنعة ما أو لا تفعل، إلا أنه غلب اسما على “المُغنيّة”.
أقدم القيان وأشهرهن، جاريتان اشتهرتا باسم جرادتيّ عادٍ. يقول الكاتب السوري محمد ألتونجي في “المعجم المفصل في الأدب”: “كانتا تغنيان في الجاهلية، وكانتا لعبد الله بن جدعان، ثم وهبهما إلى أمية بن أبي الصلت، بعد أن امتدحه وهو ينظر إليهما إعجابا”.
في التراث العربي مثل يقول: “تركته تغنيه الجرادتان”. يُضرب لمن كان لاهيا في نعمة ودَعَة.
الأبشيهي يذكر أن أول من غنى في العرب هما الجرادتان، ومن غنائهما، يورد الطبري في تاريخه: ألا يا قيل ويحك قم فهينم، لعل الله يسقينا غماما… إلخ.
لم تزل العرب في ضروب الغناء البسيطة هذه، حتى غزوا الأمم من حولهم، فصارت عيشتهم نَضِرةً يغلب عليها الترف والرفاه… وكان أن تفرق مغنو الفرس والروم في بلادهم، وصاروا مواليّ لهم.
موالٍ كثر آنذاك، اشتغلوا في تلحين أشعار العرب على الألحان الفارسية أو الرومية. زيدان يشير إلى أن طائفة منهم نبغت أيام بني أمية، وأشهرهم، ويعد أول من أدخل غناء الفرس إلى العرب، رجل يدعى سعيد من مسجح.
أقدم القيان وأشهرهن، جاريتان اشتهرتا باسم جرادتيّ عادٍ. يقول الكاتب السوري محمد ألتونجي في “المعجم المفصل في الأدب”: “كانتا تغنيان في الجاهلية، وكانتا لعبد الله بن جدعان، ثم وهبهما إلى أمية بن أبي الصلت، بعد أن امتدحه وهو ينظر إليهما إعجابا”.
الواقع أن الغناء في صدر الإسلام كان مكروها إن لم نقل محرما، كما واختلف الفقهاء في تحريمه كله أو بعضه.
حجة من أحله أن أصله شعر وقد استحسنه النبي، وحجة من حرموه أنه يبعث على اللهو ويسعر القلوب.
ثم بعد الخلافة الراشدة، عاب معاوية بن أبي سفيان على الراغبين في الغناء، لا سيما وجهاء القوم. لكن بعدما تولى الخلافة محبو اللهو… أخذ الغناء في الانتشار. أول من أباحه كان يزيد بن معاوية، ورسخ ذلك الوليد بن يزيد.
منذ ذاك… ترك لنا العرب تراثا ضخما من الألحان والموشحات. بيد أنه، يقول كامل حجاج، لا يساوي شيئا!
ببساطة، لأن العرب لم يدونوها، إنما تناقلوها بالسماع والتواتر. والعرب يومها، كما يقول نبي الإسلام في حديث رواه كثيرون، أمّة أميّة؛ لا تكتب ولا تحسب. معظمهم على الأقل.
النوتة العربية ظهرت متأخرة، في القرن السابع الهجري تقريبا. هذا هو العصر الذي عاش فيه عبد المؤمن البغدادي، وهو أقدم من كتب عن النوتة عربيا، بحسب ما يخلص إليه كامل حجاج.
حجاج يورد في كتابه مقطعا لكاتب إسباني يدعى سوريانو فويرتيس، قال في كتاب ألفه عام 1852م بعنوان “الموسيقى العربية الأندلسية”:
“إن العرب قبل فتحهم إسبانيا قد استعملوا الأحرف السبعة الأولى من حروفهم الهجائية، والألوان السبعة لتمييز طول أو قصر الزمن للنوتات، كاستعمال الأشكال السبعة المستعملة الآن في النوتة العصرية”.
غير أن سوريانو، يقول حجاج، لا يأتي بدليل يثبت ذلك، ولا إن كان العرب هم من ابتدعوا هذه الطريقة أو استعاروها.
مما سبق، سواء صح خبر النوتة العربية أو لم يصح، فإنها لم تظهر قبل القرن السابع؛ أي بعد العصرين الأموي والعباسي.
حين نتصفح كتاب الأغاني بأجزائه كلها (21 جزءا)، لا نعثر فيها على جملة واحدة تقول بوجود “نوتة” في العصور التي يتناولها، يقول حجاج مؤكدا أنه لم يُعثر على ألحان مكتوبة بالنوتة فيما خلفه العرب من الكتب.
لقراءة الجزء الثاني: تاريخ الموسيقى العربية: على دين ملوكهم… من المنع إلى الانتشار
لقراءة الجزء الثالث: تاريخ الموسيقى العربية: خاثر، الموصلي، زرياب… وأعمدة أخرى 3/3
مقالات قد تثير اهتمامك:
- طه حسين والشعر الجاهلي: حين تجرأ الأديب المصري على “منطقة مقدسة” في الأدب العربي… 2\3
- هل كان الشعر “الجاهلي” مجرد أكذوبة؟ 1\3
- مظاهرُ الحداثةِ في الشعر العربي… أبُو نواس والتغزل بالغلمان 2/1
- عَزيزة جلال… أو أنْ تُغنّيّ قليلا ويَتصَادى صَوتُكَ إلى الأبد!
- محمد الحياني: مرايانا تستحضر تفاصيل مسيرة أيقونة الأغنية المغربية 2/1
- عبد السلام عامر… كفيفا أطل ليستحم الخلود في لحنه ثم رحل! 2/1