خربوشة: عيطة حق عند سلطان جائر
“خربوشة” المرأة قبل أن تكون الفنانة، والشيخة قبل أن تكون المناضلة، شخصية ملحمية كسرت جدرانا سميكة من الصمت، واستعلت على الأعراف والألقاب العنصرية، لتنتزع الاعتراف بها كامرأة وفنانة، مخلدة بذلك اسمها بين نساء المغرب والعالم كصوت نشاز عن منظومة القهر والطاعة.
صوت صدح في زمن لم يكن مباحا فيه للأصوات أن تَصدح، وامرأة تكلمت يوم كان لا يسمح للنساء بالخروج من بيوتهن إلا إلى مثواهن الأخير….
أيقونة لا تقل ثورية عن مشاهير الثوار. ذكرى امرأة تَمَّ طيها كما يَطوي النسيان ذكريات المناضلين وسط زحام التفاهة.
“خربوشة” أو “حادة الزيدية“، فنانة وشاعرة، وثائرة في وجه الظلم والقهر بسلاح الكلمة والصوت الذي جهر ببطحاء “عبدة” مزلزلا قصبات القايد “عيسى” الذي كان طاغية زمانه و”حَجَّاجَّ” حقبته.
“خربوشة” المرأة قبل أن تكون الفنانة، والشيخة قبل أن تكون المناضلة، شخصية ملحمية كسرت جدرانا سميكة من الصمت، واستعلت على الأعراف والألقاب العنصرية، لتنتزع الاعتراف بها كامرأة وفنانة، مخلدة بذلك اسمها بين نساء المغرب والعالم كصوت نشاز عن منظومة القهر والطاعة.
مع نهاية القرن التاسع عشر، كان المغرب يعيش ظروفا سياسية مضطربة واستبدادا متفشيا بين القياد، الذين لم يتوانوا، لتوسيع سلطتهم ومناطق نفوذهم، في نهج سياسة عنيفة لقمع كل تمرد من القبائل التي ترفض الانقياد ودفع الضرائب لخزينة الدولة المركزية.
من بين كل هؤلاء القياد، اشتهر القايد “عيسى بن عمر” كقائدٍ حاز ثقة السلطان “المولى عبد العزيز” بتنصيبه قائدا على جهة عبدة-دكالة. قائدٌ حكم بقوة البارود وسنابك الخيل، ولم تأخذه شفقة ولا رأفة وهو يُزهق مئات الأرواح من قبيلته في سبيل توطيد دعائم حكمه واسترضاء السلطات المركزية بالرباط.
يقول المؤرخ المختار السوسي عن القايد عيسى: “لا عيب فيه إلا كثرة الفتك بأهل قبيلته، فما أسهل إزهاق الأرواح عنده”.
إذا كان هذا حاله مع أبناء قبيلته، فإن سياسته كانت أعنف مع باقي القبائل، خصوصا قبيلة “ولاد زيد” التي ثارت في وجه ظلمه وتعسفه، متحفزة بشعر “خربوشة” التي اختارت الاصطفاف مع أبناء قبيلتها في وجه طغيان “عيسى بن عمر“. شعرٌ، عند تأمل حمولته السياسية والاجتماعية، يمكن القول إنه نابع من وجدان فنانة مناضلة، متفهمة للعبة السياسية وأساليبها الميكيافيلية لإخضاع القبائل المقهورة.
تقول في قصيدتها الشهيرة التي كانت سببا في تمرد قبيلتها وسببا في نهايتها نهاية مأساوية:
خَرْبُوشَة نْخْوَة وعْزَّة تْشْفِي الجْرَاحْ وَقْت الحَزَّة
والأيام الأيام أيام القهرة والظلام
فِينَك أَعْوِيسَة وفِينْ الشَّان والمْرْشَان
تْعَدِّيتِي وخَسَّرْتِي الخْوَاطر وظَنِّيتِي القْيَادَة على الدوام
فِي أَيَّامْك الجِيد مَا بْقَالُو شَانْ
والرّعْوَانِي زِيّدْتِيه القُدَّام
سِير أَعِيسَى بْن عُمَر أَوكَّال الجِّيفَة.. وَيَا قْتَّال خُّوتُو ومْحَلَّل الحْرَام
عْمَّر الظَّالْم مَا يْرُوح سَالْم
وعْمَّر العَلْفَة مَا تْزِيد بْلا عْلاَم
تفتتح “خربوشة” عيطتها باعتزازها بنفسها وثقتها في صواب رأيها الذي يُلجأ إليه “وقت الحزة” لاستلهام أسباب العزة والنصر، وهو الأمر الذي ينبغي أن يتوقف عنده مطولا، لاستجلاء صلابة وجرأة “خربوشة” في زمن كان الفقه الذكوري فيه، يحرم على النساء الإدلاء برأيهن في عظائم الأمور، أو المشاركة في سياسة الدولة والقبيلة. ثم تنتقل بعد ذلك، للتصغير من عيسى بن عمر، بتصغير اسمه والتقليل من “شانه ومرشانه” في أوج سطوته وقوته.
“عيسى بن عمر” الذي بسط سلطته على سهول “عبدة”، “دكالة”، “حْمَرْ”، و”الشياظمة”، يُنتقص من قدره بطريقة ساخرة وبِبَيت شعري، جعله قزما أمام قامة “شيخة” ثائرة.
ثم تتوالى أبيات القصيدة في وصف سياسة “عيسى بن عمر” الجائرة، التي تُوَّلِي رعاع الناس المناصب العليا مقابل الولاء المطلق، وإمعانه في الخروج عن شرعة الدين والأعراف الإنسانية:
فِي أَيَّامْك الجِيِّد مَا بْقَالُو شَانْ
والرّعْوَانِي زِيّدْتِيه القُدَّام
سِير أَعِيسَى بْن عُمَر أَوكَّال الجِّيفَة.. وَيَا قْتَّال خُّوتُو ومْحَلَّل الحْرَام
ثم تختتم القصيدة بحِكمٍ كحِكم “المتنبي”، مبينة مآل الظلم والظلمة، وأنه مهما طال زمن الظلم فلابد من يوم لانجلائه، ولابد للظالم أن ينال جزاء ما اقترفته يداه من ظلم وقهر، جزاءٌ ليس بالضرورة أن يكون أخرويا بل بجماعة من الناس يجمعهم “عْلاَم” واحد ليناضلوا على عدالة قضيتهم:
عْمَّر الظَّالْم مَا يْرُوح سَالْم
وعْمَّر العَلْفَة مَا تْزِيد بْلا عْلاَم
استشاط القايد عيسى بن عمر غضبا من تحطيم صورته بين القبائل، وأضمر الشر لخربوشة وقبيلتها فأوقع بهم في الحادثة المشهورة “بعام الرفسة”… فأجهز على جريحهم، وطارد الفارين منهم إلى الأضرحة والزوايا فقتَّل فيهم تقتيلا ذريعا، ثم أطلق جواسيسه وفرسانه للقبض على “خربوشة”، التي اختلفت الروايات في طريقة قتلها والتنكيل بها.
قيل إنه اقتلع لسانها مبالغةً في تعذيبها والثأر من كلماتها ثم قتلها، وقيل إنه وأدها حية، وقيل إنه أُلقي القبض عليها من طرف المخزن ثم أُرسلت إلى الحضرة الشريفة بالرباط؛ لكن أعين “عيسى بن عمر” كانوا أسرع من المخزن فقتلوها في الطريق. كيفما كانت نهايتها، فهي لا تختلف عن نهاية الثائرين في وجه الاستبداد والمغردين خارج السرب والرافضين لأن يكونوا جزء من القطيع الكبير.
ماتت “خربوشة”… لكن كلماتها لازالت حية وألحان عيطتها لازالت تُعزف كسيمفونية خالدة تُحفز النساء لاستكمال مسيرة النضال ضد القهر والاضطهاد.
ماتت “خربوشة”. لكن فنها لا زال يُذَكِّر الفنانين أن الفن قضية قبل أن يكون ترفيها، وأن الفنان ينبغي أن يكون صاحب موقف من قضايا عصره يعبر عنه بكلماته، بألوانه، بمسرحية ساخرة، بفيلم سينمائي… وأن مقطعا شعريا ملهما، كقصيدة خربوشة، يفعل ما لا تفعله مئات الكتب والمحاضرات لإلهاب وتحفيز الجماهير تجاه قضاياها المصيرية.
ماتت “خربوشة” ولم تخجل من لقبها كشيخة بل كانت مفتخرة معتزة بنفسها وبما تقوم به، لأن الصواب والخطأ ليسا حكمين مطلقين بل يتغيران حسب وجهة النظر إليهما، و”خربوشة” بمواقفها وشعرها أثبتت أن الشيخة لا تقل مكانة عن أي مناضل أو صاحب قضية إذا استطاع أن يفلت من قبضة المجتمع وأحكامه الجاهزة.
ماتت “خربوشة” لتعلم الفنانين أن الفن عَصِيٌّ على التدجين والاستلاب والخضوع. ماتت… لكن فنها لم يمت كما ماتت وستموت آلاف الأغاني كـ “رجب حوش صاحبك عني” و “بوس الواوا”!
nice