المقدسون الثلاثة: الخبز، الثور، الحوت. حين يقف الثور فوق الحوت… ويحملان الأرض 2/2
الحديث الذي سارت به ركبان مواقع التواصل الاجتماعي، وطارت به كل مطار للسخرية والتندر عن تصيير الأرض خبزة يوم القيامة، فيه تَصَوُرٌ آخر عن الكون لا يقل عجائبية عن الخبزة المقدسة التي سيكفؤها الرحمن بيده، فالأرض كلها، قبل أن تُعجن يوم القيامة، هي الآن محمولة على ظهر ثور، والثور محمول على ظهر حوت…
عقيدةٌ كانت شائعة عند اليهود، ثم نقلتها العقيدة الإسلامية، وظلت أمرا مقبولا لقرون عدة، قبل أن يكشِف زيفها وسذاجتها التطور البشري، وكتب التفسير كانت تذكر هذه العقائد دون استحياء منها.
توقفنا في الجزء الأول من هذا الملف، عند الأحاديث التي تحدثت عن تصيير الأرض خبزة يوم القيامة، ليطعم بها الإله الأبرار، وعن حكاية الثور والحوت اللذان يحملان الأرض…
في هذا الجزء الثاني والأخير، نقتفي أثر هذه المرويات، في الثرات الإسلامي، والثرات اليهودي… وفي بعض أهم الحكايات المشابهة، قبل ظهور الديانات…
المتأمل للأحاديث الصحيحة المروية في البخاري ومسلم، والتي أجاب فيها رسول الإسلام اليهودَ السائلين لمعرفة مدى تطابق شريعة محمد مع شريعتهم، ثم تصديقهم بما يقول، وسكوتهم عن مزيد استفسار، تدل بما لا يدع مجالا للشك أن الحوت والثور هما المعروفان في شرعتهم، وأن محمدا أجابهم بما يعرفون ويعتقدون، ففي الحديث الذي سأل فيه الحِبر اليهودي عن غذاء أهل الجنة فأجابه الرسول: “قالَ يُنْحَرُ لهمْ ثَوْرُ الجَنَّةِ الذي كانَ يَأْكُلُ مِن أطْرَافِهَا. قال النووي في شرح الحديث: “وهذا يُشعِرُ بأنَّه ثورٌ معهودٌ مُتفرِّدٌ بصفاتٍ لا يُماثِلُه فيها غيرُه”.
وكذا في جوابه لعبد الله بن سلام، أكبر أحبار اليهود، وتصديقه إياه دون ذكر تفاصيل، يُحيل على معرفة سابقةٍ شائعة بين اليهود، لا تحتاج للتوضيح والإيضاح، جاء الإسلام لتزكيتها وترسيخها.
فماذا يوجد في تراث اليهود عن هذا الثور والحوت؟
الحوت العظيم أو “لوياثان” في الأساطير العبرية، هو حوت أو وحش بحري عملاق، ورد ذكره في خمسة مواضع من الكتاب المقدس: في إشعياء 27: 1 – المزامير 74: 13 – المزامير 104: 25، 26 – سفر أيوب 41: أ-34
“أَنْتَ شَقَقْتَ الْبَحْرَ بِقُوَّتِكَ. كَسَرْتَ رُؤُوسَ التَّنَانِينِ عَلَى الْمِيَاهِ. أَنْتَ رَضَضْتَ رُؤُوسَ لوِيَاثَانَ. جَعَلْتَهُ طَعَامًا لِلشَّعْبِ، لأَهْلِ الْبَرِّيَّةِ”. (المزامير 74: 13)
“هذَا الْبَحْرُ الْكَبِيرُ الْوَاسِعُ الأَطْرَافِ. هُنَاكَ دَبَّابَاتٌ بِلاَ عَدَدٍ. صِغَارُ حَيَوَانٍ مَعَ كِبَارٍ. هُنَاكَ تَجْرِي السُّفُنُ. لِوِيَاثَانُ هذَا خَلَقْتَهُ لِيَلْعَبَ فِيهِ”. (المزامير 104: 25، 26)
“أَتَصْطَادُ لَوِيَاثَانَ بِشِصٍّ، أَوْ تَضْغَطُ لِسَانَهُ بِحَبْل؟ أَتَضَعُ أَسَلَةً فِي خَطْمِهِ، أَمْ تَثْقُبُ فَكَّهُ بِخِزَامَةٍ؟ أَيُكْثِرُ التَّضَرُّعَاتِ إِلَيْكَ، أَمْ يَتَكَلَّمُ مَعَكَ بِاللِّينِ؟ هَلْ يَقْطَعُ مَعَكَ عَهْدًا فَتَتَّخِذَهُ عَبْدًا مُؤَبَّدًا؟ أَتَلْعَبُ مَعَهُ كَالْعُصْفُورِ، أَوْ تَرْبِطُهُ لأَجْلِ فَتَيَاتِكَ؟ هَلْ تَحْفِرُ جَمَاعَةُ الصَّيَّادِينَ لأَجْلِهِ حُفْرَةً، أَوْ يَقْسِمُونَهُ بَيْنَ الْكَنْعَانِيِّينَ؟”. (سفر أيوب 41).
أما بهيموث في الأساطير اليهودية، فهو زعيم حيوانات البر، ثور ضخم مرعب جاء وصفه في سفر أيوب: “هُوَ ذَا بَهِيمُوثُ الَّذِي صَنَعْتُهُ مَعَكَ يَأْكُلُ الْعُشْبَ مِثْلَ الْبَقَرِ. هَا هي قُوَّتُهُ فِي مَتْنَيْهِ، وَشِدَّتُهُ فِي عَضَلِ بَطْنِهِ. يَخْفِضُ ذَنَبَهُ كَأَرْزَةٍ. عُرُوقُ فَخِذَيْهِ مَضْفُورَةٌ. عِظَامُهُ أَنَابِيبُ نُحَاسٍ جِرْمُهَا حَدِيدٌ مَمْطُولٌ. هُوَ أَوَّلُ أَعْمَالِ اللهِ. الَّذِي صَنَعَهُ أَعْطَاهُ سَيْفَه…تَحْتَ السِّدْرَاتِ يَضْطَجعُ… هُوَ ذَا النَّهْرُ يَفِيضُ فَلاَ يَفِرُّ هُوَ. يَطْمَئِنُّ وَلَوِ انْدَفَقَ الأُرْدُنُّ فِي فَمِهِ”. (سفر أيوب 40: 15-23).
أما كون هذا الثور والحوت هما طعام أهل الجنة، فقد احتفلت “الهاجادا” اليهودية ــ وهي كوكتيل متنوع من الأساطير اليهودية، يعود تاريخ مخطوطاتها لسنة 200 ميلادية ــ بذكر الكثير من التفاصيل عن هذين الوحشين العملاقين، وكيف سيقضيان على بعضهما بعد انتهاء مهمة حمل الأرض ودعوة أهل الجنة لمشاهدة الصراع الملحمي بينهما كنوع من المتعة قبل أن يُقدَّما كطعام.
تقول “الهاجادا” اليهودية: “كان الغرض الحقيقي من لوياثان هو لكي يكون وليمة للأبرار في العالم القادم. لقد مَلَّح “لحم” الأنثى” حالما قُتلت، لكي ما تحفظ للأيام التي يُحتاج فيها إلى لحمها. إن الذكر مقدر له أن يقدم مشهدا ممتعا لكل المشاهدين قبل أن يُستهلك. وعندما تحل ساعته الأخيرة، سيجمع الله الملائكة من أجل أن يخوضوا صراعا مع الوحش. ولكن سرعان ما يلقي لوياثان عليهم نظرة فيهربون من ساحة المعركة خوفا وهلعا. ثم سيعودون لإكمال مهمتهم برفقة السيوف، ولكن عبثا، لأن حراشفه تستطيع أن تلوي الفولاذ كما لو كان قشا. وسيكونون غير موفقين كذلك عندما يحاولون قتله من خلال رميه بالرماح وحجارة الرجم. سترتد هذه القذائف بدون أن تترك أدنى أثر على جسمه. سوف تترك الملائكة الصراع مخذولين، وسوف يأمر الله لوياثان وبهيموث أن يدخلا شجارا في ما بينهما. وسيكون أن كلاهما سيسقطان ميتين، فيذبح بهيموث بضربة من زعانف لوياثان، ويقتل لوياثان بجلدة من ذيل بهيموت. سوف يخيط الله من جلد لوياثان خياما ليُؤوي مجاميع الأبرار بينما يستمتعون بأطباق مصنوعة من لحمه. سيكون المقدار المخصص لكل بَارٍّ متناسبا مع استحقاقه، ولن يغار أحدهم أو يحسد الآخر بسبب حصته الأفضل. ما يتبقى من جلد لوياثان سوف ينشر فوق أورشليم مثل ظلة، وينير الضوء المتدفق منها العالم بأسره، أما ما يتبقى من لحمه بعد أن أرضى الأتقياء شهيتهم، فسوف يوزع بين باقي البشر، لكي يمروا على أي حال”.
“من المقدر لبهيموث أيضا أن يقدم للأبرار كطعام لذيذ مشهي، ولكن قبل أن يستمتعوا بلحمه، سيسمح لهم برؤية القتال بين لوياثان وبهيموت، كمكافأة لحرمانهم أنفسهم متعة الحلبة ومباريات المجالدة فيها”.
بعد المقارنة بين الأحاديث الصحيحة والتفسيرات القرآنية، وبين التراث اليهودي، يمكن الخروج بالخلاصات التالية:
– النون والثور، المذكوران في الأحاديث كطعام لأهل الجنة، ذُكِرا من طرف رسول الإسلام للتأكيد على نبوته وأن ما جاء به هو عينه ما عند اليهود عن أكل أهل الجنة من النون والثور اللذان وُكِّلا بحمل الأرض.
– ابن عباس الذي دعا له الرسول في الحديث الصحيح بأن يُفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل، تفسيره ثابت وصحيح أن الأرض فوق ظهر حوت.
– تفسيرات القرآن الأثرية كلها، كتفسير الطبري والبغوي وابن كثير، كلها ذكرت أن الأرض فوق ظهر ثور… والثور فوق ظهر الحوت.
إذن… فالحديث الذي سارت به ركبان مواقع التواصل الاجتماعي، وطارت به كل مطار للسخرية والتندر عن تصيير الأرض خبزة يوم القيامة، فيه تَصَوُرٌ آخر عن الكون لا يقل عجائبية عن الخبزة المقدسة التي سيكفؤها الرحمن بيده، فالأرض كلها، قبل أن تُعجن يوم القيامة، هي الآن محمولة على ظهر ثور، والثور محمول على ظهر حوت…
عقيدةٌ كانت شائعة عند اليهود، ثم نقلتها العقيدة الإسلامية، وظلت أمرا مقبولا لقرون عدة، قبل أن يكشِف زيفها وسذاجتها التطور البشري، وكتب التفسير كانت تذكر هذه العقائد دون استحياء منها، كما كان يمكن أن تعثر في كتاب عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات للقزويني على رسم تفصيلي لهذه العقيدة: الصورة أسفله
وقد احتفظت الأمثال الشعبية في الدول العربية بهذه العقيدة ودونتها في ذاكرتها الشعبية كقول الزجال سيدي محمد البهلول، نزيل الشاوية بالقرن السابع عشر:
نْسَالك على ثور رافدْ الدنيا علاش هو مْتْرَسّْمْ ** واش هو مربوط من راسو أُولا من رجليه
نسالك عل رْبَعْ قبايل راهم تم ** واش هوما زادوا قبل من بونا آدم ولا من ذريته
إن هذه العقيدة المفضوحة الممجوجة عن حمل الأرض على ظهر ثور وحوت في الدنيا، وعجنها خبزا نقيا منخولا يوم القيامة، من الأمور الكثيرة التي تخالف الذوق والعلم ولكنها موجودة ومسطرة في التراث الديني الإسلامي واليهودي، وكما ينقسم المسلمون اليوم في ظل ظهور عورتها، بين من يحاول تأويلها وبين من ينكرها، وبين من يؤمن بها حرفيا ويعتبرها من أمور الغيب، فكذلك اليهود والمسيحيون في كتبهم المعتبرة اليوم، ينكرون كل أساطير الهاجادا والميدراش التي كانت شائعة في القرون الوسطى، ويتأولون الأسفار التي ذكرت الحوت والثور.
جاء على موقع الكنيسة الأرتودوكسية (الأنْبا تكلا هيمانوت): “لم يشر سِفر أيوب ولا أي سفر آخر لتلك الأسطورة التي تقول أن الأرض محمولة على قرنيّ ثور… بل قال أيوب”يُعَلِّقُ الأَرْضَ عَلَى لاَ شَيْءٍ” آية 26: 7، وما جاء في قاموس الكتاب المقدَّس، أن بهيموث كلمة مصرية قديمة معناها ثور الماء قول مقبول، لأن المقطع الأول من كلمة بهيموث هو “بهيم”، والمقطع الثاني “مو” أي الماء، فيمكن أن يُدعى بهيم الماء أو ثور الماء. أمَّا ما يقوله بعض اليهود، وهم بلا شك ليسوا بعلماء، بأن بهيموث حيوان يعيش من بدء الخليقة منذ آلاف السنين إلى مجيء المسيح، وسيُقدم وليمة للمؤمنين، فهو نوع من الأساطير والخرافات التي تفتقر لأي سند موضوعي، والفيصل هو كتابنا المقدَّس، وجاء في“دائرة المعارف الكتابية”: “ويقول البعض إن بهيموث المذكور في أيوب، ليس حيوانًا حقيقيًا ولكنه حيوان خرافي، تقول عنه الأساطير المصرية إنه لا يموت، وأن تأكيد هيمنة الله عليه، هو تأكيد للخلود، ولكن واضح من كلام الرب لأيوب أنه يتحدَّث عن حيوان حقيقي كان لأيوب معرفة به”. دائرة المعارف الكتابية جـ2 ص 227.
أما الموسوعة اليهودية، فقد نصت صراحة أن “لوياثان وبهيموث” مجرد كائنات أسطورية: “يحتوي الوصف التوراتي على عناصر أسطورية، والاستنتاج المبرر بأن هذه الوحوش لم تكن حقيقية، على الرغم من أن فرس النهر قد يكون مناسبا للوصف الرئيسي”.
https://www.jewishencyclopedia.com/articles/9841-leviathan-and-behemoth
بقي في آخر هذا الملف، أن نبحث عن الأصل الأسطوري لهذه العقيدة، ومن أين أتى بها اليهود…
جاء في مدخل العهد القديم ل”ترمبر لونغمان” و”رايموند بريان ديلارد” عن سفر أيوب وما احتواه من حكايات لحيوانات الأسطورية: (نوع الأدب الموجود في سفر أيوب له نظير سابق في الشرق الأدنى القديم، ومع ذلك فإنه فريد ومختلف بأكثر من صورة. فهو كتاب قد أثر عليه الأدب الشرقي القديم بطريقة كبيرة على مر عصور كثيرة استحوذت على انتباه النقاد الأدبيين. وبتحليل بنية السفر سيقودنا ذلك للخلفية الأدبية للسَّفر في الشرق الأدنى القديم ونوعها الأدبي).
Tremper Longman and Raymond B. Dillard : An introduction to the Old Testament, Second édition
وذكر أوكسفورد الكتاب المقدس: “على الرغم من أن سفر أيوب فريد من نوعه في الأدب القديم، إلا انه يعتمد على مجموعة مختلفة من التقاليد كانت معلومة في كافة أنحاء الشرق الأدنى القديم… فالتأثير الأدبي للشرق الأدنى القديم والتقاليد واضحة جدا في الحوارات الشعرية الموجودة في النص… وأخيراً فإن سفر أيوب يحتوي على العديد الإشارات والتقاليد الأسطورية المعروفة في جميع أنحاء الشرق الأدنى القديم… وفي كثير من الأحيان تكون بخصوص وصف البهيموث واللوياثان”.
The New Oxford Annotated Bible/ Edition: Oxford University Press.
ولعل أقرب أسطورة استلهم منها اليهود قصة بهيموث ولوياثان، هي أسطور الإله بعل الكنعانية، وقتاله للوحش لويان، ففي أحد أناشيد الإله “بعل” نقرأ:
أي غريمٍ وقف في وجه راكب الغمام؟
ألم أسحق يَمْ حبيب إيل؟
ألم أقض علي نهر الإله العظيم؟
ألم أكُمَّ فم التنين كما؟
ألم أسحق الحية الملتوية؟
“شليط” ذات الرؤوس السبعة؟”
وفي نص آخر:
الآن وقد قتلت لوتان
الآن وقد سحقت رأس التنين
الآن وقد قضيت علي الحية الملتوية
الحية الملعونة ذات الرؤوس السبعة
الآن وقد اكتنفتك السماء بهالة من مجد
تذكر أيها الظافر البعل إني إله الموت
أبقيت عليك لم أدخلك شدقي
ماذا يمنعك؟ سحقت لوتان
حطمت رأس التنين، قتلت الحية الملتوية ذات الرؤوس السبعة
تعال أيها البعل، تذكر أني أبْقيت عليك
فلم أدخِلك شدقي، لم أبتلعك كجدي
لم أنزلك إلي حفرتي
والفكرة الرئيسية لهذه الأناشيد الأسطورية لا تختلف كثيرا عما جاء في التوراة عن لوياثان، بل يكاد يتطابق ما جاء في سفر أيوب مع مضمون هذه الأناشيد، ولاشك أن أسطورة الخلق الكنعانية قد تأثرت كثيرا ب “الإينوما ايليش” البابلية، بحكم المجاورة الجغرافية، وهذا يبدو واضحا من التيمة الرئيسية للأساطير الكنعانية، التي لم تخرج عن التصورات والنماذج الأساسية للأساطير البابلية، التي رسخت الفكرة السومرية في العراك الأزلي بين مردوخ وأمه “تعامة”، إلهة المياه المالحة، وقد خلَّفت كل الحضارات التي استلهمت لباب أساطيرها من حضارات الشرق الأدنى، صورا ومنحوتات لثيران مفتولة العضلات، وأخرى مجنحة أو بلحية، كالثوران المجنحان برأس بَشر من قصر سرجون الثاني، ومنحوتة الثور أبيس والثور الضخم من “برسيبوليس” وغيرها من الثيران…
إن تقديس الثيران والحيوانات وعبادتها، كما لازال مشاهدا عند بعض الشعوب الآسيوية، لم تكن الحضارات الأولى كالسومرية والبابلية هي من ابتدعته وورَّثته للحضارات المتعاقبة، ولكن أصوله الأولى وُجِدت مع الإنسان العاقل بالعصور الحجرية قبل آلاف السنين، فالجداريات العديدة المكتشفة في الكهوف التي عاش فيها الإنسان البدائي في فرنسا وإسبانيا وعلى الصخور بشمال إفريقيا، كلها تؤكد حقيقة تقديس الحيوانات، خصوصا تلك التي تتميز بالقوة والفحولة كثور البيسون والحصان، يقول الدكتور خزعل الماجدي: “لم يكن الإنسان في الباليوليت الأسفل (العصر الحجري القديم) يتفرج على الحيوان، بل كان يصطاده لأغراض غذائية محضة، أو خوفا من أن يفترسه… لكن تطور الإنسان ونمو ملكاته الروحية والنفسية جعلاه يتطلع برهبة وخوف وربما بقدسية إلى هذه الحيوانات التي هاله تنوعها وظهورها الدائم معه في هذا العالم ومنافستها له في الحصول على الغذاء، بل وشراستها وقوتها التي لمح فيها تَحَشُّدَ القوة وتمركزها… ومن هذا الجدل القُرب والبعد نشأ إحساس ديني جديد إزاء الحيوان”. أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ ص 37.
فهل ستتحرك عقول المتدينين المُكَبَّلة بعقال القداسة لإعمال العقل في نصوص الدين، واعتبار محتواها إرثا ثقافيا لا ينبغي مجاوزته للوصاية على كليات الحياة، أم أنها ستظل خاضعة لأساطير ضاربة في عمق التاريخ، مؤمنةً بنصوص يرفضها العقل والعلم والذوق؟.
فالمُسَلَّم به عند العقلاء، أنه لا أحد يستطيع فهمُه هضم حديث الخبزة المقدسة، ولا حديث الجُساسة ولا نوم الشيطان في الخياشيم ولا الأحاديث المهينة للنساء… فالمؤمنون أنفسهم تختلج أفئدتهم وتضطرب عقولهم عند سماع هذه الأحاديث، ويودون لو كانت ضعيفة أو لم تكن من الأساس، لكن التلقين والخوف من النار وتهويل رجال الدين لمكانة النقل واحتقار العقل هو المَطَبُّ الذي عجز المؤمنون عن تجاوزه.
لقراءة الجزء الأول: المقدسون الثلاثة: الخبز، الثور، الحوت. حين تصير الأرض يوم القيامة خبزة 1/2
مقالات قد تهمك:
- الإسرائيليات… إسلام بنكهة أهل الكتاب. آدم وحواء وجنة الخلد 1\3
- الإسرائيليات في الثقافة الإسلامية: أصل الحكاية 2\3
- إسرائيليات: هل المرأة ضلع أعوج وهل رأى الرسولُ اللهَ؟ (فيديو) 3\3
- الخرافة والهوية: مشتركنا الإنساني؟
- من اليمن، حسين الوادعي يكتب: هل يمكن أن تكون الأحاديث مصدر تشريع؟
- الطوطمية: هكذا قدّس الإنسان المغاربي القديم بعض الحيوانات… 2/1
- الثور، الكبش والأسد: هذه بعض الحيوانات التي قدّسها الإنسان المغاربي القديم 2/2
- من أين جئنا؟ وما هو مصيرنا؟ نظرية التطور، الانفجار الكبير، الخلق…؟