الخرافة والهوية: مشتركنا الإنساني؟ - Marayana - مرايانا
×
×

الخرافة والهوية: مشتركنا الإنساني؟

الخرافة هي خليط من المعتقدات التي تسقي روح الثقافات الشعبية بماء الحكي والخيال، فهي التي نشأنا في كنفها واعتدنا سماعها وتكرارها تماما كما نتنفس دون سؤال. كما أنها مما يشكل …

الخرافة هي خليط من المعتقدات التي تسقي روح الثقافات الشعبية بماء الحكي والخيال، فهي التي نشأنا في كنفها واعتدنا سماعها وتكرارها تماما كما نتنفس دون سؤال. كما أنها مما يشكل جزء خاصا غير مفسر من وجداننا وهوياتنا التي يتم تقسيمها إلى مستويين: هوية فردية وهوية جماعية؛ ولا يمكن إنكار مدى ترابطهما وتأثر كل واحدة منهما بالأخرى، إذ لابد لكل هوية فردية من رعاية وتأثر بالهوية الجماعية.

الهوية، كما يعرفها عبد العلي الودغيري في معناها المجرد، هي “جملة علامات وخصائص من أجناس مختلفة، تستقل بها الذات عن الآخر، فبغياب هذه العلامات والخصائص تغيب الذات وتذوب في الآخر، وبحضورها تحضر”[1]. بهذا، فهي خليط من العلامات والخصائص التي تتكون على شكل نظام من القيم والتصورات التي يتميز بها الأفراد عن بعضهم البعض والمجتمعات عن بعضها البعض.

تجليات الخرافة في الهوية المغربية:

تدخل الخرافة في تكوين الهوية وفي تأثر الفرد بالجماعة التي ينتمي إليها، وذلك في إطار ما يسمى بالذاكرة الجماعية أو الجمعية التي يشترك فيها مختلف أفراد محيط معين، بحيث تشكل مستودعا لثقافتهم. الهوية الفردية لا تخلو من المدركات والمفاهيم التي تحقنها بها جماعتها الحاضنة والتي تستمر في سقيها بها، بل والتي قد تواكب بعض تفاصيلها التغيير الحاصل في المجتمع. تغلب هوية الفرد الجماعية هويته الفردية لاشتراكه مع محيطه في اللغة والمعتقدات والعادات… ولا يمكننا فصل هذا الأمر عن تشربنا بالخرافات رغما عنا، بل ومهما بلغ مستوانا المعرفي، لكوننا نعيش في محيط مشبع بها؛ لذا فنحن محكومون باستعمال كم منها بدون وعي منا أحيانا، تماما كما نعتمد معجما من الكلمات  والمفاهيم والطقوس.

يحصل في المغرب أن تحدق بإحداهن طويلا فلا تلبث حتى تصيح بك: “خمسة و خميس، خمسة في عينيك..”؛ وكأنه سلاحها الوحيد أمام عينيك التي تتهمهما فورا بالشر، وقد تشير بأصابعها الخمسة أي بكافة يدها كحركة مرفقة، والخمسة “عبارة عن تميمة شائعة… يقصد منها الوقاية من العين الشريرة”؛ فكلمة خمسة في الثقافة الشعبية المغربية ” اكتسحت أهمية كبرى و قوة سحرية بالغة بحيث يقصد منها دفع الأمراض و الوساوس.” [2] .

خرافة كهذه يتم التعبير عنها بعبارات وحركات وبرموز كذلك، فهي تصاغ على شكل زخارف ونقوش على مختلف الأشياء، وحكايتها المؤسسة غائبة لأنها ربما موغلة في القدم، ولأن أغلب من يعتقد بها لا يملك لها تفسيرا بل تلقاها كما هي فحسب.

بالنسبة لتفادي المكروه والشر الذي يتم السماع عنه في الحكايات والوقائع المروية، فإن الخشب يعتبر مبتلع السوء أو طوق النجاة من الإصابة بالمثل، وذلك بلمسه أو النقر عليه بالأصابع عدة مرات، مع النطق بعبارات من قبيل “برّا والباس عليا” أو  “شكيكو..” دون وجود حكاية تأسيسية لهذه الخرافة كذلك.

من هذا القبيل- أي الحماية من السوء-، يتم النهي عن النوم عند العتبات، لأن السوء، عند دخوله، يكون أول ما يصادفه النائم عند العتبة فيصيبه؛ وكذا تفادي تخطي النائم لأن لعنة التخطي قد تسبب له تخطي كل شيء جميل له طوال حياته، كما أنه قد يصير محدود الطول والنمو، لدرجة أن من تخطى النائم لا يترك حتى يعيد تخطيه رجوعا، كإزالة ومحو لحركته الأولى الجالبة للسوء .

أما حين تسوء الأوضاع  ويشتد صراخ الأطفال ويصير الجو في فوضى عارمة، فلا نجد وسط كل هذا سوى عبارة منقذة وهي كما نعلم جميعا “بوعو”، والتي تنجح في الطفو إلى أذهاننا كيفما كنا، لأنها تمثل فينا ذلك الجزء من وجداننا الذي تلقيناه وسمعناه مرارا وتكرارا في طفولتنا. فتهديد الأطفال بهذا الكائن الخرافي المجهول كفيل بالتأثير فيهم، لأن افتراس الأطفال واختفاءهم في الظلام منسوب إليه. ويحكى أنه مسافر على الدوام لجمع الأشقياء، وله كيس أو كما تسمى “خنشة”  يحملها معه على الدوام، ليضع فيها حصيلة من الفرائس، مما يدفع البعض لتسميته “بوخنشة”.

سر النماذج الخرافية المتكررة:

يعتبر تداول المعتقدات الخرافية شأنا إنسانيا عاما، بل حتى أننا قد نندهش لوجود سمات عالمية متشابهة بينها إلى حد التطابق، لكن بطرق  وتعابير وأساليب مختلفة. يحدث مثلا أن نسمع نفس المعتقدات والحكايات الخرافية المنقوشة بذاكرتنا، خلال زياراتنا لمناطق مختلفة وغريبة عنا، حتى أننا لا نشعر سوى ببعض الفروق الطفيفة التي لا تغير من المعنى العام كثيرا. هذا النسغ الهائل المشترك، الذي يهب الحياة للخرافة المتكررة، هو ما يسميه “كارل يونغ” اللاوعي الجمعي، “و الذي يتألف من أنماط أولية ما تزال تفعل فعلها  منذ العصور السحيقة للبشرية حتى اليوم.”[3]

هكذا، قد نجد تيمات متكررة ومتناسخة كالفطريات، مرتبطة بالثقافة البدئية، فالمبدع في نظر “يونغ” مهما أبدع وغير وانزاح متملصا من النموذج، فإنه يبقى مطوقا وحبيسا به، أي أنه متصل بالأصل الأول بشكل من الأشكال. وهذا ما ينطبق على الخرافات وما يسوغ تشابهها، لكونها  تستمد”أصولها من النموذج البدئي الذي هو بحد ذاته،شكل سابق للوجود، غير شعوري وغير قابل للتمثيل و يبدو  جزء من بنية النفس الموروثة، و لكن يتبدى عفويا في كل زمان ومكان” [4]؛ مما يشكل صورا نموذجية منتشرة ومتعددة تنطلق من أفكار بدئية أولية.

 

مراجع

[1] الودغيري عبد العلي، اللغة والدين والهوية، الدار البيضاء، إصدار النجاح الجديدة، سنة 2000، ص68.

[2] يلي مالكا، العوائد العتيقة اليهودية بالمغرب، الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، طبعة 2003، ص66

[3] حنا عبود، النظریة الأدبیة الحدیثة والنقد الأسطوري، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1999 ، ص 43

[4] كارل یونغ، علم النفس التحلیلي، ترجمة نهاد خیاطة، دار الحوار، اللاذقیة، طبعة 1997، ص 243

 

مقالات قد تهمك:

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *