فكرة “الشيطان” في الإسلام 4\4هكذا تطورت فكرة "الشيطان" لدى الإنسان وتطورت حضارة بعد حضارة ودينا بعد دين (الجزء الرابع والأخير)
الخطيئة في الإسلام ليست أصلا كونيا يعاند الإرادة الإلهية بإرادة مثلها أو مقاسما لها في أقطار الوجود العليا والسفلى، ولكنها اختلاس وخلل وتقصير، وله علاجه من عمل العامل نفسه، بالتوبة والهداية أو بالتكفير والجزاء…
عرفنا في الأجزاء 1 و2 و3 السابقة، أن العبريين الأوائل تلقوا ديانتهم وهم غارقون في الوثنية فبقوا بذلك، لوقت طويل، يخلطون بين فواصل الخير والشر. ثم ظهرت المسيحية، ففصلت على نحو كبير بين الخير والشر؛ على أن الإنسان ظل دون حيلة أمام الإله والشيطان، فالذنب يأتي بعمل الشيطان، ويزول بعمل الإله.
دور الشيطان في الديانة العبرية دور نكرة، وينوب عنه كل نكرة يأتي مثل أفعاله. أما دوره في المسيحية، فهو دور الشرير منذ قصة الخلق؛ إذ لولا غواية الشيطان، ما سقط آدم من الجنة، ولولا هذا السقوط، ما كانت لذريته حاجة إلى الخلاص[1].
في هذا الجزء، الرابع والأخير، سنخطو خطوة أخرى أكثر تقدما على طريق معرفة تطور مفهوم “الشيطان” في التاريخ الإنساني، وهذه المرة، مع الجديد الذي أضفاه ظهور الإسلام على هذا المفهوم، والتصور الذي يعتقد به المسلمون حيال “الشيطان”.
الإرادة الإنسانية مفهوم جوهري في التصور الإسلامي للشيطان، فكلما ذكرت في القرآن غواية إبليس، ذكر معها: “إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ”.
الفكرة، بشكل عام، تنبني وفق كتاب عباس محمود العقاد، “إبليس.. بحث في تاريخ الخير والشر وتمييز الإنسان بينهما من مطلع التاريخ إلى اليوم”، الذي أشرنا إليه في الجزء الأول من هذا الملف، على أن الإسلام منح للإرادة الإنسانية حقها وتبعاتها، وجعلها ظالمة لنفسها، إذا سمحت للشيطان أن يظلمها.
يؤكد ذات الكتاب أنه ليس في الإسلام ذنب يرثه أحد من أبيه أو يورثه لبنيه. غواية الشيطان لا تخلق الخطيئة كما لا تعفي منها، وشوكته لا تحمي أحدا كما لا يسخرها لحماية أحد… كل هذا، نعرفه من خلال كتاب الإسلام الأساسي، الذي لا يوجد غيره، والحديث هنا، طبعا، عن القرآن.
اقرأ أيضا: “حسين الوادعي: التأليف الإسلامي حول العلمانية”
الإرادة الإنسانية… مفهوم جوهري!
نقرأ في القرآن أن آدم وحواء يحملان تبعة الخطيئة، إنما لكونهما يعلمان بغواية الشيطان، جاء في الآية 23 من سورة الأعراف: “قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ”.
الإرادة الإنسانية إذن مفهوم جوهري في التصور الإسلامي للشيطان كما سيرد التفصيل في ذلك، فكلما ذكرت في القرآن غواية إبليس، ذكر معها: “إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ[2]“. بل إن الشياطين نفسها تقول لمن يرجع إليها ذنبه: “وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ[3]“.
أكثر من ذلك، لا يحق لمن أغواه الشيطان أن يعتذر بأن ضلالته من وسواس الشيطان، ذلك أن الأخير ينكره ويتبرأ منه:” كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ[4]“.
رويت قصة آدم في مواضع متفرقة من القرآن، كما رويت توبته من عمله في بعض هذه المواضع، وهي جميعا مآل التكليف الذي يفرض على الإنسان، في نظر العقاد.
في ذات السياق، نقرأ في القرآن : “وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم…[5]“.
على أن شياطين الجن، ليسوا بأقدر على الغواية من شياطين الإنس، ذلك أن الشيطنة أساسا هي عداوة الحق أنى كانت: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا…[6]“.
ثم إنهم لا يعلمون شيئا من علم الغيب. وقد ورد في القرآن قصة عن جهل الجن بموت سليمان وهو قائم أمامهم: “…فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ[7]“.
ورد في القرآن، أيضا، ذكر الجن الذين يعملون للإنسان بإذن الله ومنهم جنود سليمان: “…وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ…[8]“.
وقد ذكر أيضا الجن التي تؤمن بالدين وتصدق بالكتب، والتي تسترق السمع في السماء، والتي تقارن بالإنس، والتي تطوي المسافات وتنقاد لها المصاعب. لكنه لم يذكر لها تكليفا يسقط عن الإنسان تبعته، أو يجعل لها سلطانا بغير مشيئة، إنما الشر بشري أو من الوسواس الخناس[9].
اقرأ أيضا: “في مكة والجاهلية والحج: قصي بن كلاب يؤسس المدنس على المقدس”
هبوط آدم وحواء… تكليف؟
رويت قصة آدم في مواضع متفرقة من القرآن، كما رويت توبته من عمله في بعض هذه المواضع، وهي جميعا مآل التكليف الذي يفرض على الإنسان، في نظر العقاد.
يقول العقاد في كتابه، إن المعقبين على قصة آدم من الشراح الغربيين قد تساءلوا عن معنى الشجرة التي أكل منها آدم في الدين الإسلامي، وقال بعضهم إن القرآن تركنا في حيرة من أمرها؛ أي ماذا جناه آدم وحواء من جراء الاقتراب منها وأكل ثمراتها؟
أقر الإسلام في مسألة الخير والشر والحساب والثواب معتقدا جديدا يُدين به ضميرَ الإنسان، قوامه عقيدتان، أولاهما وحدة الإرادة الإلهية في الكون، وثانيهما ملازمة التبعة لعمل العامل دون واسطة أخرى بين العامل وبين ضميره وربه.
إن الناظر في القصة، وفق العقاد، يرى أن ثمرات هذه الشجرة هي ثمرات “التكليف” بجميع لوازمه ونتائجه، وما كان هذا الفارق بين آدم قبل الأكل منها وبعد الأكل منها، إلا الفارق بين الحياة في دعة وبراءة، والحياة “المكلفة” التي لا تخلو من المشقة والشقاق والامتحان بالفتنة ومعالجة النقائص والعيوب.
أما حدود هذا التكليف، فكما أشرنا في بداية هذا الجزء، فهي تبقى محدودة في كل فرد على حدة، إذ من الواضح أن الخطاب موجه إلى آدم بما يغني عن خطاب بنيه وأعقابه؛ فهو مكلف، كما هم مكلفون: كلفته لا تلزمهم وتوبته لا تغني عنهم.
اقرأ أيضا: الإسرائيليات… إسلام بنكهة أهل الكتاب. آدم وحواء وجنة الخلد 1\3
بالمقابل، قليل من النقاد من فطنوا إلى الخاصة الإسلامية التي تتمثل في قصة آدم مع الملائكة والجان، إذ أن الغالبية منهم، وفق العقاد، يتكلمون عن زلة آدم فيسمونها “سقوطا”، ويرتبون عليها ما يترتب على السقوط الملازم لطبيعة التكوين، لكن ليس في القرآن قط أثر عن سقوط بهذا المعنى.
ما نجده في القرآن، وفق كتاب “إبليس.. بحث في تاريخ الخير والشر وتمييز الإنسان بينهما من مطلع التاريخ إلى اليوم”، هو انتقال من حال إلى حال، أو من عهد البراءة والدعة إلى عهد التكليف والكلفة: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً…[10]“.
هكذا، أقر الإسلام في مسألة الخير والشر والحساب والثواب معتقدا جديدا يُدين به ضميرَ الإنسان، قوامه عقيدتان: أولاهما وحدة الإرادة الإلهية في الكون، وثانيهما ملازمة التبعة لعمل العامل دون واسطة أخرى بين العامل وبين ضميره وربه.
باختصار، وحسب العقاد في كتابه “إبليس.. بحث في تاريخ الخير والشر وتمييز الإنسان بينهما من مطلع التاريخ إلى اليوم”، فإن الخطيئة في الإسلام على هذا الأساس، ليست أصلا كونيا يعاند الإرادة الإلهية بإرادة مثلها أو مقاسما لها في أقطار الوجود العليا والسفلى، ولكنها اختلاس وخلل وتقصير، وله علاجه من عمل العامل نفسه، بالتوبة والهداية أو بالتكفير والجزاء…
اقرأ أيضا: “موقع الدين في نظام الحكم بالمغرب: مسرحة السلطة وشرعنتها 2/2”
[1] للتعمق أكثر بخصوص مفهوم “الشيطان” في اليهودية والمسيحية، يرجى زيارة روابط الأجزاء السابقة التي ترد في نهاية هذا الجزء.
[2] الآية 42 من سورة الحجر، والآية 65 من سورة الإسراء.
[3] الآية 30 من سورة الصافات.
[4] الآية 16 من سورة الحشر.
[5] الآية 22 من سورة ابراهيم.
[6] الآية 112 من سورة الأنعام.
[7] الآية 14 من سورة سبأ.
[8] الآيتان 12 و13 من سورة سبأ.
[9] مطلع سورة الإخلاص.
[10] الآية 30 من سورة البقرة.
لقراءة الجزء الأول: “هكذا نشأت فكرة “الشيطان” لدى الإنسان الأول وتطورت حضارة بعد حضارة ودينا بعد دين 1\4”
لقراءة الجزء الثاني: “فكرة “الشيطان” في اليهودية 2\4”
لقراءة الجزء الثالث: “فكرة “الشيطان” في المسيحية 3\4”
وما قدروا النجس الخبيث حق قدره (1) ويحمل طيزة يومئذً ثمانية (2) إلى بحيرة النار والكبريت (3) ويقول النجس الخبيث ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي (4) إن المخدوعين لهم عذاب أليم (5) ويوم يعض المخدوع على يديه ياليتني لم أتخذ صلعم خليلا (6) لقد أضلني عن المخلص يسوع المسيح (7) وكان الملاك الساقط للإنسان عدواً مبينا (8)