فاطمة نسومر… حينَ تكون المُقاومة من توقيع امرأة!
كانت شخصيّة فاطمة نسومر قوية، تتمتّع بقدر من “الاستقلال”، لأنّها كانت ترفض الاضطهاد والإهانة من أي إنسان، وترفض فكرة الزّواج بالمطلق، لما رأته من تعسفٍ للرّجال في حق النّساء وهضم حقوقهن…
كانت متماسكة البنية، بارعة الجمال، قوية الشخصية، متوسطة الطول، ذات شعر قمحي كثيف تتباهى بإسداله على أكتافها ليصل إلى خصرها، عيناها زرقاوان تنمان عن قوة الإرادة والذكاء، ممزوجة بالطيبة والهدوء اللذان يمتاز بها سكان الجبال بأعالي جرجرة في ذلك الوقت…
إنها فاطمة نسومر، حوّاء المقاومة الجزائرية… هكذا تحدثت الروايات عنها!
ولدت فاطمة نسومر بالقبائل العليا شمال شرقي الجزائر حوالي 1830 “بقرية ورجة”. لم تستفد من التعليم المتوفر يومئذٍ، فالدراسة كانت حكراً على الذكور دون الإناث، حسب تقاليد وأعراف المجتمع الجزائري حينها.
أرادت فاطمة أن تكون امرأة كتب لها أن تقود الرّجال الأوفياء في زمن صعب وظرفية صعبة، نحو الواجب المشترك… نحو المقاومة. كانت تدرك أنّ مقاومة الأمير عبد القادر كانت تخلو من توقيع النّساء.
جاء في المصادر التاريخية التي كتبها الفرنسيون في القرن التاسع عشر، مثل مقال راندون وبيري، أن فاطمة نسومر ولدت بقرية “ورجة”، ويقول محمد الصغير فرج بأن مصادر القرن التاسع عشر تلقب فاطمة نسومر بلالة “نورجة”، كما أن الأحاديث الشّعبية في بلاد القبائل لا تزال تستخدم عِبارة “لالة نورجة”، في “وصف كل امرأة تريد عزل نفسها عن أفراد أُسرتها. من المحتمل أن تشير هذه العبارة في أصلها إلى فاطمة نسومر، خاصة وأنها اتبعت التصوف في زاوية جدها محمد أمزيان الورجي بسومر قبل دخولها صفوف المقاومة المسلحة، كما تقول الباحثة لامية كلاتمة.
اشتدّ عود فاطمة في كنف أسرة تنتمي في سلوكها الاجتماعي والديني إلى الطريقة الرحمانية في التّصوف. إذ كان أبوها محمد بن عيسى، مقدم زاوية الشيخ أحمد أمزيان، شيخ الطريقة الرحمانية آنذاك. وكان يحظى بالمكانة المرموقة بين أهله، حيثُ كثيراً ما يقصده العوامّ ليسدي لهم النّصح ويلقّنهم الطريقة.
كانت شخصيّتها قوية، تتمتّع بقدر من “الاستقلال”، لأنّها كانت ترفض الاضطهاد والإهانة من أي إنسان، وترفض فكرة الزّواج بالمطلق، لما رأته من تعسفٍ للرّجال في حق النّساء وهضم حقوقهن.
عاشت “محنةً” وسط عائلتها، بسبب “تسفيهها” للمؤسسة الزّوجية، وكانت تواجهها بوابل من اللّوم، واستنكار هذا الخيار المنفلت من الأعراف السّائدة في مجتمعها. فدخلت في نوبة هستيرية وأغلقت عليها أبواب الغرفة هروباً من المتاعب.
لكن…
غداة وفاة والدها، تولى شقيقها الطيب أمور العائلة، فزوّجها، وفي رواية أخرى والدها، دون أن يطلب استشارتها في أمر يخصّها، معتقداً أن الزواج سيعيد لها “استقرارها” النفسي.
يقال إن فاطمة أشفقت على النساء والأطفال الذين كانوا داخل معركة 11 يوليوز 1857، ضدّ المستعمر، فأمرتهم باللجوء إلى أقرب القرى إليهم، وكان انسحابهم إلى قرية تخليجت ناث عستو. حينئذ، شرع قادة الجانب الجزائري بالمفاوضات مع قادة الجيش الفرنسي.
تمت مراسيم الزواج بسرعة، وفي ليلة زفافها… تظاهرت بالجنون، فمزقت ثيابها وخدشت وجهها، وكسرت بعض الأواني المنزلية، فأرجعها زوجها إلى بيتها ولم يطلقها أبداً، “فبقيت في عصمته طوال حياتها، وقد رفض كل الإغراءات والمبالغ المالية لتطليقها على الرغم من فقره، وقد ظلت دون زواج إلى حين وفاتها، ويقال إن سبب رفضها للزواج ناتج عما كانت تراه من الوضع المزري والاضطهاد الذي تعيشه المرأة في الواقع”، تقول لامية كلاتمة.
انتقلت فاطمة إلى قرية “سومر” لتقيم عند أخيها الأكبر الطّاهر، الذي اشتهر بالعلم والصلاح. من هذه القرية، حملت اسم “سومر”. أما النون، فهي حرف نسبة في اللغة الأمازيغية.
إبّان السّنوات الأولى من شبابها، كانت فاطمة منغمسة في معاينة الأحداث المحيطة، فكانت تمعن في التفكير والتأمل، تبلور رؤيتها المستقبلية وتصنع معالم شخصيتها الفذة وترسم مسارها بكل تأنّ.
… أرادت أن تكون امرأة كتب لها أن تقود الرّجال الأوفياء في زمن صعب وظرفية صعبة، نحو الواجب المشترك… نحو المقاومة. كانت تدرك أنّ مقاومة الأمير عبد القادر كانت تخلو من توقيع النّساء؛ وأن أفول المرأة واضح، إزاء تسيّد أسماء خلفاء الأمير خلال الانتصارات العسكرية أو المواقف المشهودة. فاستهوتها فكرةُ النّضال!
لم تكن تجهل أنّ الطريق الذي اختارت السّير عليه سيكون صعباً، فهي رفضت أن تضطلع بدور “ثانوي” في المعارك، وأن تقبع في الصفوف الخلفية للجيوش وتقدّم المساعدة للرجال، والاكتفاء بالبقاء داخل البيت، كما كانت تفعل من قبلها زوجات المقاتلين والمقامين… لقد سعت إلى صناعةِ وضعٍ اجتماعيّ غير مألوف، تمسكت به بكل قواها طوال العمر، هو وضع “المرأة المتمردة”.
كانت فاطمة تخاطب أتباعها دائما بأن الوقت قد حان للدفاع عن أراضيهم وعرضهم وممتلكاتهم ووطنهم، وقتُ التّحضير النفسي للمرحلة القادمة. عندما عُين راندون حاكماً عاماً، أمر بمجابهة الثوار في بلاد القبائل. بيد أن المقاوم بوبغلة لم يخنع وأطلق مقاومة شجاعة ضد جنرالات فرنسا وأعوانهم.
من أشهر المعارك التي خاضها ضد جيش راندون، كانت مقاومة تمزقيدة، والتي كانت فاطمة طرفاً فيها، حيث أخذ العدو زحفه على القرى المجاورة بقيادة الجنرالين يوسف وراندون، ومعهما الخائن الأغا سي الجودي، فوقعت عدة معارك في الناحية، وكانت فاطمة نسومر إلى جانب بوبغلة تخوض غمار الحرب وتحرض المجاهدين. فاطمة… هي من قامت حينها بإلقاء القبض على الأغا سي الجودي، وقتلته بيدها.
في أبريل سنة 1854، وقعت معركة كبيرة بين بوبغلة وفاطمة نسومر من جهة، والجنرال وولف من جهة أخرى. كانت المعركة بوادي سيباو وانتصر المقاومون. كما أبانت فاطمة نسومر عن بسالة بالغة، اختطفت إعجاب الكثيرين، حتى أنّ الجنرال راندون اندهش ودخل الجيش الفرنسي في نوبة من الذّعر.
أثناء المعركة، أصِيب بوبغلة بجراح، فأوشك على السّقوط في الأسر، بيد أنّ فاطمة اندفعت إليه لتسعفه فقالت له، وفق ما يروى: “أيها الشريف، لن تتحول لحيتك إلى عشب أبداً”.
حققت فاطمة انتصارات أخرى ضد الفرنسيين بنواحي إيللتي وتحليجت ناث وبورجة وتوريتت موسى وتيزي بوايبر، وأكدت أن المقاومة الجزائرية لم يكتب تاريخها الرجال فقط، بل سيوف النساء كانت “ترفرف” أيضا في قلب معارك هذه الحركة التحررية.
في حادثة أخرى، هاجمت فاطمة مركز العدو الفرنسي وقطعت عليهم طريق المواصلات، فتعضّدت قوتها عشية انضمام قياد الأعراش وأمناء القرى، فبدأت تناوش الفرنسيين.
عاشت فاطمة نسومر “محنةً” وسط عائلتها، بسبب “تسفيهها” للمؤسسة الزّوجية، وكانت تواجهها بوابل من اللّوم، واستنكار هذا الخيار المنفلت من الأعراف السّائدة في مجتمعها. فدخلت في نوبة هستيرية وأغلقت عليها أبواب الغرفة هروباً من المتاعب.
نتيجة للهجمات المتواصلة للمقاوِمة فاطمة نسومر، توجَست سلطات الاستعمار الفرنسي من حتمية ازدياد شدّة المقاومة الجزائرية، فجهزت لها جيشاً يقوده الماريشال راندون، اتجه صوب قرية ” أيت تسورغ” و”اشريضن”، حيثُ تتمركز فاطمة وأتباعها.
التقى الجيشان يوم 11 يوليوز 1857. احتدم القتال وقتئذٍ، وامتدت الحرب بين الطرفين، وأدى عدم تكافؤ القوى إلى انهزام الثوار. يقال إن فاطمة أشفقت على النساء والأطفال الذين كانوا داخل المعركة، فأمرتهم باللجوء إلى أقرب القرى إليهم، وكان انسحابهم إلى قرية تخليجت ناث عستو. حينئذ، شرع قادة الجانب الجزائري بالمفاوضات مع قادة الجيش الفرنسي.
بحسب إبراهيم مياسي، فإنّ المفاوضات قادها عن الجانب الفرنسي الجنرال راندون، وعن الجانب الجزائري الطاهر، شقيق فاطمة نسومر، وقد تظاهر راندون بقبول شروطها، إلا أنه سرعان ما انقلب وأصدر أوامر بإلقاء القبض على الوفد الجزائري بمجرد خروجه من المعسكر. لم يكتف بذلك، بل أرسل النقيب فورشو إلى ملجأ فاطمة نسومر… وأسرها هي وعدد من النسوة.
بعد ذلك، أصيبت فاطمة بمرض عضال انتهى بها إلى شلل ذراعها الأيسر. ما فتئ المرض يسري في جسدها، حتى غدَت طريحة الفراش عاجزة عن الحراك.
ظلت نساء المقاومة إلى جانبها خلال هذه المأساة، يحطن بها ويقمن بعنايتها وتمريضها. لما أدركت فاطمة قرب أجلها، طلبت من النساء، حسب المرويات، أن لا يبكين عليها يوم وفاتها، بل عليهن أن يشيعن جنازتها بالزغاريد…
في شتنبر عام 1863، غادَرت فاطمة هذا العالم عن عمر يناهزُ الثّلاثة وثلاثين سنة، مخلّفةً إرثاً مهما في المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار.
أخيراً، يبدو أنّ النضال عند فاطمة نسومر كان في العمق مفصولاً عن الدين، فهي رغم تديّنها وتصوّفها، قاومت الاستعمار لأجل الحرية الوطنية، وليس لأجل غايات إيمانية تتعلق بالدين؛ حتى لو كان شعار المقاومة “حماية” الدين من “مسخ” الاستعمار… فالحرية لا دين سماوي لها.
الحرية أخت الكرامة، والحرية والكرامة، في النهاية، لهما دين واحد… هو الإنسانية!
وتديين المقاومة أو الثّورة… هو “سطو” على روحها… ولعل أقرب نموذج لنا، هو سرقة ثورات “الربيع الديمقراطي” من طرف حركات الإسلام السياسي…
مقالات قد تثير اهتمامك:
- جميلة بوحيرد.. الجزائرية التي جلدت بنضالها مقصلة المستعمر الفرنسي! 2/1
- الملكة “ديهيا”… المرأة التي لم تجد إليها “الفتوحات” الإسلامية سبيلاً سوى قتلها!
- الملكة تينهينان… شمسُ الطّوارق التي لم تغرُب بعدُ!
- زينب النفزاوية: زوجة ابن تاشفين ومهندسة توسع دولة المرابطين! 2/1
- خُنَاثة بنت بكار.. من هدية للسلطان إلى أم للسلاطين!
- خيرونة الفاسية… “زعيمة” المذهب الأشعري بالمغرب
لم لم تكنتكن هناك مقاومة جزايرية كانت هناك مقاومة قبيلية امزيغية لم تكن الجزاير موجودة في ذلك الوقت الجزاير هو بلد خرج من رحيم فرنسا