السلفية والمشاركة السياسية
لا يمكن الحديث عن الخطاب السلفي دون الحديث عن علاقة هذا الخطاب بالعمل السياسي، خاصة أن دعاته يرفعون في وجه الأنظمة والمجتمعات شعار أسلمة القوانين وتحكيم الشريعة.
التنظيمات السلفية في بداياتها الأولى عاشت نوعاً من العزلة السياسية لا تقل عن نظيرتها في العزلة الإجتماعية؛ إذ ظلت السلفية، وخلال سنوات طويلة، في حالة طلاق بائن مع الشأن السياسي بمختلف تعبيراته.
بعض هذه التيارات اختار المقاطعة دون تحريم مطلق، على أساس تجنب البدع ودرء المفاسد التي تنجم عن العمل السياسي من تحزب، شقاق، فُرقة بين المسلمين…. هذا الرأي هو ما عليه رواد السلفية العلمية والجامية، بل إن رأيهم يتعدى ذلك ليشمل حتى المظاهرات، الإحتجاجات، والثورات، إلى أن يصل إلى المشاركة في الأحزاب السياسية.
على عكس هذا الإتجاه السلفي، تنخرط السلفية الحركية بشكل مباشر في العمل السياسي لأنها ترى وجوب الإنخراط في الحياة السياسية من أجل التغيير. يستدل الفريق الأول على اختياره بكون الأحزاب والمشاركة فيها بدعة، بدليل الآية: {إنّ فرّقوا دينهم شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى ﷲ ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} سورة الأنعام، الآية: 159، و{كل حزبٍ بما لديهم فرحون} سورة الروم، الآية: 32. هذا دون وضع الآيات في سياقها الذي جاءت فيه، أو مراعاة تفسيرها حسب السياق القبلي والبعدي لها.
يأتي كلام ابن عثيمين معضداً لطرح الإتجاه السلفي العلمي ببدعية المشاركة في الأحزاب السياسية، بل طال قوله حتى الجماعات الإسلامية/السلفية: “الواجب أن تكون الأمة الإسلامية مذهبها مذهب السلف الصالح، لا التحزب إلى من يسمى “السلفيون”. هناك طريق سلف، وهناك حزب يسمى “السلفيون”. المطلوب: إتباع السلف”[1].
هذا الرأي نجده متبلوراً لدى السلفية المغربية أيضاً، حيث إن جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة تتخذ موقفا مشابها، فلا نجدها تحتك كثيرا بما هو سياسي، ولا تدعو في الأغلب إلى المشاركة السياسية-إلا إذا دفعت إلى ذلك دفعا، بدعوى شبهة هذا المجال، وأي دخول في بوثقته إنما هو وقوع في المحظور، أو على الأقل اتقاء للشبهات استناداً لحديث نبي الإسلام: (إن الحلال بين وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه)؛ بمعنى: بين الحلال والحرام أمور مشتبهة بالحلال والحرام، حيث انتفت الشبهة انتفت الكراهة وكان السؤال عنه بدعة[2].
المشاركة السياسية… جهاد!
إن السلفية العلمية في المغرب، كما نظيرتها في المشرق، تتوجس من العمل السياسي إن صح التعبير، ولا تحبذ فكرة الالتصاق والمشاركة في هذا المجال. يرى السلفيون في ذلك بدعة وتفرقة لشمل الأمة. القاعدة الفقهية بالنسبة لهم هي “درء المفاسد أولى من جلب المصالح”؛ أي أنه، -حسب التيار السلفي العلمي،-حتى إن كان في الأحزاب بعض الخير والمصلحة، إلا أنها تخلق مفسدة تفرقة شمل “الأمة الإسلامية”.
بيد أن ما سبق ذكره لا يعني أن السياسة غير موجودة عند السلفية العلمية، فإذا “كانت السياسة غير موجودة على مستوى الخطاب، فإن ذلك لا يعني غيابها، فهي تنتمي إلى مستوى آخر، مستوى الممارسة اليومية، بحيث يمكن أن نجد بعض مدلولاتها في أشكال العمل اليومية، والطقوس، والتنشئة، والعلاقات الإجتماعية. هناك ممارسات تقايض حرية العمل الدعوي بالامتثال للنظام السياسي، أو تزكية شرعيته الدينية عبر مهاجمة الحساسيات الحركية المعارضة”[3].
لكن، وعلى عكس السلفية العلمية، تمزج السلفية الحركية بين المكون السلفي-الفقهي والمكون السياسي لصياغة رؤية إصلاحية للواقع الإسلامي. بالنسبة للسلفية الحركية، يمثل “القول بأن العمل السياسي مشغلة عن الدعوة إلى ﷲ خطأ”[4]؛ ذلك أن السلفية الحركية بهذا المفهوم، ترى أن الأخير ليس مشغلة عن الدعوة ذاتها، بل هو الجهاد ذاته.
من هنا تبدأ عملية الإنخراط في الحياة السياسية والإهتمام بالواقع السياسي وملابساته، مستندة في ذلك إلى ضرورة الإصلاح بالممارسة لا بالتنظير فقط.
بين مكونات التيار نفسه، تختلف الرؤية لتحقيق الغاية الإصلاحية:
1\ التيارات التي تشارك في العملية السياسية في الأنظمة القائمة،
2\ التيارات السياسية التي تمنع العمل السياسي في الأنظمة القائمة، وتستعيض عن ذلك بتكوين شبكة مفاهيمية منهجية للسياسة الإسلامية، وصورة الإسلام المطلوبة لتكوين الطليعة المؤمنة التي تنفذ هذا البرنامج حين تسنح الفرصة. يغلب هذا النموذج على الفكر السلفي الحركي.
التيار الجهادي
إلى جانب السلفية العلمية والإتجاه السلفي الحركي، نجد التيار الجهادي والذي يتذبذب بين المشاركة السياسية من عدمها.
هذا التيار، إن قال بالمشاركة، فإنه يتخذ من طابع العنف ميزة له من أجل الإصلاح السياسي المزعوم، ولا يتوانى عن سفك الدماء.
إن لم يقل بالمشاركة السياسية، لا يتورع هذا التيار عن إشهار ورقة الكفر في وجه الحكومات وتفسيق المجتمع، ولا ينفك يتحين الفرص للضرب في التيارات الأخرى حتى إن كانت من أبناء جنسه (السلفية).
غير أن السلفية اليوم، بمختلف المشارب، لم تعطِ في المجال السياسي أطروحة وخطابا مركزا، مما يتولد عنه إشكالية مفادها: “هل بالإمكان الوثوق بأن التيارات السلفية قادرة على طرح مشروع سياسي وتبني رؤى تلتقي مع القواسم المشتركة التي تتفق عليها جل القوى الوطنية، أم أن الطرح السلفي تعتريه الكثير من المناطق الضبابية والتصلبات التي تدفع إلى حالة القلق والتوجس إزاء هذا التيار؟!”[5].
ختاما، يبدو أن السلفية تحتاج إلى بلورة خطاب سياسي واضح المعالم كالخطاب الديني الذي أنتهجته.
السلفية المغربية لديها تباينات مع بعضها البعض، ولا زالت لم تتفق داخل التيار نفسه على المشاركة السياسية من عدمها؛ “فقد انقسمت السلفيات في المغرب إلى سلفية اتبعت الهلالي وبقيت ماضية على خطاه، وأخرى اتبعت المغراوي، وثالثة سلفية أقرب إلى السلفية الجهادية…. ويشترك هٰؤلاء في الرؤية العلمية العامة”[6].
مصادر:
[1] – أنظر كتاب “ما بعد السلفية”، أحمد سالم وعمرو بسيوني، الطبعة الأولى، ص: 19
[2] – شرح الأربعون النووية، لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، تحقيق: محمود بن رضوان أحمد، الطبعة الأولى، ص: 72، الحديث أخرجه: البخاري (52)، ومسلم (1599)
[3] – أنظر “سوسيولوجيا الحركات السلفية في المغرب”، بيروت، مركز دراسة الوحدة العربية، سلسلة الأطروحات، 2009
[4] – الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق
[5] – أنظر “سوسيولوجيا الحركات السلفية في المغرب”، بيروت، مركز دراسة الوحدة العربية، سلسلة الأطروحات، 2009.
[6] – أنظر “ما بعد السلفية”، ص: 204