عن التعاطف الانتقائي: لماذا آلمنا انفجار بيروت ولم يفعل فيضان الخرطوم؟ - Marayana - مرايانا
×
×

عن التعاطف الانتقائي: لماذا آلمنا انفجار بيروت ولم يفعل فيضان الخرطوم؟

أتُرى تملك بعض الأحداث كاريزما التأثير دون غيرها؟ أم أنّنا في تعاطفنا انتقائيون؟ وهبْ أننا كذلك، لماذا؟ لماذا نتعاطف مع هؤلاء دون الآخرين، أو مع الآخرين دون هؤلاء؟

حين حدث انفجار مرفأ بيروت، كأنما وقعت شظاياه على مواقع التواصل الاجتماعي… شعر الكثير بالألم وهاله ما رأى، ولم تتمالك أصابعه نفسها حتى استقرت على لوحة المفاتيح تكتب: “من قلبي سلام لبيروت”.

البعض انخرط، دون تردد، في جمع التبرعات أو إرسال مساعدات…

ثمّ بعد أسابيع، فاض نهر النيل وغاصت الخرطوم في الماء عن بكرة أبيها في فيضان وُصف بالأسوأ منذ قرن على السودان… قَتَل العشرات، هدم عشرات الآلاف من المنازل، وتضرّرَ ما لا يقل عن نصف مليون شخص…

تفترض نظرية ترتيب الأولويات في الإعلام أن اهتمام الجمهور بحدث ما، يتناسب طرديا مع تركيز وسائل الإعلام على هذا الحدث.

كانت هذه الكارثة الطبيعية لا تقل سوءاً عمّا حدث في لبنان… لقد دفعت بمجلس الأمن والدفاع السوداني إلى إعلان حالة الطوارئ لـ3 أشهر في كل أنحاء البلاد.

تمضي الأيام والسودان في كارثة مهولة… لكنّ مواقع التواصل الاجتماعي، على غير عادتها، لم تُكلّف نفسها عناء القيام هذه المرة… فقد ظلت قاعدة!

ثمّ على استحياء، بعدما تعب النشطاء هناك يحشدون التعاطف ويلفتون الانتباه إلى ما يحدث، أخذنا نقرأ بين الفينة والأخرى: “من قلبي سلام للخرطوم”.

اقرأ أيضا: الطائفية في لبنان… من الجذور إلى المأساة 5/1

أتُرى تملك بعض الأحداث كاريزما التأثير دون غيرها؟ أم أنّنا في تعاطفنا انتقائيون؟ وهبْ أننا كذلك، لماذا؟ لماذا نتعاطف مع هؤلاء دون الآخرين، أو مع الآخرين دون هؤلاء؟

المقارنة بين ما حدث في لبنان والسودان، تُلخص ما تعيشه الأحداث من كيل بمكيالين من قبل الناس… أما القائمة فطويلة؛ عمل إرهابي في باريس لا شكّ أنّه يقيم الدنيا ولا يقعدها عن آخر مثله في تونس مثلا، والشواهد في هذا الصدد… لا تُعد على الأصابع!

المُتّهم الرئيسي

تفترض نظرية ترتيب الأولويات في الإعلام أن اهتمام الجمهور بحدث ما، يتناسب طرديا مع تركيز وسائل الإعلام على هذا الحدث[1].

… أي أن وسائل الإعلام تمتلك قدرة (غير سحرية طبعا) على تحديد ما سيهتم به الجمهور.

كان المرء قبل سنوات ليست ببعيدة يجلس أمام التلفزيون ويتنقل بين القنوات. قد ينتبه إلى أن خيارات المشاهدة محدودة، لكنّه يعتقد أن ما يُعرض من أخبار، وحده ما حدث في ذلك اليوم…

هناك هوة بيننا كبشر… نُقدّر المجموعة التي ننتمي إليها أكثر، ونفشل في تقدير معاناة الآخرين، وإن حدث… أشفقنا عليهم وحسب!

سيهتم بما أفردت له القناة المساحة الأكبر في النشرة الإخبارية، بحسب أجنداتها، وكثيرا ما لن يولي اهتماما مماثلا لما كان عابرا من الأخبار…

رُبّما إن كان مُشاهدا ذكيا، غيّر القناة بأخرى… في الغالب تلك التي تتناول الخبر من زاوية تلائم توجهاته الشخصية، السياسية والفكرية وغيرها.

اقرأ أيضا: الشبكات الاجتماعية… فضاءات حرة لسلطة مضادة عمادها المواطنون! 1\3

هذه كانت الحكاية أيام سادت وسائل الإعلام التي تُعرف اليوم بـ”التقليدية” (التلفزيون، الراديو، الورقي).

… وللحكاية بقية يكتبها جديد وسائل الإعلام، كالهواتف الذكية حيث تُطالعنا مواقع التواصل الاجتماعي.

يعتبر الناس في الغرب مثلا أن باريس آمنة وكلا من بغداد أو بيروت أماكن غير مألوفة وخطرة… هكذا، ستستجيب أدمغتهم بشكل مختلف لخبر انفجار في باريس وهجوم في بيروت.

هذه المواقع وغيرها غيّرت مفاهيم الصناعة الإعلامية، حتى إن البعض يطلق عليها الإعلام البديل. أليس كلنا في هذه المواقع “صحافيين”؛ نصل إلى المعلومة بمختلف أوجهها ونتناقلها دون انتظار الإعلام… والأهم من ذلك، بعيدا عن أجنداته؟

مع ذلك، تظل الحكاية أعقد مما نتصور… ففي تفاصيلها تسكن خوارزمياتٌ واستخدام للبيانات الشخصية ودعايات وذباب إلكتروني وأخبار زائفة…

حسنا… الإعلام بشقيه، التقليدي والجديد، مُتّهم بتوجيه اهتمامنا… لكن، ماذا عنا كجمهور، كأشخاص؟

… الإنسان فينا؟

التعاطف فضيلة، فأن تُقدّر مشاعر الآخرين؛ أن تشاركهم آلامهم وأن تكون رحيما بما يكفي لمحاولة مساعدتهم، صفةٌ لا شكّ حسنة.

ينبع هذا الشعور بالتعاطف من الحب، من الالتزام… أو ببساطة من الإنسان فينا.

اقرأ أيضا: التسامح: هل يمكن القضاء على اللاتسامح “الشعبي”؟ 3/3

لكن… بينما نتعاطف تلقائيا مع من نُحبّ، أو مع مجموعتنا أيا كانت (عرقية، دينية، قومية، سياسية…)، نجد صعوبة في التعاطف مع الآخرين[2].

أدهى من ذلك، قد تشعر بتعاطف جارف نحو مبنى قديم جرى هدمه في مدينتك… ولن تأبه لعشرات قضوا في حادث سير بمدينة أخرى مثلا.

المقارنة بين ما حدث في لبنان والسودان، تُلخص ما تعيشه الأحداث من كيل بمكيالين من قبل الناس… أما القائمة فطويلة؛ عمل إرهابي في باريس لا شكّ أنّه يقيم الدنيا ولا يقعدها عن آخر مثله في تونس مثلا.

تؤكد الأبحاث أنه من الصعب حقا التعاطف مع الأشخاص المختلفين عنا… فكيف بمن لا نحبهم!

نميل دائما إلى حيث يوجد انعكاس لنا… وننخرط في تعاطف تلقائي مع الأشخاص الذين يشاركوننا السمات مثلها؛ دينية، قومية، طبقية… والقائمة طويلة.

في كتابه “الجانب المظلم من التعاطف”، يرى الباحث فريتز بريثوبت أن التعاطف شعور طبيعي يثيره الدماغ، حيث تقع مراكز تستشعر الألم عندما ترى شخصا آخر يعاني[3]

غير أن المسألة في العالم، أقرب إلى القبلية يؤكد بريثوبت.

اقرأ أيضا: “الأصولية” في الديانات الثلاث: مدخل (الجزء الأول)

من جهته، يرى عالم الأعصاب، دانيال غلاسر[4]، أن التعاطف رد فعل لا شعوري في الدماغ تُسيّره خبراتنا السابقة.

ويوضح، في مقال على “غارديان” البريطانية، أننا إن زرنا مكانا معينا وصرنا نعرفه معرفة جيدة، فإننا نعتبره مكانا آمنا عادة على خلاف الأماكن التي لم نزرها.

من ثم، يُتابع غلاسر، يعتبر الناس في الغرب مثلا أن باريس آمنة وكلا من بغداد أو بيروت أماكن غير مألوفة وخطرة… هكذا، ستستجيب أدمغتهم بشكل مختلف لخبر انفجار في باريس وهجوم في بيروت.

اقرأ أيضا: نعم للاختلاف… لا للوصاية

هناك هوة بيننا كبشر… نُقدّر المجموعة التي ننتمي إليها أكثر، ونفشل في تقدير معاناة الآخرين، وإن حدث… أشفقنا عليهم وحسب!

في الدول التي تتميز بالاختلاف، طائفيا كان أو عرقيا… يصير الأمر أسوأ!

يخلص بريثوبت إلى أن التعاطف ليس بوسيلة لمساعدة الآخرين… إنما لمساعدة أنفسنا…

أن تفهم تجارب الآخرين المختلفة جدا عنك، يوسع ذهنك ليصير أكثر شمولية… ستكون إنسانا أفضل إن كان التعاطف لديك ليس مجرد خدمة تمنحها أو خيارا تلجأ إليه!


[1]  محمد خمايسة. عن مقاله: “ترتيب الأولويات… هل فقدنا جهاز التحكم؟”.
[2]  راجفي ديساي. عن مقاله: ” Why We Are Able to Empathize With Some, Never All”.
[3]  جاسون كوتك، عن مقاله:” The Rise of Selective Empathy”.
[4]  عن تقرير لـ”BBC” بعنوان: “لماذا نتعاطف مع البعض دون الآخر؟”.

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *