من مصر، سارة أحمد فؤاد تكتب: سارة حجازي… ومن الاكتئاب ما يقتل!
تنويه: هذا المقال لا يُخاطب أولئك الذين يلعنون سارة حجازي ليلاً نهارًا، وإنما يخاطب محبي سارة، والمترحمين عليها ومن ينعونها، وخصوصًا السادة النشطاء المدنيين كونهم- وأعترف بذلك- نجحوا بجدارة في استفزازي للكتابة، والاشتباك!
حادث انتحار جديد
أثناء مطالعتي للتحديثات الواردة من موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك منذ عدة أيام، فوجئت بخبر حزين للغاية، وهو انتحار الشابة سارة حجازي التي كانت تقيم في كندا وتُعالج من مرض الاكتئاب منذ عامين على الأقل.
سارة حجازي ناشطة مصرية، كويرية، قامت برفع علم قوس القزح خلال حفلة لفريق “مشروع ليلى” في القاهرة سنة 2017، تعبيرًا عن توجهها الجنسي، ليتم اعتقالها وتعذيبها بالكهرباء وتعريضها للإساءة الجسدية واللفظية في مكان احتجازها لمدة ثلاثة أشهر؛ قبل أن تطلق السلطات سراحها لتمضي فترة قصيرة في مصر، ثم تختار اللجوء إلى كندا بسبب التهديدات العديدة التي تلقتها بسبب كونها مثلية الجنس، وبسبب كونها ناشطة لدعم حقوق مثليي الجنس في مصر.
بدون مبالغة، خبر انتحار سارة فطر قلبي!
عندما كنت أطالع صور سارة، كنت أشعر بأنها تشبهني بشكل أو بآخر، فأنا وسارة نرتدي النظارات الطبية ولا نفضل العدسات اللاصقة… كلتانا تفضل اختيار الشعر القصير للغاية، كما أننا نحمل نفس الاسم، ونعاني المرض النفسي!
فقط، سارة كانت في مرحلة أسوأ من مرض الاكتئاب، مرحلة كان من الممكن أن أصل اليها!
اقرأ أيضا: أحمد المهداوي يكتب: سارة حجازي… اغتيال في منتصف الطريق نحو الحب
كيف بدأت (الخناقة)؟
عندما تم الإعلان عن انتحار سارة، انبرى نشطاء الحقوق المدنية والجنسية والسياسية بالحديث عن نضال سارة من أجل حقوق المثليين جنسيًا، وكيف أن النظام السياسي وحده يتحمل مسؤولية انتحار المسكينة، فهم من سجنوها وعذبوها وأساءوا إليها؛ ولو لم يحدث كل ذلك لما ماتت سارة!
يبدو أن المرض النفسي لا يقدم ميتةً بطوليةً بالشكل الكافي.
حسنًا، كان من الممكن ألا يحدث كل ذلك وتصاب ساره أيضًا بالاكتئاب وتنتحر! مفاجأة، أليس كذلك؟؟؟
هل كنتم ستتعاطفون معها إذا انتحرت بسبب الاكتئاب فقط؟ هل كنتم ستصفونها بكل هذه الألفاظ البطولية والنضالية إذا قضت سارة نَحْبها بسبب المرض النفسي؟
اقرأ أيضا: محمد علي لعموري يكتب: سارة حجازي: حين يرحل قوس قزح
كيف قتلتنا نظرية الأدوار الاجتماعية؟
ماذا لو كانت سارة على قيد الحياة، فكيف سترى نفسها؟ هل ستُعرِّف نفسها كمناضلة، كما انبرى النشطاء على تسميتها؟
يرى النشطاء السياسيون أن سارة منهم، ويرى نشطاء الحقوق الجنسية أن سارة منهم… لكن أحدًا لم يرَ الجانب الأكثر قتامة من الصورة؛ وهو أن سارة كانت مريضة اكتئاب حاد أظهر عدم استجابة للعلاج، وكأن الاكتئاب أو المرض النفسي أحقر وأكثر تفاهة من أن يتم التعامل معه على أنه قاتل خطير… لربما أكثر من النظم السياسية العربية! لكن بالطبع، نحن شجعان ومناضلون، ولا نموت سوى بالرصاص أثناء حروب الشوارع.
أتذكر بسخرية ما رواه الطبيب النفسي المصري د/ أحمد عكاشة عن رأي الرئيس جمال عبد الناصر في المرض النفسي وكيف كان يراه رفاهية رأسمالية، وأقارن ذلك برأي النشطاء عن المرض النفسي، وأفكر: أيهما الأكثر سطحية؟
بالأمس، طالعتني تغريدة على موقع تويتر من مغردة غير مصرية، تقول إن “انتحار سارة حجازي اغتيال سياسي، وإن تركيز الحديث عن الاكتئاب يُعفي النظام من المسؤولية، وإن حالتها ليست إلا عارضًا لمرض أكبر اسمه الأنظمة القمعية”!
أتذكر بسخرية ما رواه الطبيب النفسي المصري د/ أحمد عكاشة عن رأي الرئيس جمال عبد الناصر في المرض النفسي وكيف كان يراه رفاهية رأسمالية، وأقارن ذلك برأي النشطاء عن المرض النفسي، وأفكر: أيهما الأكثر سطحية؟
يبدو أن المرض النفسي لا يقدم ميتةً بطوليةً بالشكل الكافي.
المرض النفسي أيضًا…. يقتل!
اقرأ لنفس الكاتبة: أنا هلعانة
في عام 2018، كتبت الراحلة سارة حجازي في مقال على موقع “مدى مصر” رحلة معاناتها مع مرض الاكتئاب بجانب كرب ما بعد الصدمة والقلق الشديد؛ كيف أنها حاولت الانتحار، وأنها خضعت للعلاج بالصدمات الكهربائية، وهو العلاج الأكثر فاعلية في الأمراض النفسية (وهو علاج بالمناسبة آمن تمامًا)؛ وكيف أنها لم تستجب للصدمات الكهربية بل أن الحالة تطورت لفقدان جزئي في الذاكرة.
أتذكر أنني كنت في بدايات علاجي النفسي عندما قرأت هذا المقال… وكيف أنني أحسست بكل كلمة كتبتها سارة حجازي، لأنها كانت تعبر عن أحد مخاوفي: الخوف من الانتحار، الخوف من فشل العلاج النفسي، الخوف من عدم الاستجابة للعلاج… وهو ما كان يشغل حيزًا كبيرًا من قلقي المرضي.
نعرف جيدًا أن الكثير في مجتمعاتنا العربية يتعاملون مع المرض النفسي بسطحية بالغة أو إنكار عنيف، لكن من المؤلم والمهين أن نجد في نفس الفئة التي ننتمي اليها كمستنيرين أو نشطاء سياسيين من يتعامل مع المرض النفسي بهذه الاستهانة، ولا يعتبره سببًا خطيرًا للوفاة، وإنما يظل يبحث عن أسباب يخوض بها معارك كلامية لا تفيد سوى في المزيد من التسطيح للقضية
بحكم التجربة، كنت أعلم جيدًا ما تعانيه هذه المسكينة، وكيف أنها حاولت المقاومة كثيرًا وكيف تعرضت للتحسن ثم الانتكاس ثم محاولة العلاج مرة أخرى، فالتحسن، فالانتكاس… حتى أقدمت في النهاية على قتل نفسها، كطريقة حاسمة لإسكات الأصوات التي لا تصمت داخل عقلها.
عزيزي القارئ والناشط، أخبرني… هل شعرت يومًا برغبة في ضرب رأسك بالجدار، أو ثقبها بمثقاب كهربائي لإسكات الأفكار التي تصرخ بداخلك؟
إذا كنت لم تختبر هذا الشعور، دعني أخبرك بأنك ستجد صعوبة في تفهم ما أكتبه، أو ما أشعر به ويشعر به غيري من المتعافين من المرض النفسي عندما وردهم خبر وفاة سارة.
ما بين السطحية والاستعلاء والانكار:
نعرف جيدًا أن الكثير في مجتمعاتنا العربية يتعاملون مع المرض النفسي بسطحية بالغة أو إنكار عنيف، لكن من المؤلم والمهين أن نجد في نفس الفئة التي ننتمي اليها كمستنيرين أو نشطاء سياسيين من يتعامل مع المرض النفسي بهذه الاستهانة، ولا يعتبره سببًا خطيرًا للوفاة، وإنما يظل يبحث عن أسباب يخوض بها معارك كلامية لا تفيد سوى في المزيد من التسطيح للقضية.
هل كنتم ستتعاطفون معها إذا انتحرت بسبب الاكتئاب فقط؟ هل كنتم ستصفونها بكل هذه الألفاظ البطولية والنضالية إذا قضت سارة نَحْبها بسبب المرض النفسي؟
لا أعتقد سوى أن خوض المعركة هذه المرة ضد المرض النفسي هو أمر أكثر أهمية وفاعلية من خوض المعركة ضد النظام السياسي… هذه المرة، لدينا معركة يمكننا تحقيق بعض المكاسب فيها، فلماذا نتركها لنندمج في معركة كل ما جنيناه منها هو الخسارة الفادحة واستنزاف الموارد والقوي؟
بالفعل، لقد ناضلت سارة حجازي… ناضلت ضد الظلام الذي كان يحاول أن يطغى على عقلها وروحها… ناضلت ضد المرض الذي نهش عقلها وروحها وإن لم ينهش جسدها… ناضلت وحاربت واستمرت في دعم من تحب ومن تتعاطف معهم. لكنها لعنة المرض النفسي التي لا يفهمها أحد: أن تتسامح مع العالم كله ولا تستطيع التسامح مع أفكارك السوداء.
لروحك السلام أيتها المناضلة… ليجمعنا الله يومًا في جنة المناضلين، ممن يحاربون أفكارهم الخاصة، المتعافون ومن هم في طور التعافي…
اقرأ أيضا: نصف المغاربة يعانون من أمراض نفسية… الصحة النفسية بالمغرب: خدمات طبية “كارثية” ونظرة تحقيرية للمرض النفسي
مؤكد ان المرض النفسي وجب التعامل معه وعلاجه لكن من المعروف والبديهي انه ليس مجردا ولامفصولا عن بقية العوامل والظغوط التي تكبح الارادة والتفكير وحر الاختيار مما يقود بالضرو ة إلى حيرة وارتباك في التعامل مع مختلف التناقضات وفقدان التوازن. ولذا فلا يمكن للتحليل الموضوعي ان يتغافل عن دور مختلف السلط في خلق هذه الحالات من التشظي