الحسين أخدوش يكتب: اليومي موضوعا للتفكير الفلسفي 2/2قراءة في كتاب: Une journée de philosophie
هذا الكتاب كتب بأيدي ثلاثة أصدقاء، هم في الواقع ثلاثة كائنات لا يجمع بينهم الفهم الواحد والوحيد للمسألة برمّتها، وهم يعرفون، قبل كلّ شيء، كيف ينصتون لبعضهم البعض.
إنّ حوارهم في هذا العمل، هو ما سمح لهم بالخروج عن القوقعة الخاصّة بكلّ واحد، وذلك لأجل ردم حالة التباعد الحرجة المفترضة بينهم عن طريق تجربة الكتابة المشتركة هاته.
توقفنا في الجزء الأول من هذا المقال، عند فكرة أن امتلاك أيّ واحد منّا ليومه بشكل مثالي، هو أمر لا يصبح متاحا إلاّ إذا ما تمّ تحديد تفاصيل هذا اليوم بشكل تام ونهائي…
ونتابع في هذا الجزء الثاني والأخير، اقتفاء تفاصيل ذلك، من خلال قراءة في كتاب: “Une journée de philosophie: les grandes notions vues à travers le quotidien”.
… في سبيل ذلك، يلزمنا التحدّث عن هذه الأمور بشكل معياري، مادام قليل من الناس فقط، عدا حكماؤهم، يعرفون بذلك. وإنّه لمن حسن حظّنا أن لا يظهر جوهر الشيء بشكل جيّد، إلاّ بفعل ما يتهدّده من أزمات. لذلك، فإنّنا، على سبيل المثال، لا ندرك لما تصلح السيارة ولا نقدّر أهمية ما تسديه لنا من خدمات، إلاّ بعد أن تصبح معطوبة، فتأبى التحرّك.
هذا الأمر ذاته ينطبق على هذا الكتاب الذي نحن بصدده، حيث إنّ الحديث عن الاستيقاظ يعني الكلام عن التعب، وعناق المحبة يفيد تَحمُّل المصاعب، بينما التفكير في النوم قد يفضي إلى الحديث عن الأرق. كما أنّ المعنى الحقيقي لمسار رحلة ما لا يظهر بوضوح زائد إلاّ في حصول ازدحام على الطريق حيث المكابدة ضرورية؛ بينما الوجبة الجيّدة لا تكشف عن سرّ مذاقها حتى لا تفقد قيمتها بين الوجبات السريعة.
إنّ الذين يملكون فنّ إهدار يومهم، أو إبداعه، وفقًا لأسلوبهم الخاص، هؤلاء لن يبقوا بمنأى عن مثل هذا الأمر؛ لذا، فإلى هؤلاء يتوجّه هذا الكتاب بخطابه. أمّا وكون هذا الكتاب قد كتب بأيدي ثلاثة أصدقاء، والذين هم في الواقع ثلاثة كائنات لا يجمع بينهم الفهم الواحد والوحيد للمسألة برمّتها، فذلك لأنّهم يعرفون، قبل كلّ شيء، كيف ينصتون لبعضهم البعض. إنّ حوارهم في هذا العمل، هو ما سمح لهم بالخروج عن القوقعة الخاصّة بكلّ واحد، وذلك لأجل ردم حالة التباعد الحرجة المفترضة بينهم عن طريق تجربة الكتابة المشتركة هاته.
لماذا لا نفكر في يومنا العادي كما هو؟ والجواب البديهي الذي يقترحه هؤلاء الكتاب هو كالاتي: “لأن اليومي يبدو غير مهم (حجاب المظهر)، أو لأنه سبق الحكم عليه حتى قبل فحصه (حجاب الحكم المسبق)، أو لأننا نفضل تصديقه كما هو مادامت المعرفة متعذّرة بالنسبة لنا (حجاب الاعتقاد)، أو لأنه في النهاية، ليس من غريبا ومذهلا (حجاب العادة).
أملهم الفلسفي في هذا الكتاب، هو أن يصبح الكوني والخاص متاحان بشكل كبير، وبصفة خاصّة كلّما استدعت ضرورات الكوني تنظيم شتات أجزاء الخاص. لذلك، ومن هذا المنطلق، سيكون عمل “يوم من الفلسفة” كتابا للجميع ولغير أحد في نفس الوقت: لغير أحد لأنّه لا يتوجّه تحديدا إلى نموذج معيّن، بل إلى كلّ من ينهض، بفضل عمل تفكيره الخاص، مبتغيا الأعلى بصفة خاصّة. إنّه بمثابة يوم يقول كلّ شيء عن بقيّة الأيام، مثل ذلك اللغز الذي خاطب به “سفنكس” (حيوان أسطوري يكون صباحا بأربعة أرجل واثنان في وسط النهار، ثم ثلاثة في المساء) “أوديب”، أو مثل “أوليس” في روايات «جويس» (Joyce)، أو “السيّد دالاوي” لدى الروائية «فيرجينا وولف» حيث الزمن هو ما يمثّل وحدتها، ممّا يشبه، والحالة هاته، وبداية النهار من انصرام الليل. بذلك، لا يكون لنا من الحياة سوى هذا اليومي الذي ينبغي لنا أن نعيشه بالتمام والكمال.
اقرأ أيضا: محمد أركون… المفكر الذي لم يهادن التراث والفكر الإسلامي!
إنّ ما يود هؤلاء الكتاب قوله، عبر هذا الكتاب هو الاتي: “إنّنا نأمل في خضم قراءة صفحات هذا الكتاب أن يجد كلّ قارئ حساب أيامه الخاص به على ضوء قراءته. الواقع أنّه قد يحصل أن نفشل، كذلك، ونحن نتحدّث عن هذا الموضوع أو ذاك. لكن مع ذلك، سيبقى معوّل عليك، أيّها القارئ الكريم، إتمام كلّ ما لم يقل هنا من عندك. فلئن كان أفلاطون أول فيلسوف كتب المحاورات، فلربما ذلك يعني أنّ الكلمة الأخيرة لا تعود إلى من تكلّم في البداية، بل للقارئ الذي سيقرأ له. لذا، فكلّ ما لدى كتابنا هذا لك، أيها القارئ الحصيف، يتوقف على ما يودّ قوله لكل واحد منّا. كل كتاب يقع بين يدي قارئه يظلّ صامتا: ولذلك، فإنّه على كفاءة هذا القارئ النبيه تقع مهمة إنطاقه لا مصادرة مطلبه.”[1]
لهذه الاعتبارات كلّها، يقّر مؤلفو هذا الكتاب بمسألة حاسمة، يلزم، عبرها، اتخاذ القرار بالتفكير في اليومي؛ وهذا ما يلزم أن يحصل انطلاقا من الردّ على سؤال الاتي: لماذا لا نفكر في يومنا العادي كما هو؟ والجواب البديهي الذي يقترحه هؤلاء الكتاب هو كالاتي: “لأن اليومي يبدو غير مهم (حجاب المظهر)، أو لأنه سبق الحكم عليه حتى قبل فحصه (حجاب الحكم المسبق)، أو لأننا نفضل تصديقه كما هو مادامت المعرفة متعذّرة بالنسبة لنا (حجاب الاعتقاد)، أو لأنه في النهاية، ليس من غريبا ومذهلا (حجاب العادة).”[2]
[1] Martin Steffens, Thierry Formet, Pierre Dulau ; Une journée de philosophie, op, cite, pp4-5.
[2] Ibid, pp11-12.
لقراءة الجزء الأول: اليومي موضوعا للتفكير الفلسفي… 1/2
أكيد أن الحجب كثيرة سي الحسين يحجب بغضها البعض، و يغطي أفق كل منها الأخر.. ولعل أعتاها و أسدمها يبقى حجاب اجهل صديقي المتنور… .