“نصوص متوحشة”… عن خطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/1
يحاول الباحث البحريني علي أحمد الديري، في كتابه “نصوص متوحشة”، الذي نخوض فيه ضمن هذا الملف، تفسير السياق التاريخي والسياسي الذي مكّن نصوص التوحش من شرعيتها الدينية ومن تثبيت أطروحاتها ضمن الحس الإسلامي العام.
حين نتحدث عن التوحش، نتحدث عن عالم الحيوان… العالم الذي لا يحكمه العقل إنما الغريزة.
لكن للإنسان أيضا طاقة غضب ترتبط بدوافع أولية، مثل الفخر والاعتزاز والانتقام والحسد والغيرة والتنافس، يمكنها أن تنفجر إذا تعرضت لتأثير خطابات بعينها!
ما من ملة أو دين أو طائفة أو فرقة، إلا وتعتقد أن الله خصها برسالة مميزة، وأنه بناء على ذلك، يشد أزرها، ويعمل على انتصارها بطريقة أو بأخرى.
ما زال ابن تيمية “يُدرّس” نصوصه في المدارس والجامعات، وما زال يعقد تحالفاته في أروقة السلطة، ويواصل بعض أصحاب السلطة والجماعات القاتلة، الحكم، بناء على كتب فتاويه، التي جعلوها دستورا.
في التراث الإسلامي الكثير من النصوص المتوحشة! النصوص التي تفجر هذه الدوافع، إذ لا تعترف بالآخر، وتنظر إليه دون مستوى الإنسانية… نصوص لا تكتفي بتكفيره، بل الأدهى من ذلك، توجب قتله!
تلك النصوص، يتطرق لها الباحث البحريني علي أحمد الديري، في كتابه “نصوص متوحشة” الذي أصدره عام 2015، حيث يتساءل في مقدمته: لماذا نفتح نصوص التوحش الآن؟ فيجيب: لأن هناك “وحشا” سرق وجوهنا باسم الدين.
نعم… حاضرنا ينتج الكثير من هذا الوحش، وبه يُعَد مستقبلنا…
اقرأ أيضا: التكفير والتطرف… من ابن تيمية إلى محمد بن عبد الوهاب وسيد قطب. أصل المأساة!
ابن تيمية، مثلا، ما زال “يُدرّس” نصوصه في المدارس والجامعات، وما زال يعقد تحالفاته في أروقة السلطة، ويواصل بعض أصحاب السلطة والجماعات القاتلة، الحكم، بناء على كتب فتاويه، التي جعلوها دستورا.
هذا الوحش، وفق الديري، يعتبرنا أعداء ينبغي قتلهم، ويرى في ممارسته هذه، عبادة كسائر العبادات. بعبارة أخرى، التكفير لديه شعيرة دينية.
على أن باقي العبادات، إذا كانت تحدد الهوية الدينية وحسب فلا يوجد من يعادي الآخر لأنه صلى أو صام، فإن خطاب التوحش التكفيري يميز عبادة “التكفير” جيدا ويقول إنها “حكم شرعي”.
بمعنى، كما يقول ابن تيمية، أحد أكبر هواة التكفير في التاريخ الإسلامي: “الإسلام والكفر محلّهما الشرع”؛ أي أن “الحاكم الشرعي” ليس له أن يعفو عن “الكافر”، فالتكفير ليس من حقه الشرعي، إنما هو حق شرعي لله وللرسول.
اقرأ أيضا: “الأصولية” في الديانات الثلاث: مدخل (الجزء الأول)
ولأن نصوص التوحش تمارس وظيفتها على أنها عبادة شرعية، فلا يمكن أبدا التهاون في أدائها لدى هؤلاء، فهي مثل أداء الصلاة تماما لديهم. وهل من أحد يمكنه توقيف أداء الصلاة؟ ذلك ما يجعل من التكفير ممارسة دينية لا يمكن توقيفها.
يقول ابن تيمية، أحد أكبر هواة التكفير في التاريخ الإسلامي: “الإسلام والكفر محلّهما الشرع”؛ أي أن “الحاكم الشرعي” ليس له أن يعفو عن “الكافر”، فالتكفير ليس من حقه الشرعي، إنما هو حق شرعي لله وللرسول.
الذي يحدث أن النص المتوحش، حتى يتمكن من أداء فريضته هذه، يسعى إلى امتلاك السلطة. كل النصوص المتوحشة جاءت في سياقات مقترنة بالسلطة السياسية، تروم تملك قوة الأمر والتنفيذ…
الخطورة كلها، كمنت إذن -وما زالت- في رسمها للسلطة.
إنها أكثر من مجرد اجتهادات فقهية أو عقائدية. إنها مشاريع سياسية، أو على الأقل مرتبطة بالسياسة، كما هو الحال مع أبي حامد الغزالي، الذي كتب “فضائح الباطنية” ليرسم السياسة السلجوقية في حربها ضد الفاطميين.
وليت هذه النصوص كتبت فاندثرت بانتهاء الآنيّ الذي كتبت من أجله…
يضرب الديري مثالا ببيان أصدرته جمعية الأصالة البحرينية، عام 2015، عنونته: “التأصيل الشرعي لعاصفة الحزم”… بيان هذه الجمعية السلفية الموالية للحكومة البحرينية، أخذ صفحة كاملة في جريدة الوطن، المحسوبة على الديوان الملكي.
اقرأ أيضا: علي اليوسفي: البعد الشيطاني* للخطاب الديني 1\3
مما ورد في ذلك البيان:
“قتال الحوثيين داخل في باب القيام بواجب الجهاد قمعا لأهل الظلم والفساد، ولما اشتملت عليه أحوالهم من الفساد والإفساد، ومعاداتهم للإسلام وأهله، وتحالفهم مع أعداء الدين وخروجهم على أولياء أمور المسلمين. فكل هذا وغيره مما يوجب جهادهم. كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، إن هؤلاء وجنسهم من أكابر المفسدين في أمر الدنيا والدين…”.
واضح إذن أن البيان المذكور هنا، يستعير دون مركب نقص أدوات ومصطلحات نصوص التوحش، ويحيل الحرب السياسية إلى حرب دينية!
كل النصوص المتوحشة جاءت في سياقات مقترنة بالسلطة السياسية، تروم تملك قوة الأمر والتنفيذ… الخطورة كلها، كمنت إذن -وما زالت- في رسمها للسلطة.
في كتابه “نصوص متوحشة”، الذي نخوض فيه ضمن هذا الملف، يحاول الديري تفسير السياق التاريخي والسياسي الذي مكّن نصوص التوحش من شرعيتها الدينية ومن تثبيت أطروحاتها ضمن الحس الإسلامي العام.
فرضيته في ذلك أن نصوص التوحش ترتبط بحركة السلاجقة ووصولهم إلى بغداد في القرن الخامس الهجري.
لا يعني هذا أن التكفير موضوع استجد في هذه الفترة. لكن الباحث يرى أن التكفير صار سياسة ممنهجة ضمن إدارة الدولة ومصالحها منذ ذاك، وهذا لا يعني بأي حال أن السلاجقة اخترعوا التكفير، أو المعنى الأحادي للسّنة.
اقرأ أيضا: حركة الحشاشين…أخطر حركة ثورية عرفها التاريخ الإسلامي؟ 4/1
السلاجقة، بالمناسبة، استعانوا بجيش من الفقهاء والقضاة والعلماء والخطباء والمحدثين، لتثبيت مهمتهم الدينية المتمثلة في الدفاع عن “السنة” كما تخدم أهدافهم، وقد وجدوا أن هذه المهمة تعطي لوجودهم الشرعية، وتعطي لحروبهم ضد أعداء الخلافة العباسية شرعية مضاعفة.
أما هم، فكانوا في الحقيقة جماعات قتالية، أخذتهم شهوة الجهاد وأعطوا لـ”السنة” مفهوما أحاديا وقطعيا لا يقبل التعدد والاختلاف، فصارت إيديولوجيا جهادية مشبعة بشهوة القتل وغريزة التوحش.
باختصار… النصوص المتوحشة أنتجت في سياقات تاريخية سياسية كانت تتصارع حول شرعية الخليفة، كما أن إعادة إحيائها من جديد في العصر الحديث، كان بإيعاز من ظروف سياسية أيضا.
اقرأ أيضا: أحمد المهداوي يكتب: دوجماطيقية الخطاب الديني
أسماء كثيرة هي التي صاغت خطاب التكفير في التراث الإسلامي، منها الغزالي في كتابيه “فضائح الباطنية” و”الاقتصاد في الاعتقاد”، وابن تومرت في كتابه “أعز ما يطلب”، وابن تيمية في كتابه “العقيدة الواسطية”… وهذا الكتاب بالضبط، هو أهون كتب ابن تيمية، فمجمل ما خطه مبني على خطاب التكفير.
هذه الأسماء، أمثلة، نتابع حكاياتها مع إنتاج التوحش، مفصلة، ابتداء من الجزء الثاني.
في الجزء الثاني، نتابع كيف أسس أبو حامد الغزالي لخطاب التكفير في التراث الإسلامي.
لقراءة الجزء الثاني: “نصوص متوحشة”: هكذا أسس أبو حامد الغزالي لخطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/2
لقراءة الجزء الثالث: “نصوص متوحشة”: هكذا وضع ابن تومرت لمسته على خطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/3
لقراءة الجزء الرابع: “نصوص متوحشة”: هكذا وطّد ابن تيمية خطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/4
الاسلم لايكفر احدا