“نصوص متوحشة”: هكذا وضع ابن تومرت لمسته على خطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/3 - Marayana - مرايانا
×
×

“نصوص متوحشة”: هكذا وضع ابن تومرت لمسته على خطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/3

في هذا الجزء الثالث، نستعرض نموذجا آخر من نصوص التوحش، كتاب اسمه “أعز ما يطلب”، كتبه ابن تومرت، رجل دولة الموحدين الأول.

نواصل في هذا الملف عرضنا لكتاب الباحث البحريني أحمد علي الديري، “نصوص متوحشة”، الذي يحاول فيه، كما رأينا في الجزء الأول، تفسير السياق التاريخي والسياسي الذي مكن خطاب التكفير من شرعيته الدينية ومن تثبيت أطروحاته ضمن الحس الإسلامي العام.

تابعنا في الجزء الثاني حكاية أبي حامد الغزالي مع “التوحش”، وتأسيسه لخطاب تكفيري “مُحْكم” ما زال البعض يستغله إلى اليوم كـ”أحكام شرعية” في لحظات الصراع السياسي.

في هذا الجزء الثالث، نستعرض نموذجا آخر من نصوص التوحش، كتاب اسمه “أعز ما يطلب”، كتبه ابن تومرت، رجل دولة الموحدين الأول.

ولد ابن تومرت المهدي عام 473هـ وتوفي عام 524هـ. كان فقيها مغربيا، عاش في ذات الفترة التي حكم فيها السلاجقة بغداد.

… حتى يكتسب مشروعيته العلمية كداعية أو فقيه، راح في رحلة إلى المشرق، مهد الإسلام، ليدرس هناك، حيث التقى بكثير من علماء العقيدة الذين تتلمذ على أيديهم لما يناهز 10 سنوات.

اقرأ أيضا: خيرونة الفاسية… “زعيمة” المذهب الأشعري بالمغرب

هناك حديث عن لقاء جمعه بالغزالي، كما يذكر ابن خلدون، لكنه غير مؤكد في جل المراجع التاريخية. ربما يكون هذا اللقاء المزعوم مختلقا لتعزيز مكانته الروحية وإغناء رحلته المشرقية.

أما الثابت، فكونه تشبع بروح مدرسة الغزالي، إذ التقى بعلماء يحملون عقيدة هذه المدرسة الأشعرية ويجيدون توظيفها السياسي… ما يهمنا، أن هذه الرحلة المشرقية كونت مفهوم ابن تومرت للسّنة.

يضم “أعز ما يطلب” نصوصا تكفيرية متوحشة، وضعت منهاجا للدولة الموحدية في التعامل مع المختلفين معها، حيث سنجد شرعنة للقتل وسفك الدماء، الذي اتبعته الدولة ضد خصومها.

في رحلته، ذهب ابن تومرت حاملا لِهَمّ الخلافات والتفككات والتهديدات التي يغرق فيها المغرب. من هنا، فكر في مشروع “إنقاذي” كبير… في تأسيس دولة بالمغرب.

مشروع توحيدي يتطلب ابتكار فهم واحد للإسلام والعقيدة والسنة، يجمع جميع المسلمين… أو كما تقول نظرية ابن خلدون: تقوم الدولة على العصبية القبلية والعقيدة الواحدة.

اقرأ أيضا: موقع الدين في نظام الحكم بالمغرب: إمارة المؤمنين، حكاية البدايات.. 2/1

ابن تومرت، كما يشخصه الحافظ الذهبي في “العبر في خبر من غبر”، كانت “لذته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، ولكن جره إقدامه وجرأته إلى حب الرياسة والظهور، وارتكاب المحظور”.

العدو الداخلي لابن تومرت كان المرابطين من جهة، والفقهاء المالكيين من جهة أخرى إذ ينازعونه مشروعية السّنة نفسها.

في تلك الفترة، كان المذهب المالكي مسيطرا. لذا، سيحتاج ابن تومرت إلى صناعة نصوص تكفيرية متوحشة على مقاس عدوه.

هكذا، سيعلن عقيدة متشددة فيما يخص التعالي الرباني والتوحيد الإلهي، وسيبلور مفهوما احتكاريا للتوحيد، حد أن أطلق على جماعته “الموحدون”، بوصفها الجماعة التي تعتنق التوحيد الصحيح.

اقرأ أيضا: أبو القاسم الجنيد، منبع الصوفية في المغرب

من هنا، سيصبح ابن تومرت أحد منتجي نصوص التوحش!

بدأ ابن تومرت بتحديد الإيمان الصحيح. بناء عليه، شرع في دعوته وخاض مناكفته للدولة المرابطية موظفا مفهومه للسنة والألوهية توظيفا سياسيا.

هذا المفهوم والتوظيف سيبلوره عبر خطبه ورسائله وكتبه ومناظراته، التي ستجمع حين تتمكن دعوته من تكوين دولة، في كتاب أطلق عليه “أعز ما يطلب”.

عرف المرابطون بعادات قبلية وثقافية كانوا يغطون من خلالها وجوههم، وقيل لتلافي غبار الصحراء. أيا يكون السبب، أعطى ابن تومرت لهذه الممارسة الثقافية حكما دينيا، اعتبر فيه المرابطين كفارا لأنهم يتشبهون بالنساء.

“أعز ما يطلب” كان دستور الدولة الموحدية. هذا الكتاب، فيما اعتقد هؤلاء، كان يضم المفهوم الصحيح للسنة والألوهية، وللعقيدة التي ستوحد الأمة، وكان يطلب من الجميع دراسته وحفظه ونشره.

ترك ابن تومرت لجماعته هذا الكتاب إرثا وخارطة طريق ثم توفي. لم يكن قد حقق انتصارات سياسية بعد، لكن عبد المؤمن بن علي الكومي، وهو أحد تلامذته، سيأخذ عنه المشعل ليحققها فيما بعد.

يضم “أعز ما يطلب” نصوصا تكفيرية متوحشة، وضعت منهاجا للدولة الموحدية في التعامل مع المختلفين معها، حيث سنجد شرعنة للقتل وسفك الدماء، الذي اتبعته الدولة ضد خصومها.

اقرأ أيضا: زينب النفزاوية: زوجة ابن تاشفين ومهندسة توسع دولة المرابطين! 2/1

مثلا، عرف المرابطون بعادات قبلية وثقافية كانوا يغطون من خلالها وجوههم، وقيل لتلافي غبار الصحراء. أيا يكون السبب، أعطى ابن تومرت لهذه الممارسة الثقافية حكما دينيا، اعتبر فيه المرابطين كفارا لأنهم يتشبهون بالنساء.

بدل أن يفهم ابن تومرت العادات والتقاليد الخاصة بالمرابطين على أنها علامة ثقافية تميزهم، نجده يخرجها تخريجات تضعهم في باب الكفر، ويؤولها كخروج عن السنة والإسلام، ومن ثم يجب قتلهم.

عنف هذه النزعة التكفيرية لم يخف إلا بعدما استتب الأمر للدولة الموحدية، وقام عبد المؤمن بتحوير مدلول التوحيد، بحيث أصبح موحدا كل من أعلن ولاءه السياسي للدولة الموحدية.

هكذا، في حين يقدم ابن تومرت كتابه بوصفه فاتحا لأبواب العلم الذي يجعله الله سبب الهداية إلى كل خير (أعز ما يطلب)، كان كتابه في الحقيقة يفتح أبواب جهنم على المرابطين.

مما يدل على ذلك، عناوين أبواب كتابه: “في وجوب بغضهم ومعاداتهم على باطلهم وظلمهم”، “في وجوب جهادهم على الكفر والتجسيم وإنكار الحق واستحلال دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم”، “في وجوب جهاد من ضيع السنة ومنع الفرائض”، “في وجوب جهادهم على ارتكاب المناكر والفجور وتماديهم على ما لا يؤمرون به”.

اقرأ أيضا: التكفير والتطرف… من ابن تيمية إلى محمد بن عبد الوهاب وسيد قطب. أصل المأساة!

يستعمل في ذلك، بالمناسبة، الكثير من الآيات والأحاديث ليدخل المرابطين في قوائم الزيغ والضلال والكفر، على نحو يصل إلى حد التضحية بقواعد نصوصها واضحة.

مثلا، تأويله نص “إن من قال لا إله إلا الله فقد عصم ماله ونفسه”؛ بحيث عوض أن يكون نصا يحمي الآخرين، يستحيل إلى نص يبيح قتلهم.

من هنا، يتحول الخلاف العقائدي إلى تكفير… ثم إلى تقتيل.

بسبب هذا النص المتوحش، قتل الآلاف “حتى انتن البلد من ريح الموتى”، كما يصف ذلك ابن الأثير في قصة ذات صلة يوردها في “الكامل في التاريخ”.

جدير بالذكر أنه في مقابل خطاب ابن تومرت التكفيري، شن فقهاء المالكية حملة شعواء ضد الموحدين، واعتبروهم من الخوارج بسبب عنفهم وخطابهم التكفيري لأهل السنة.

الذي يهمنا أنه بسبب هذا النص المتوحش، قتل الآلاف “حتى انتن البلد من ريح الموتى”، كما يصف ذلك ابن الأثير في قصة ذات صلة يوردها في “الكامل في التاريخ”.

أكثر من هذا النص، يقول الحافظ الذهبي في “تاريخ الإسلام”: “وكان في وصيته (ابن تومرت) إلى قوم إذا ظفروا بمرابط أو أحد من تلمسان أن يحرقوه”!

اقرأ أيضا: “المخزن”… تاريخ طويل من الأسئلة! (الجزء الأول)

عنف هذه النزعة التكفيرية لم يخف إلا بعدما استتب الأمر للدولة الموحدية، وقام عبد المؤمن بتحوير مدلول التوحيد، بحيث أصبح موحدا كل من أعلن ولاءه السياسي للدولة الموحدية.

من المفارقات الغريبة أن ابن تيمية وتلميذه الذهبي يستنكران على ابن تومرت ودولته، سفك دماء المسلمين، وهما اللذان بعدما جاءا بعد وفاة ابن تومرت بأكثر من 130 عاما، أنتجا نصوصا أكثر توحشا.

الذي حدث أن ابن تومرت كان ينفي صفات البشر عن الله (السمع، البصر…)، وابن تيمية يؤمن بها… اختلاف كاف للوسم بالكفر لدى هؤلاء!

في الجزء الرابع، نتابع كيف وطد ابن تيمية خطاب التكفير في التراث الإسلامي.

لقراءة الجزء الأول: “نصوص متوحشة”… عن خطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/1

لقراءة الجزء الثاني: “نصوص متوحشة”: هكذا أسس أبو حامد الغزالي لخطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/2

لقراءة الجزء الرابع: “نصوص متوحشة”: هكذا وطّد ابن تيمية خطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/4

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *