علي اليوسفي: أين يكمُن البعد الشيْطانيُّ للخطاب الديني؟ 2\3
إن الإيمان مثله مثل الحب، لا يُملى من الخارج ولا يُفرض بالعصي والهراوات، وإنما ينبعث من حاجة روحية حميمية لا دخل للغير فيها.
طرحنا في الجزء الأول أرضية النقاش حول تناقضات الخطاب الديني في بعده المتطرف والإقصائي للمختلف.
في هذا الجزء الثاني، سنتابع تفكيك جزء من مكونات هذا الخطاب الديني في أبعاده التي تستغل الدين سياسيا من خلال سعيها لشيطنة الآخر المختلف.
إن الأصل في الدين الاختيار كما ينص على ذلك القرآن في أكثر من آية[1]: “إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين”، (القصص، آية 56)، “ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا، أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”، (يونس، الآية 99).
إن الإيمان بهذا المعنى مثله مثل الحب، لا يُملى من الخارج ولا يُفرض بالعصي والهراوات، وإنما ينبعث من حاجة روحية حميمية لا دخل للغير فيها.
لعل الأرض اعتنقت الإسلام أيضا، وبالتالي فإن من لم يتماه معها مجبر على الرحيل أو الهجرة
وكما أن من يُفرض عليه الزواج قد يتعايش ويألف الطرف الثاني فيستلم للأمر الواقع، وقد تجبره إكراهات اجتماعية واقتصادية على عدم الطلاق وقضاء ما تبقى من حياته تعيسا، فإن من يُفرض عليه الدين قد يستسلم للأمر الواقع تحت ضغط الإكراه والتخوين والتكفير والترهيب المادي والمعنوي. لكن الإيمان لن يدخل قلبه، علما أن الإيمان هو الذي سيغير الأخلاق وليس الاستسلام، ولا التظاهر بالإسلام. “قالت الأعراب آمنا، قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم…”، (الحجرات، 14). فهذا الإسلام تحت الإكراه هو الذي حول مجتمعاتنا إلى مجتمعات نفاق وكذب على الذات والآخر.
اقرأ أيضا: حسين الوادعي يكتب: خدعوك فقالوا: الغرب متقدم مادياً، لكننا متقدمون أخلاقياً!
والأدهى من كل ذلك أن حملة الخطاب الديني لم يستوعبوا هذه الأبجديات، إذ لا يفتأون يرفعون حناجرهم بالتباكي على الأخلاق الإسلامية، والحرص على الدود على حمى الوطن… يقصدون الأرض لأنه لا وطن بدون مواطنين، ولا مواطنين بدون حرية وقدرة على الاختيار والنقد والاعتراض.
بأي حق أو تفويض يستطيع شخص، أو حزب أو جماعة أن ينصب نفسه ممثلا للدين ولله فيحاسب الناس ليس على أفكارهم وإنما بناء على معتقداتهم التي تندرج ضمن حميمية حميميتهم؟
ولعل الأرض اعتنقت الإسلام أيضا، وبالتالي فإن من لم يتماه معها مجبر على الرحيل أو الهجرة، وهذا ما دعا إليه داعية إسلامي مُسخ سياسيا قبل بضعة سنوات عندما قال بـ”الفم المليان”: “هاد البلاد بلاد مسلمة واللي ماعجبوش الحال إمشي يقلب على شي أرض خْرى”.
هل هناك أكثر ترهيبا وإقصاء من مثل هذا الكلام، خاصة عندما يتفوه به “مسؤول” سياسي من “الحجم الكبير” [أقصد الحجم بمعناه الأول] ركب موجة الإسلام “ليتعلم الحِجامة في رؤوس اليتامى”.
اقرأ أيضا: هل ستنهار الأخلاق من دون الإيمان والدين؟
وما دام حملة هذا الخطاب يفتقرون للحجة والبرهان والإقناع العقلي عند نقاش قضايا المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية، فإنهم سرعان ما يحاولون جر كل نقاش فكري أو سياسي أو مجتمعي إلى مستنقع الكفر والإيمان، فيلجؤون إلى التجييش العاطفي منصبين أنفسهم الناطق الرسمي باسم الدين والوطن والمواطنين، وما عداهم شيطان رجيم يريد زعزعة عقيدة المسلمين.
إن حملة هذا الخطاب يعتقدون عن وعي أو لا وعي أن الوطن غنيمة لهم وأن المواطنين سبايا لا حركة ولا سكنة لهم إلا بإذنهم!
هكذا يحارب الخطاب الدينيُّ خطابَ الحداثة ليس بتفكيكه وبيان فشله في إخراج الناس من أوضاعهم البئيسة، وإنما بشيطنته وإصدار أحكام قيمة بالجملة في حقه من قبيل العمالة للغرب، وخدمة مصالح الصهاينة، وزعزعة ثوابت الأمة ونشر الدعارة والفساد، إلخ.
لذلك، لا غرابة أنه، عندما احتدم نقاش الحريات الفردية في المغرب على إثر ما أصبح يعرف بقضية “هاجر الريسوني“، ظهر على الناس من يُسائل المنافحين عن هذه الحريات عما إذا كانوا مسلمين، وفي هذا السؤال تكفير مبطن لأنصار الحريات الفردية. فبأي حق أو تفويض يستطيع شخص، أو حزب أو جماعة أن ينصب نفسه ممثلا للدين ولله فيحاسب الناس ليس على أفكارهم وإنما بناء على معتقداتهم التي تندرج ضمن حميمية حميميتهم؟
إن حملة هذا الخطاب يعتقدون عن وعي أو لا وعي أن الوطن غنيمة لهم وأن المواطنين سبايا لا حركة ولا سكنة لهم إلا بإذنهم!
وإذا كانت مثل هذه الدعوات لم تفلح على امتداد أربعة عشر قرنا في تمكين الإيمان من قلوب شرائح عريضة، على الرغم من الأموال التي رصدت لها خاصة منذ منتصف القرن العشرين، وعلى الرغم من كل الجمعيات الدعوية التي مُسخت أحزابا سياسية ما فتئت تنهل من الفساد الذي طالما شتمته حتى انكشفت عوراتُها التي طالما جَلْبَبَتْها، وعلى الرغم من كل فيالق شرطة الأخلاق والجواسيس وخطب التكفير وإحراق الكتب ومنع الجرائد والمجلات، وكل الترسانات القانونية والعقوبات الزجرية، فإن في ذلك ما يؤكد ما ذهبت إليه الآية القرآنية: “إنَّكَ لا تَهدي مَنْ أحبَبْت، ولكنَّ الله يَهدي مَن يَشاء وهو أعلم بالمهتدين” [القصص، آية 56].
اقرأ أيضا: إعدام الكتب في التاريخ الإسلامي… حكايات مثيرة لشخصيات فضلت في الأخير إطعام كتبها للنار
الأفظع من هذا أن خطاب الإقصاء هذا، الذي يتحول في أحايين كثيرة إلى خطاب تكفير مبطن أو معلن، والذي يخدم مصالح بعض الأنظمة السياسية، لا يهدف إلى إدخال الناس إلى الجنة، لأنه لا يمكن أن يُساق الناس إلى الجنة على حد السيوف، كما أنه لا يُعقَل أن من يقيد حريات الناس ويَكبُتُ أنفاسهم، يمكن أن يُحِبَّ لهم الخير إن في الدنيا أو في الآخرة؛ وإنما هدف هؤلاء، كما لا يخفى على لبيب، هو إخضاع الناس سياسيا واجتماعيا والتحكم في أعناقهم وأرزاقهم وعقولهم وعواطفهم.
فأين يكمُن البعد الشيْطانيُّ للخطاب الديني؟
سؤال سنواصل معه تفكيك الخطاب الديني في بعده الشيطاني، في الجزء الثالث والأخير من هذا المقال.
[1] “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنَّا اعتدنا للظالمين نارا”، (الكهف، آية 29)