“علم النفس” الشعبي… “مرتع الخرافات” 1\3
بالنسبة لكثير منا، هذه الخرافات من قبيل البديهيات المسلم بها؛ ذلك أن معلمينا وآباءنا وأمهاتنا، جعلوها مأثورات وأكدوا لنا صحتها، حتى أصبح حدسنا وتجاربنا الحياتية يقران ما تنطوي عليه من “حكمة”… لكن الأبحاث النفسية، تقول إنها كلها، بفهمها الشائع بين الأفراد، خاطئة غالبا أو تماما.
لا شك أنك حين زرت مكتبة ما، لاحظت وجود المئات من الكتب، التي تزعم تقديم نصائح تساعدنا على توجيه خطواتنا على درب الحياة الوعر.
وسائل الإعلام، من جهتها، تمطرنا كل يوم بوابل من الادعاءات التي تخص علم النفس. كما نجد على الإنترنت معلومات لا حصر لها، موجهة لأولئك الذين يفضلون الحصول على نصائح نفسية مجانا.
الخطير في خرافات علم النفس الشعبي، أنها لا تكتفي بإمدادنا بمعلومات خاطئة عن الطبيعة البشرية؛ إنها أكثر من ذلك، يمكن أن تؤدي بنا إلى اتخاذ قرارات حمقاء في حيواتنا اليومية.
مع ذلك، قد يدهشك أن كثيرا مما نعتبره من علم النفس، ليس كذلك. رغم وجود مصادر عديدة لعلم النفس الشعبي، إلا أنها تعج بالخرافات والمفاهيم المغلوطة.
اقرأ أيضا: إدمان التكنولوجيا الرقمية: صناعة تستعبدنا ولها مخاطر أم أن المخاطر مجرد ادعاء؟
في عالم سريع الإيقاع يتسم بتدفق لا حد له للمعلومة، تنتشر المعلومات المغلوطة عن علم النفس، تقريبا بنفس القدر الذي تنتشر به المعلومات الصحيحة.
خرافات نفسية مشهورة
هكذا، كثيرا ما نجد أنفسنا تحت رحمة خبراء التنمية الذاتية وخبراء الصحة النفسية المزعومين على موجات الراديو وفي برامج التلفزيون.
كثير من هؤلاء يشيع نصائح تتعلق بعلم النفس، هي في الأساس خليط مضلل من الحقائق والأكاذيب… من ثم، دون مرشد جدير بالثقة لتمييز الخرافة النفسية من الحقيقة، نصبح عرضة للضياع وسط أدغال المفاهيم المغلوطة.
الخطير في خرافات علم النفس الشعبي، أنها لا تكتفي بإمدادنا بمعلومات خاطئة عن الطبيعة البشرية؛ إنها أكثر من ذلك، يمكن أن تؤدي بنا إلى اتخاذ قرارات حمقاء في حيواتنا اليومية.
مثلا، قد تجعل البعض يعتقد فعلا أن الأضداد تتجاذب في العلاقات العاطفية، فيمضي حياته في البحث عن رفيق الروح، الذي تختلف صفاته الشخصية وقيمه اختلافا تاما عن صفاته وقيمه؛ ليكتشف، بعد فوات الأوان، أن مثل هذا “التوافق” نادرا ما ينجح.
اقرأ أيضا: بين الأسطورة والعلم… لماذا تحدث لنا الأشياء السيئة في الواقع؟ 4/4
للمفاهيم العلمية المغلوطة أربع خصائص: أنها أفكار ثابتة وراسخة عن العالم؛ أنها تتناقض مع أدلة تثبت صحتها؛ أنها تؤثر في الطريقة التي يفهم بها الناس العالم؛ أنه لا بد من تصحيحها للوصول إلى المعرفة الصحيحة.
الفيلسوف أرسطو، الذي يعتبر واحدا من أذكى البشر، كان يظن أن المشاعر تنبع من القلب لا من العقل، وأن النساء أقل ذكاء من الرجال، بل وأن عدد الأسنان عند النساء أقل منها عند الرجال!
هذه الخاصية الرابعة، هي تحديدا هدف كتاب “أشهر 50 خرافة في علم النفس”[1]، الذي يروم هدم الأفكار الخاطئة الشائعة حول سلوك الإنسان، والذي نأخذ منه هذه النتف في 3 أجزاء، لنتعرف على بديهيات شعبية، تقول الأبحاث النفسية بخطئها في الواقع.
لعلك سمعت يوما بأمثال من قبيل: الأضداد تتجاذب؛ العصا لمن عصى؛ الألفة تجلب الاستخفاف؛ الأمان في الكثرة.
بالنسبة لكثير منا، هذه الأمثلة من قبيل البديهيات المسلم بها؛ ذلك أن معلمينا وآباءنا وأمهاتنا، أكدوا لنا صحة هذه المأثورات، فأصبح حدسنا وتجاربنا الحياتية يقران ما تنطوي عليه من “حكمة”.
اقرأ أيضا: عن التزامن: فكرت فجأة في شخص لم تره منذ ثلاثين عاما، ثم في ذلك اليوم، حدث أن رأيته… كيف حدث ذلك؟ 2/1
مع ذلك، تثبت الأبحاث النفسية أن الأمثال الأربعة كلها، بفهمها الشائع بين الأفراد، خاطئة غالبا أو تماما؛ فـ:
- الأضداد لا تتجاذب في العلاقات العاطفية. خلاف ذلك، ننجذب إلى الأفراد الذين يشبهوننا في الشخصية والمواقف والقيم؛
- التخلي عن العقاب البدني لا يفسد الأطفال. خلاف ذلك، كثيرا ما يخفق العقاب في التأثير على سلوكهم تأثيرا إيجابيا؛
- الألفة تجلب الراحة، لا الاستخفاف؛ لأننا نفضل الأشياء المألوفة على الأشياء التي لم نألفها؛
- في الكثرة يوجد عادة الخطر، لا الأمان؛ فاحتمال إنقاذ شخص يوجد في خطر، يزيد عندما يشاهده شخص واحد فقط، لا عدد كبير من عابري السبيل الذين قد لا ينتبهون له وللخطر المحدق به، أو الذين قد يجعلونه موضوع فرجة لا أكثر.
الذكاء لا يحمي من الخرافة
علماء النفس يطلقون في العادة على هذه المجموعة الكبيرة من المعلومات الخاطئة اسم “علم الأساطير النفسية”؛ ذلك أنها تتكون من مفاهيم مغلوطة وقصص مثيرة وحكايات خيالية.
على أنه، إذا اعتقدت فيما سبق بهذه الخرافات، فليس ثمة في الأمر أي حرج… توضح بعض الدراسات الأمريكية أن طلاب علم النفس المبتدئين نفسهم كانوا يصدقونها؛ بل بعض أساتذة علم النفس أيضا.
جزء كبير من علم النفس اليوم يتكون مما أسماه عالم النفس الأمريكي بول ميل “استنتاجات شخصية”؛ أي افتراضات خاصة بالسلوك الإنساني تقوم على الحدس فقط.
وإذا كنت ما زلت لا تشعر بالاطمئنان حيال معدل ذكائك في علم النفس، فعليك فقط أن تعرف أن الفيلسوف أرسطو، الذي يعتبر واحدا من أذكى البشر، كان يظن أن المشاعر تنبع من القلب لا من العقل، وأن النساء أقل ذكاء من الرجال، بل وأن عدد الأسنان عند النساء أقل منها عند الرجال!
أخطاء أرسطو هذه، إن كان لها أن تفتح أعيننا على حقيقة ما، فهي أن تذكرنا بأن درجة عالية من الذكاء، لا تقي الإنسان من تصديق خرافات علم النفس.
اقرأ أيضا: حسين الوادعي: هل يكون التدين المفرط مرضاً نفسيا؟
في الواقع، جزء كبير من علم النفس اليوم يتكون مما أسماه عالم النفس الأمريكي بول ميل “استنتاجات شخصية”؛ أي افتراضات خاصة بالسلوك الإنساني تقوم على الحدس فقط.
صحيح أن للحدس أهمية بالغة في وضع الفرضيات. لكن هذه الفرضيات تحتاج للتدقيق باستخدام مناهج البحث العلمية… أما إذا اتخذنا الحدس نفسه وسيلة لتحديد مدى صحة تلك الفرضيات، فالنتيجة غالبا تكون ما يزخر به علم النفس الشعبي اليوم من خرافات.
فهل نستخدم فعلا 10 بالمائة فقط من قدراتنا العقلية؟ هل يفضل التعبير عن الغضب مباشرة عند الغضب فعلا عوض كبته داخلنا؟ هل فعلا يتواصل الرجال والنساء بشكل مختلف تماما على نحو يجعلهم لا يفهمون بعضهم البعض دائما؟ هل يميل الناس فعلا إلى الإتيان بسلوكيات غريبة في أوقات اكتمال القمر؟
ذاك ما سنجيب عليه ببعض من التفصيل في الجزء الثاني والثالث من هذا الملف.
لقراءة الجزء الثاني: هذه بعض من أشهر الخرافات في علم النفس الشعبي! 3/2
لقراءة الجزء الثالث: هذه بعض من أشهر الخرافات في علم النفس الشعبي! 3/3