إعدام الكتب في التاريخ الإسلامي… حكايات مثيرة لشخصيات فضلت في الأخير إطعام كتبها للنار 3/3
لم تكن الكتب على امتداد التاريخ الإسلامي ضحية لاضطهاد السلطة السياسية وحسب، بل حدث أيضا -لأسباب متعددة، أبرزها نفسية- أن أطعمت شخصيات كثيرة كتبها للنار بملء إرادتها، كما نتابع ذلك في هذا الجزء الثالث والأخير.
لنكون منصفين، لا بد من القول إن الكتب المعدمة على امتداد التاريخ الإسلامي، لم تكن ضحية لاضطهاد السلطة السياسية وحسب كما تابعنا في الجزء الثاني، بل حدث أيضا -لأسباب متعددة، أبرزها نفسية- أن أطعمت شخصيات كثيرة كتبها للنار بملء إرادتها، كما سنتابع ذلك في هذا الجزء الثالث والأخير.
الماوردي
أبو الحسن علي بن محمد البصري الماوردي، واحد من أشهر القضاة في العصر العباسي. ولي القضاء في عدة بلدان قبل أن يتوفي عام 450هـ في بغداد. ألف عددا من الكتب، أبرزها “الأحكام السلطانية” و”الإقناع” و”أدب الدنيا والدين” و”قانون الوزارة وسياسية الملك”.
للماوردي حكاية متفردة مع كتبه، التي لم يظهرها للناس في حياته، يرويها اليافعي في “مرآة الجنان وعبرة اليقضان”، والصفدي في “الوافي بالوفيات”.
كان التوحيدي أديبا بارعا امتاز بسعة الثقافة وحدة الذكاء وجمال الأسلوب، حتى إنه لقب بـ”فيلسوف الأدباء”، ومن أبرز كتبه “الإمتاع والمؤانسة”. أبو حيان كان قد أحرق كتبه في آخر عمره، ثم ترك رسالة يوضح فيها أسباب ذلك.
الذي حدث أنه لما دنت وفاته، قال لشخص يتولاه إن الكتب التي توجد في الموضع الفلاني من تأليفه، ولم يظهرها سابقا لأنه لم يجد نية خالصة لله… ثم طلب منه أن يضع يدَه في يدِه قبل موته.
اقرأ أيضا: حركة الحشاشين…أخطر حركة ثورية عرفها التاريخ الإسلامي؟ 4/1
على أنه، إذا لم يقبض عليها، يعلم أنها قبلت وظفر بما كان يرجوه، وإذا قبضها بشدة، يعلم أنها لم تقبل وعليه أن يلقيها في نهر دجلة.
فعل الموصى ما طلب منه الماوردي… لكن، لم يقبض على يده، فعلم أنها علامة قبول، فظهرت كتبه بعد وفاته.
سفيان الثوري
ولد عام 97هـ، وتوفي عام 161هـ (تاريخ مرجح)، ويقدمه الحافظ الذهبي في “سير أعلام النبلاء” قائلا: “هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه”.
روى الثوري الكثير من الأحاديث المنسوبة إلى النبي عن أبيه سعيد بن مسروق الثوري، الذي يعد في الأدبيات الفقهية من “صغار التابعين”، كما قيل إنه جمع الحديث عن 600 شيخ، وبالغ في ذلك ابن الجوزي وقال 20 ألف شيخ.
دعا أبو عمرو الكوفي بكتبه عند الموت فمحاها فسئل عن ذلك، فقال: “أخشى أن يليها قوم يضعونها غير موضعها”.
الثوري ممن أعدموا كتبهم، إذ يروى عن الأصمعي أن “الثوري أوصى أن تدفن كتبه، وكان ندم على أشياء كتبها عن قوم”.
كما يروى عن أبي سعيد الأشج أنه قال: “سمعت أبا عبد الرحمن الحارثي يقول: دفن سفيان كتبه فكنت أعينه عليها فدفن منها كذا وكذا قمطرة[1] إلى صدري، فقلت: يا أبا عبد الله! قال خذ ما شئت. فعزلت منها شيئا كان يحدثني منه”.
أبو عمرو الكوفي
عبيدة بن عمرو، مخضرم أسلم في عهد النبي محمد، لكنه لم يلقه البتة، وقد توفي عام 27هـ.
روى الكوفي عن عدد من الصحابة أحاديث مما ينسب إلى النبي، مثل علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود؛ وقد روى عنه هو أيضا الكثير من المحدثين، وقد أخرجت رواياته في الكتب الستة[2].
اقرأ أيضا: الوجه الآخر لصلاح الدين الأيوبي… كما رسمته المصادر الإسلامية السنية 1/5
يذكر ابن عبد البر في “جامع بيان العلم وفضله”، أن عبيدة دعا بكتبه عند الموت فمحاها فسئل عن ذلك، فقال: “أخشى أن يليها قوم يضعونها غير موضعها”.
الحقيقة أن الكوفي، وفق ما يؤكده ابن عبد البر، كان لا يتفق مطلقا مع كتابة العلم، وكان من كبار المتشددين في ذلك.
عروة بن الزبير
في الأدبيات الفقهية، يعد ابن الزبير واحدا من “كبار التابعين”؛ ذلك أنه كان واحدا ممن يعرفون بـ”فقهاء المدينة السبعة”، الذين اتخذهم عمر بن عبد العزيز مستشارين له فيما يعرض عليه من أمور حينما كان واليا على المدينة.
روى ابن الزبير عن عدد من الصحابة، مثل أبيه الزبير بن العوام وأخيه عبد الله بن الزبير، وكذا أمه أسماء بنت أبي بكر، وخالته عائشة.
يروى عن الأصمعي أن سفيان الثوري “أوصى أن تدفن كتبه، وكان ندم على أشياء كتبها عن قوم”.
لابن الزبير قصة ندم شديد؛ ذلك أنه أحرق كتبه ثم عاد فندم عما اقترفه.
يروى عن ابن أبي الزناد أنه قال: “كنا نقول لا نتخذ كتابا مع كتاب الله فمحوت كتبي، فوالله لوددت أن كتبي عندي…”.
اقرأ أيضا: التكفير والتطرف… من ابن تيمية إلى محمد بن عبد الوهاب وسيد قطب. أصل المأساة!
ذاك ما يؤكد ابن هشام بن عروة، الذي ذكر أن “أباه كان حرق كتبا فيها فقه، ثم قال: “لوددت أني كنت فديتها بأهلي ومالي”.
أبو حيان التوحيدي
عاش أبو حيان التوحيدي في العصر العباسي، وكان أديبا بارعا امتاز بسعة الثقافة وحدة الذكاء وجمال الأسلوب، حتى إنه لقب بـ”فيلسوف الأدباء”، ومن أبرز كتبه “الإمتاع والمؤانسة”.
يروى أن أبا حيان قد أحرق كتبه في آخر عمره، فكتب إليه قاض يدعى أبا سهل بن علي محمد، يؤنبه عن صنيعه، ويعرفه بقبح وشناعة ما اقترفت يداه، فرد عليه أبو حيان معتذرا:
“… التهب في صدرك الخبر الذي نمى إليك فيما كان مني من إحراق كتبي النفيسة بالنار وغسلها بالماء، فعجبت من انزواء وجه العذر عنك في ذلك، كأنك لم تقرأ قوله عز وجل: “كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون”، وكأنك لم تأبه لقوله تعالى: “كل من عليها فان””.
اقرأ أيضا: أشهر المتهمين بالإلحاد في التاريخ الإسلامي: ابن المقفع (الجزء الثاني)
أبو حيان يذكر في هذه الرسالة المنسوبة إليه، أنه اقتدى في ذلك بأئمة قال إنه أخذ بهديهم، وهم، يتابع في رسالته (ويمكن إضافتهم للأمثلة التي أوردناها):
- “وهذا داود الطائي، وكان من خيار عباد الله زهدا وفقها وعبادة، ويقال له تاج الأمة، طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول، وبلاء وخمول؛
- وهذا يوسف بن أسباط، حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحها فيه وسد بابه، فلما عوتب على ذلك قال: دلنا العلم في الأول ثم كاد يضلنا في الثاني، فهجرناه لوجه من وصلناه، وكرهناه من أجل ما أردناه؛
- وهذا أبو سليمان الداراني، جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال: والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك؛
- وهذا سفيان الثوري، مزق ألف جزء وطيرها في الريح وقال: ليت يدي قطعت من ها هنا ولم أكتب حرفاً؛
- وهذا شيخنا أبو سعيد السيرافي، سيد العلماء قال لولده محمد: قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار”.
[1] مفرد “قماطر”… رف تحفظ فيه الكتب.
[2] كتب السنة التي يعتبرها الفقهاء أمهات الكتب في الحديث. تسمى أيضا “الكتب الصحاح”، وهي كتب البخاري، مسلم، أبو داود، الترمذي، النسائي، ابن ماجة.
لقراءة الجزء الأول: إتلاف الكتب في صدر الإسلام… هذه حكاية نبذ العرب للكتابة 3/1
لقراءة الجزء الثاني: السلطة وإعدام الكتب في التاريخ الإسلامي… حكايات مروعة 3/2