هل يرقى التداول العام في المغرب اليوم إلى ما يسمى بـ”النقاش العمومي”؟
هل ما يحصل من تداول عام اليوم في المغرب، يمكن أن نطلق عليه “نقاشا عموميا”؟ إن كان كذلك فما الذي ينبغي لتجويده؟ وإن لا، فما الذي يلزم لتأسيسه؟
في الفلسفة السياسية اليوم، يعد القول بأن الديمقراطية حكم بالنقاش، فكرة مقبولة تماما وبشكل كبير…
الديمقراطية تستند أساسا إلى الحوار والنقاش العمومي والتشاور والحكم التشاركي؛ لا بالمعنى الضيق لهذه الفكرة، الذي قد يعني مشاركة الجميع في السلطة، إنما بالارتكاز إلى مشاورات سياسية بين جميع الأطراف في تدبير الشأن العمومي.
بدون نقاش عمومي يبدو من الصعب أن تنشأ وتنمو الديمقراطية… هذه الفكرة ليست وليدة اليوم، ولم تكن حبيسة الغرب فقط.
دستور القرن السابع لليابان، مثلا، يشير بوضوح إلى أنه “لا يجب أن نغضب لاختلاف الآخرين معنا، فلكل امرئ قلب ولكل قلب هوى… ذلك أن صوابهم خطؤنا، وصوابنا خطؤهم”.
اقرأ أيضا: إذا طالع العرب أنفسهم في مرايا يابانية، فهذا ما سيرونه… (الجزء الأول)
حيث انتشر الإسلام في البدء، أيضا، كانت هنالك نماذج حكم مستنيرة، خاصة في الأندلس، إذ حافظت على لحمة المجتمع واندماج الأقليات الدينية والإثنية، كما حافظت على حقوقها كاملة، بل ومن داخل بلاط السلطان أحيانا[1].
“تكرار كلمة الخصوصية والاستثناء وغيرها من العبارات، تمثل رفضا واضحا للعمومية بدلالتها الفلسفية… ولهذا، فإن أغلب قضايانا الكبرى، محسومة حتى قبل أن نطرحها للتفكير”.
النقاش العمومي بوصفه عمادا للديمقراطية، يعني التداول العام الذي قد تشترك فيه أطياف سياسية متعددة. بعبارة أخرى، تقصد به المشاركة السياسية بشكل عام. وهو ينبني على ما يعرف في الفلسفة بـ”الاستعمال العمومي للعقل”؛ أي المبادئ العامة والمجردة التي تسهم في تأسيس النقاش العمومي.
مفهوم النقاش العمومي يحظى في السنوات الأخيرة بانتشار واسع في المغرب، حيث يطفو على السطح مع كل قضية كبرى، باعتباره مفهوما يحيل على الممارسة الديمقراطية، بالمعنى الذي يفيد “نظريا”، أن المغرب يرغب في تأسيس حكم تشاركي، تسهم فيه جميع الأطياف السياسية بآرائها.
لكن، هل ما يحصل من تداول عام، يمكن أن نطلق عليه “نقاشا عموميا”؟ إن كان كذلك فما الذي ينبغي لتجويده؟ وإن لا، فما الذي يلزم لتأسيسه؟
اقرأ أيضا: المغرب… المقاطعة وحراك الريف! أزمة تواصل المؤسسات السياسية؟
يرى أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة محمد الخامس، محمد الهاشمي[2]، أن “ما يمارس من تداول فكري في الدواليب الرسمية وشبه الرسمية، أقرب ما يكون إلى النقاش الخاص وليس العمومي، فحساسيتنا لم تستطع بعد تحمل كل الاستقلالية والحرية التي يقتضيها الاستعمال العمومي للعقل”.
يتجلى ذلك بوضوح، وفق الهاشمي، في “تكرار كلمة الخصوصية والاستثناء وغيرها من العبارات التي تمثل رفضا واضحا للعمومية بدلالتها الفلسفية… ولهذا، فإن أغلب قضايانا الكبرى، محسومة حتى قبل أن نطرحها للتفكير”.
“هناك تحولات متسارعة تشكل نقاشا عموميا ينطلق من الفضاء الرقمي محاولا الدفاع عن بعض القضايا، حيث أضحى للمجتمع المدني دور أساسي وجوهري لا محيد عنه، وتحول المواطن إلى قوة ضاغطة بفعل بروز ما يعرف بوسائل التواصل الاجتماعي”.
ذات الرأي يذهب فيه عبد الحق لوشاحي، الباحث في علم الاجتماع بالمعهد الجامعي للبحث العلمي بالرباط، إذ يقول في حديث إلى “مرايانا”، إن “النقاش العمومي غير موجود بالمغرب اليوم لأن كل التداولات والقضايا التي تطرح، لها ارتباط بالمجال الخاص تخص بعض الفاعلين أكثر مما تهم عامة المواطنين”.
النقاش الذي يثار، وفق لوشاحي، “تؤطره العاطفة أكثر من الطبيعة العاقلة بمعناها الكانطي؛ أي أنه نقاش غالبا ما يحسم قبل الخوض فيه، مما يجعله مفرغا من مضامينه النقدية”.
بالمقابل، يرى رئيس مركز باحثون للدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، حسن أشرواو، في حديث إلى “مرايانا”، أنه “لا يمكن نفي وجود نقاش عمومي في المغرب، لكن يجب أن نتساءل إذا ما كنا نصل إلى النموذج المطلوب من النقاش العمومي”.
الحديث عن تأثير النقاش العمومي في المغرب وعقلانيته يرتبط، وفق أشرواو، بطبيعة المجتمع وثقافته ونمط الوعي الجمعي السائد في المجتمع، وفي “حاصل المجتمع المغربي، نحن أمام نموذج لنقاش عمومي ذو نمط مركب، يحضر فيه ما هو حداثي، تقليدي، عقلاني، أسطوري…”.
اقرأ أيضا: استخدام المغاربة للشبكات الاجتماعية… حينما يصبح الافتراضي واقعا!
من جهته، يرى الباحث في القانون الدستوري والعلوم السياسية، أمين السعيد، في حديث لـ “مرايانا”، أن المغرب عرف في السنوات التي أعقبت دستور 2011 “فورة مدنية شكلت في بعض اللحظات أرضية صلبة للنقاش العمومي، مثل: حملة المقاطعة، العفو على مغتصب أطفال، أراضي خدام الدولة، إلغاء معاشات البرلمانيين، حراك الريف…”.
السعيد يؤكد أن عوامل وتحولات متسارعة عديدة، أسهمت في “تشكل نقاش عمومي ينطلق من الفضاء الرقمي محاولا الدفاع عن بعض القضايا، حيث أضحى للمجتمع المدني دور أساسي وجوهري لا محيد عنه، وتحول المواطن إلى قوة ضاغطة بفعل بروز ما يعرف بوسائل التواصل الاجتماعي”.
“ينبغي تعميم تدريس الفكر النقدي، علاوة على ضرورة تعلم كيفية استعمال وسائل الإعلام المعاصرة وممارسة النقد أمام كل ما نتلقاه، ناهيك عن نشر ثقافة وأخلاقيات النقاش العمومي ونشر مبادئ وقيم التفكير العقلاني”.
لكن هذه الموجة جاءت، وفق السعيد، “في سياق إقليمي مطبوع بإعادة ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبالقفز على قنوات الوساطة السياسية. لذلك تبدو في شكلها جزءا من النقاش العمومي المفتوح، لكن غير المهيكل”.
وفي حين يرى السعيد أن النقاش العمومي بالمغرب بحاجة إلى تنظيم وتحسين، من خلال “ضرورة تقوية مؤسسات الوساطة وإعادة الاعتبار لها وربط ذلك بمقاربة تشاركية واسعة تعبر عن كافة التوجهات”، يرى أشرواو أن “مؤسسات التعليم والتكوين تشكل المنطلق نحو تحسن مستوى النقاش العمومي”.
اقرأ أيضا: جمال خليل: تطور الحريات الفردية رهين بتطور المصالح الشخصية للأفراد
أشرواو شدد على أهمية “تعميم تدريس الفكر النقدي، علاوة على ضرورة تعلم كيفية استعمال وسائل الإعلام المعاصرة وممارسة النقد أمام كل ما نتلقاه، ناهيك عن نشر ثقافة وأخلاقيات النقاش العمومي ونشر مبادئ وقيم التفكير العقلاني”.
بالمقابل، يرى لوشاحي أن “النقاش العمومي في المغرب بحاجة إلى تأسيس أصلا؛ ومن ثم فوجوده الحقيقي، يقتضي الانكباب على القضايا المصيرية، وإصاخة السمع لصوت العقل والمنطق، وهذا لن يتأتى إلا بثورة معرفية بغية الوصول إلى نقاش عمومي هادف منتج للمعنى”.
مغامرة إذن أن نطلق على التداول العام الموجود في المغرب اليوم “نقاشا عموميا”… بين من ينفي وجوده ومن ثم الحاجة إلى تأسيسه، ومن يرى بوجوده ومن ثم الحاجة إلى تحسينه، المؤكد أن النقاش العمومي الحقيقي، وحده العماد الذي يمكن أن يحمل المغرب إلى تأسيس ديمقراطية حقيقية.