من مصر، محمد حميدة يكتب: حجاب حلا وعري المنطق العربي
لا زالت أتذكر تلك المرأة الجميلة التي كانت تبلغ من العمر وقتها 60 عاما، وكنت دائما أذهب للجلوس بجانبها في سن السابعة من عمري. على مصطبة من الطين ومسند من …
لا زالت أتذكر تلك المرأة الجميلة التي كانت تبلغ من العمر وقتها 60 عاما، وكنت دائما أذهب للجلوس بجانبها في سن السابعة من عمري.
على مصطبة من الطين ومسند من الطوب اللبن في إحدى الحارات الضيقة، وبيوت تتشابك وتستند على بعضها البعض، تجلس جدتي ذات الوجه المستدير الذي يعكس أشعة الشمس في عيني. كان شعرها شديد السواد، يزينها وكأنها فتاة عشرينية تجلس في ليلة عرسها.
في إحدى المرات، خرجت زوجة عمي وخاطبت جدتي: “هناك رجال قادمون، ألا تسترين شعرك؟”. ردت جدتي بما معناه: “وهل شعري سئ كي أخجل منه؟ أم أنه سينقض وضوءهم؟ وإن كان كذلك، فهم الذين ينظرون إلي، أما شعري فيخصني وحدي”.
في ذلك السن، لم أكن مدركا لمسألة فرضية الحجاب من عدمه؛ خاصة أن زي النساء في هذه الفترة اتسم بغياب الحجاب واستعمال الملابس القصيرة. كانت المرأة المحجبة تضع قطعة من القماش على مقدمة الشعر وتظهر الجدائل كاملة من الخلف. ورغم ذلك، كانت تلك النساء مسلمات وعفيفات. لم يكن مهنيات جنس أو فاسدات، كما قد يتصور البعض.
اقرأ أيضا: إنهن يقدن أخيراً… لكن، ماذا عن لجين، إيمان وعزيزة؟
نعود لموضوع المقال، الذي يبدو أنه شغل كل سكان المنطقة، ألا وهو “حجاب حلا شيحا”، التي قررت أن تخلعه وأن تعود لطبيعتها الأولى.
الفنانة حلا شيحة التي ارتدت الحجاب قبل سنوات عدة وقررت في هذا التوقيت خلعه، أصبحت قضية مجتمعاتنا الأولى. بل أن الجدل بسبب خلع حجابها فاق أزمة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس؛ وكأنها بخلعها للحجاب، هدمت أحد أركان الإسلام، أو أن أهل مصر ارتدوا عن دينهم حين خلعت حلا الحجاب.
حلا إن خلعت الحجاب، فهي مثلها مثل ملايين النساء: تلك حريتها شخصية؛ وإن لبسته فتلك أيضا حريتها الشخصية
في الحقيقة، إن التطرف في تناول مثل هذه القضايا طال الجانبين: العلماني والمتأسلم، خاصة أن بعض المنتمين للجانب العلماني رأوا أن هذا الأمر ضربة قوية للإسلاميين بجميع تياراتهم، وأن حلا شيحا، بخلعها الحجاب، استطاعت أن تخرج من دائرة التبعية لهذا التيار. على الجانب الآخر، رأى التيار الإسلامي أن خلع الحجاب فاجعة كبرى، وأنهم ربما يقيمون صلوات عدة ليدعوا حلا كي تعود لرشدها وتتوب وتندم على ما فعلت واقترفت من إثم عظيم.
ما بين هذا وذاك، أصبحت حلا تمثل شرعية الحجاب من عدمه؛ وكأنها رسول مرسل سيشرع لفرضية الحجاب أو عدم شرعيته. بل أن الكثيرين ذهبوا إلى كونها ستكون قدوة لمئات النساء كي يخلعن حجابهن.
اقرأ أيضا: خُنَاثة بنت بكار.. من هدية للسلطان إلى أم للسلاطين!
يا سيدي الفاضل ويا سيدتي الفاضلة، بعيدا عن جدلية الحجاب إن كان فريضة أم سنة أم عادة، وبعيدا عن جدلية تفسير الآيات القرآنية والمقصود بالجيوب والخمار واختلاف الزمان، وعلى الرغم من أن هناك بعض البلدان غير المسلمة التي ترتدي نسائها غطاء للشعر؛ هل ترون أن قضية الحجاب الأزلية التي قتلت جدلا وبحثا هي ما ستصلح حال أوطاننا؟ هل ترون أن مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية ستحل إذا ما تحجبت هذه أو خلعت حجابها تلك؟
الجدل بسبب خلعها الحجاب فاق أزمة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس؛ وكأنها بخلعها للحجاب، هدمت أحد أركان الإسلام، أو أن أهل مصر ارتدوا عن دينهم حين خلعت حلا الحجاب.
للأسف، كشفت الأزمة المفتعلة عن عري مجتمعاتنا الفكري، وضآلة منطقها وقلة حيلتها؛ ففي الوقت الذي تغتصب فيها آلاف النساء بسبب الجوع والفقر والتهجير، يخرج أحد المدعين ليتباكى على حجاب حلا، ويخرج آخر قائلا بأن العلمانية انتصرت، وثالث يصرخ: “يا ويلاتاه! لقد ضاع الإسلام”؛ بينما ضاعت عقولنا، وضاع مستقبلنا وحاضرنا بسبب هذا الهراء، والجدل اللا منطقي الذي يضيع أوقاتنا وجهدنا ويؤسس لكراهية وحقد وتخلف على حد سواء.
اقرأ أيضا: موريتانيا: رقية شرعية تؤدي إلى حمل… بمباركة القبيلة
حلا إن خلعت الحجاب، فهي مثلها مثل ملايين النساء: تلك حريتها شخصية؛ وإن لبسته فتلك أيضا حريتها الشخصية. حتى إذا كان الحجاب فريضة، فإن الالتزام بالفريضة أيضا يمثل حرية شخصية لا دخل للآخرين بها. لكن الأزمة الحقيقية تكمن فيما عرته حلا من حقائق مجتمعاتنا الهشة وثقافتنا التي وقفت عند قرون مضت. لقد كشفت هذه القضية عن همجية متعفنة في عقول المتطرفين من هنا أو هناك. فضحت ازدواجية المعايير، بل تلاشيها عند البعض.
هناك مئات القضايا في المنطقة تستحق أن نتناقش ونتجادل ونتفق ونختلف حولها لنسموا، لا أن ندور في دوائر لن تجدي نفعا ولن توفر طعاما لطفل جائع، أو لأم مشردة في المخيمات، ولن تعيد الملحدين عن إلحادهم، ولن تحسن صورة الإسلام الذي شوه على يد المتطرفين والمتشددين والإرهابيين والذي أصبح يهاجم في كل أنحاء العالم، دون أن نفكر في كيفية تصحيح الصورة الذهنية عنه أو في تصدير صورة إيجابية، غير صور الدماء والقتل وقطع الرؤوس.
بتنا وأصبحنا وأمسينا من أجل حجاب حلا الذي كشف عري عقولنا ومجتمعاتنا.
*محمد حميدة شاعر وقاص وصحافي مصري
اقرأ أيضا: المساواة في الإرث، الثورة التونسية؟
قلتم سيدي: “ياحلا إن خلعت الحجاب، فهي مثلها مثل ملايين النساء: تلك حريتها شخصية؛ وإن لبسته فتلك أيضا حريتها الشخصية.” أرى المسألة تاريخية كما كانت تجسده جدتك . لكن ، حاليا يمكن القول أن عدم وضع غطاء الرأس يمكن إعتباره حرية شخصية و “شجاعة”؛ نظرا لضغط الوسط الطائفي الذي يخترقنا , بخلاف التي ترتديه ، والتي تأثرت بالفكر المتعالي والمعادي للآخر، و انخرطت في الدفاع عن دنيويتها و خضوعها لتوجيهات الرجل …..