سعيد بنكراد: بين الفن واللعب… - Marayana - مرايانا
×
×

سعيد بنكراد: بين الفن واللعب…

… النُّصوص الدِّينيَّة ذاتهَا لَم تَسلَم مِن هذَا الـمُضاف الفنِّيِّ:”المتعة/ اللعب”، فَترتِيل القُرآن، أيُّ مَنْحُ الكلماتِ بُعْدًا صوتيّاً لا معادل لَه فِي الصِّيغةِ الكتابيَّة، أَمرٌ مُستَحَبٌ، إِنَّه يَمنَحُ النَّص “طَاقَة إِقْناعيَّة” مُضَافَة، فما يَستهْوِي مَلايِين المؤْمنينِ لَيْس المعْنى الذِي تُحيل عليْه الكلماتُ حقّاً، فهؤلاء لا يَفهمون مضْمونهَا إلَّا لماماً، بل مَا يُـمكنُ أنْ يُضيفَه هذَا التَّرْتيلُ، أيْ مَا يَأتِي مِن الطَّاقة الصَّوْتيَّة للمُقْرئِ. ولم يُختَر بِلَال لِيكون أَوَّل مُؤذِّنٍ فِي الإسْلام لِذكاءٍ أو لِتقْوى تَفُوقُ مَا كان عِنْد الآخرين من صَحابةِ الرّسولِ، بل لِأَنّه كان يَتَمتَّع بِصَوتٍ جميلٍ، كما يُقالُ. فما يُضيفُه المؤذّنُ ليس مُستوحى من مضمونِ الكلماتِ، بل مصدرهُ الإيقاعُ الآتيُّ من صوتِ القارئ.

“يجبُ أنْ نقيّدَ أنفسَنا بإكراهاتٍ لكي نُبدِعَ بحريّةٍ”

أومبيرتو إيكو

يَشتَرِك الفَنُّ واللَّعبُ فِي خَصِيصَةٍ وَاحِدةٍ على الأقلِّ، فكلاهمَا لا يتحدَّدُ مِن خِلَال مَردُودٍ نَفعِيٍّ فِي الحيَاة. فالنَّاسُ لا يلْعبون مِن أَجْل غَايَة، أو قد لا يَفعلونَ ذلك إلّا عندما تَنتفي كلّ الغاياتِ. إنّهم يَلعبون مِن أَجْل التَّسْلية أو مِن أَجْل تَفرِيغِ طاقاتٍ لَم تَجِد طريقَهَا إِلى التَّحَقُّق فِي النَّشَاط اليوْمِيِّ. وَكذَلِك الأمْر مع الفَنِّ. فلا غايةَ منه سوى الحصولِ على متعةٍ أو بحثٍ عن طمأنينةٍ في عالمٍ يهبُ الحياةَ خارج واقعٍ مركّبٍ. إنّنا نَبحَثُ فيه عن انفعالٍ خالصٍ يَأتي إلى الذّاتِ من الحسيّةِ وحدها.

لذلك، كانت الجماليّاتُ عند مؤسِّسها الأولِ تأملاً في ” المعرفة الحسيّةِ”، فحقيقتُها تُبنى في “الملتبس” و”الغامضِ” و”الغريب”. إنّ الفنَّ فيها يشكّلُ حالةً من حالاتٍ “اِسْتشْفائيَّة” مصدرُها القوْلُ الاسْتعاريُّ. وذاك هُو الفاصلُ بَيْن مَا يُمْكِن التَّعاملُ معه بِاعْتباره يُشكِّل الوجْه النفْعِيَّ لِلمعِيش اليوْمِيّ، وبيْن الـمُتعةِ الخالصةِ التِي تَجعَل الملكوتَ الإنْسانيَّ قابلا لِلْعيْش. إنّ الذاتيّةَ فيهما محكومةٌ بقيودٍ هي ما يجعلُ “الجديّةَ” شرطاً لاستقامةِ اللّعبةِ في النّشاطينِ معاً.

إنّ الفنّ بعبارةٍ أخرى، سبيلٌ جديدةٌ إلى الحياةِ، فمن خلاله نقومُ بجولةٍ خارج إكراهاتِ العيش النفعيّ. وذاك ما يُؤكده تنوعُ أشكالِه. فالفنُّ المسرحيُّ ذاته، وهو أقربها إلى الحياة، “لا يُقاسُ بالحاجات التي يمكنُ أنْ يُلبّيها، إنّه يحضُر في العينِ بِاعْتباره يُحيلُ على قُدرَةِ العملِ الأدَبيِّ نَفسِه إِلى التسلّلِ إلى الوُجود، أي الدَّازاين”[1]، إنّه لعبٌ حوّلته الفرجةُ إلى فنٍّ. وتلكَ وظيفةُ اللّعبِ أيضاً، إنّه يُشكّلُ “حالات إحماءٍ” أوليّة نَتعلّم من خلالها كيف نَستحضرُ ما يُمكن أنْ يقعَ “جديّاً” في الحياة النّفعيّة، وليس غريباً أنْ يشترطَ استعداداً أوليّا لممارسةِ اللّعبةِ.

استناداً إلى ذلك يُصنَّفُ اللّعبُ ضِمْن كُلِّ مَا يُـمْكِن أنْ يَخرُج عَمَّا تَرسمُه التَّجْربةُ اليوْميَّةُ بِمحْدوديَّتهَا ونُقصانِها. يَدخُل ضمن ذَلِك الرَّقْصُ والغناءُ والرِّياضات الفرْديَّةُ والجماعيَّةُ؛ ويدخلُ ضِمْنَه أيْضًا اللّعبُ بِالكلماتِ والشِّعْرُ والإيماءاتُ وكثيرٌ مِن الممارسات التِي لا غَايَة مِنهَا سِوى اللّعب ذَاتِه، مَا كان يُسَميه كانْط “أهْدافًا بِدون غايات”. بل قد يَكُون اللّعبُ أَوسَعَ وأشْملَ مِن ذَلِك، إنّه يُـمْكنُ أنْ يَكُون شاملاً لِكلِّ الممارسات التِي تقعُ على هَامِش “اللَّحْظة الجدِّيةِ” فِي حَيَاة النَّاسِ، أيْ مَا يَستجِيبُ لِحاجاتهم الأوَّليَّة: ضَرُورَةُ العملِ وَضَرورَةُ الأكْلِ والنَّوْمِ وإشْبَاع كُلِّ الغرائز الأُخرى. لا نَستثْنِي مِن ذَلِك مراسيمَ الدّفن والتأبينِ والعقيقَةِ وحفلاتِ الزّواجِ وحِلَقِ الذِّكْر، والنُّكاتِ وممارساتِ القِمَار ولعِبِ الكبَار فِي أَسِرّتِهم بحْثًا عن مُتعَةٍ أو رَاحَةٍ نَفسِيّة، ففي كلِّ هذِه الأَنشِطةِ يتوقفُ النّاسُ عن العملِ لكي يستريحوا في فضاءٍ موجّهٍ للمُتعةِ وحدَها.

ومع ذَلِك، فَإِنّ اللّعبَ لَيْس مُمَارسَةً عَارِضةً أو طَارِئة يَقُوم بِهَا أَفرَادٌ فِي أوقاتِ فَراغِهم، فهناك مَا يُشير فِي السُّلوك الإنْسانيِّ اللَّاواعي إلى وجودِ بقايَا ممارسةٍ لعبيّةٍ هي ما ميّزَ شكلَ وجودِ النّاسِ في الحياةِ. فقد كان “الإنسانُ اللّاعِب، homo ludens يقوم هو أيضاً بوظيفةٍ لا تقلُّ أهميةً عن النّشاطِ الحرفيِّ، لذلك يستحقُّ هذا المفهومُ أنْ يُوضعَ بجانبِ الإنسانِ المخترعِ homo faber… فالإنسانُ اللّاعبُ كان لاحقاً للإنسانِ المخترعِ، وهذا كان بدورِه لاحقاً للإنسانِ العاقلِ”[2]. يتعلّقُ الأمرُ بنشاطٍ اخترقَ حضورَ الإنسانيّة كلّها في الأرضِ.

لقد بدأَ الإنْسانُ، وَهُو يَبحَث فِي تَفاصِيلَ حَياتِيّةٍ لَم يعِ وُجودهَا بِشَكل عقْلانيٍّ، عابثاً بِأشْيائه وكائناته، وانْتَهى لَاعبًا بِكلِّ شَيْء، بغاجاتِه وَهاتِفه المحمولِ، وعابِثا بِجسدِه ضِمْن تَصوِيرٍ ذَاتِيّ لا يتوقّفُ (السِّيْلفي)، أو من خلال الإبْحار فِي عَوالِمَ اِفْتراضيَّة لا رابطَ بينهَا وبين الفعْلِ الواقعيِّ. فقد يَكُون اللّعبُ “فُرصَةً لِلتَّخَلُّص مِن الفائضِ فِي تفاصيلِ الحيَاةِ، مَا يَعُودُ إِلى الزَّمنِ والطَّاقةِ والانْدفاع الفكْرِيِّ”[3]، إِلَّا أَنَّه هو ما يَكشِف أيْضًا عن رُوتينيَّة الحاجات النَّفْعيَّة ومحدوديّتها وضآلتهَا فِي حَيَاة الفرْد أَمَام إِغْراءات عَوالِم الـمُتعة، بِمَا في ذلك الرَّغْبةُ الدَّفينةُ عِنْد الإنْسان فِي أن يظلَّ طفلاً لا يكفُّ عن اللّعب.

إِنَّ النُّصوص الدِّينيَّة ذاتهَا لَم تَسلَم مِن هذَا الـمُضاف الفنِّيِّ، فَترتِيل القُرآن، أيُّ مَنْحُ الكلماتِ بُعْدًا صوتيّاً لا معادل لَه فِي الصِّيغةِ الكتابيَّة، أَمرٌ مُستَحَبٌ، إِنَّه يَمنَحُ النَّص “طَاقَة إِقْناعيَّة” مُضَافَة، فما يَستهْوِي مَلايِين المؤْمنينِ لَيْس المعْنى الذِي تُحيل عليْه الكلماتُ حقّاً، فهؤلاء لا يَفهمون مضْمونهَا إلَّا لماماً، بل مَا يُـمكنُ أنْ يُضيفَه هذَا التَّرْتيلُ، أيْ مَا يَأتِي مِن الطَّاقة الصَّوْتيَّة للمُقْرئِ. ولم يُختَر بِلَال لِيكون أَوَّل مُؤذِّنٍ فِي الإسْلام لِذكاءٍ أو لِتقْوى تَفُوقُ مَا كان عِنْد الآخرين من صَحابةِ الرّسولِ، بل لِأَنّه كان يَتَمتَّع بِصَوتٍ جميلٍ، كما يُقالُ. فما يُضيفُه المؤذّنُ ليس مُستوحى من مضمونِ الكلماتِ، بل مصدرهُ الإيقاعُ الآتيُّ من صوتِ القارئ. يتعلّقُ الأمرُ بــ “علاماتٍ نوعيّةٍ”[4] مصدرُها مضافٌ صوتيٌّ أو مثيراتٌ بصريّةٌ هما مصدرُ إحالاتها الدلاليّةِ.

بِعبارة أُخرَى، قد يُنظُر إِلى اللّعب، فِي تجلِّيه المباشرِ، بِاعْتباره تعْبيرًا عن رَغبَة الفرْدِ والجماعةِ فِي التَّخَلُّص مِن كُلِّ الاسْتعْمالات “الجدِّيَّة” للمحِيطِ القرِيب والبعيد، إِلَّا أَنَّه يُعَدُّ، فِي جَوهَرِه، وَاجِهةً مِن واجهَاتِ الإنْسانِ في الحيَاة وقُدْرته على تَصرِيف جُزْءٍ مِن اِنْشغالاته الذَّاتيَّة والجماعيَّة فِي مُمارسات تَنْزاح بِالفِعْل عن مرْدوديَّة مُبَاشرَة، لِلبحْث عن “حَقِيقَة” ضَاعَت مِنْه في بدايات العُمْرِ، لَحظَة اِنْفصاله عن الحضْن “الطَّبيعيِّ” وانْغماسِه الكُلّيِّ فِي ثَقافَة نأَتْ بِه عن التَّوْجيهات الأوَّليَّة لِتركيبتِه الفسيولوجيّة والاجْتماعيَّة. وتلْك هِي طَبِيعَةُ الإنْسانِ حقًّا، فَهُو يَلعَبُ لِأَنّه إِنسَانٌ بِشَكلٍ كُلِّيٍّ، ولكنّه لا يُمكن أنْ يَكُون إِنْسانًا إِلَّا مِن خِلَال هذَا اللّعب”[5]. اِسْتنادًا إِلى ذَلِك لَن يَكون “اللّعبُ مُجرَّد تَسلِيّةٍ تُبْعدُنا عن كُلِّ مَا هُو مَأْسَاويٍّ فِي إِنْسانيَّتنَا، إِنَّه أيْضًا تَعبِيرٌ عن هذِه الإنْسانيَّة”[6] نفسها، وهي ما يمنحُها بُعدَها الفاني.

وَهِي صِيغة أُخرَى لِلقوْل، هُنَاك فِي الدَّاخل النفْسِيّ رَغبَةٌ حَرَّى فِي التَّخَلُّص مِن زَمَنيَّة مُوَجّهَةٍ ومحدودةٍ بِغايَاتٍ مُرتبطَةٍ بِالـحسِّ المشترك وَحدَه، لِاسْتعادة أَصْلٍ أَوَّلَ يَكونُ خالياً مِن كُلِّ الإكْراهات، كائنًا بِلا ذَاكِرةٍ ولا وَسائِط يَعبَث بِالأشْياء قَبْل أنْ يُسَميهَا أو يَضعُها في مفاهِيم تَحولُ بَينَه وبيْن دِفْءِ الطَّبيعة كما يتسلّلُ إلى وِجْدانه. وهذَا مَا يُؤكّدُه سُلُوكُ البدائيِّ نَفسِه، فَهذَا الكائنُ لا يُعير فِي الغالبِ أيّ اِهتِمامٍ “لِمَا يُميِّز بَيْن كيْنونتِه وبيْن لَحَظات لَهوِه، فلَا عِلْم لَه بِالـهـويَّة والصُّورةِ والرَّمْزِ”[7]. إنّ اللّعب عند “البدائيِّ”، كما هو عند الطّفلِ، تصريفٌ لأحاسيسَ لا تَتحكّم فيها المفاهيمُ، بل تُوجّهها في الغالبِ حركاتُ الجسدِ وإيماءاتُه والأصواتُ الصّادرةُ عنه.

“وقد يَكُونُ ذاك هُو الذي يَسمَحُ لَنَا بِالْقَوْل إِنَّ الوسيلةَ الـمُثلى لِلتَّعَرُّف على حَقِيقَة حَالَتِه الذِّهْنيَّة وَهُو يُمَارِس طُقُوسَه القُدْسيَّة هِي أنْ نستبعدَ المعْنى الأوَّل لِكلمةِ ” لَعِب” ذاتها، فَداخِل اللّعب تَنمَحِي، فِي تَصورِّنا، الفواصلُ بَيْن الاعْتقاد والتَّمْويهِ”[8]. وَذَاك مَا يُشير إِلَيه سُلُوكُ الطِّفْل أيْضًا، فاللَّحظاتُ الجدِّيَّةُ الوحيدةُ فِي حَياتِه هِي تِلْك التِي يَكُون فِيهَا مُنْغمِسًا فِي لُعبَةٍ تَستوْعِبُ ذَاتَه فِي كُلِّيَّتِهَا، فهو لا يَلْعبُ مِن أَجْل الآخرين، ولا يلعبُ من أجلِ المتعةِ، إنّه يَفعَل ذَلِك تعْبيرًا عن كَينُونةٍ لا يُمكنُ أنْ تكشفَ عن جزءٍ كبيرٍ فيها إِلَّا فِي اللّعب. إنّ الجدّيةَ وحدها تُحدّدُ هويّةَ اللّعبِ في تصوّرهِ.

وقد يكونُ هذا هو الأصلُ في التّقابلِ الذي تُقيمُه العربيّةُ بين اللّهوِ واللّعبِ. فقد مَيّزَت بينهما بِدقَّة فائقةٍ استناداً إلى مردودِهما في الحياةِ. إنّ اللّعب نَشَاطٌ قد لا يَنفَعُ، ولكنَّه لا يَضُرُّ أيضاً، إنّه تسليّة أو تحايلٌ على زمنيّة تُدرَك خارج العملِ الجديِّ فيها. أَما اللَّهوُ فيشْغلُ النَّاسَ عن أعْمالِهم وعن دينِهم. لِذَلك كان الطِّفْلُ لَاعبًا، فَهُو غَيْر مُكلَّفٍ، أَمَّا الرَّجل فيلْهو حين يلعبُ، أيْ يقوم بعملٍ لا طَائِل من ورائه. وضمنَ هذا وذاك وضَع النصُّ القرآنيُّ الحياةَ كلّها: “وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ” (سُورَةِ الأَنعَامِ). إنّ الفناءَ الأرضيَّ، وفق هذا، هو وحدَه القادرُ على استيعابِ حالاتِ اللّهوِ واللّعب، أمّا الجدُّ فهو ما يَعدُ به العالم الآخر.

وليْس غريبًا أنْ يَكُون مُنطلَقُ اللّعب عِنْد الطِّفْل هُو مُحاكاتهُ لِمحيطِه، مَا يفْعله الكبَارُ، الأب والأمّ والأقارب والجيران ومَا تُقَدمه الصُّور وكُل أَشكَال التَّشْخيص؛ وَكَأنّ اللّعب لَيْس سِوى ” بُروفَات” أَولِيّة عَابِرةٍ، لكنّهَا أَساسِيّةٌ فِي حَياتِه، فَهِي مَا سيُمَكِّنه اِسْتقْبالا مِن الانْتماءِ إِلى الحيَاة “الجدِّيَّة”، أو التَّأقْلمِ مع قَوانِين الكوْنِ الفزْيائيَّة والـميكانيكيَّة، ما يُصنِّفُه جان بياجي ضمنَ “الوظيفةِ السميائيّةِ” التي تَشتملُ في تصوّرِه على مراحلَ خمسٍ، منها “المحاكاةُ المؤجّلةُ”[9]، ما يُصنّفُ ضمن لهوٍ هو جزءٌ من أشكالِ التمثّلِ الأولى للوجودِ.

وَذَاك أيْضًا هُو مَا يُشير إِلَيه التَّعْريف الأوَّل لِلْفنِّ، فقد نُظر إِلَيه قديمًا بِاعْتباره مُحاكَاةً لِطبيعةٍ مِنهَا اِنبثَق كُلُّ شَيْء، أو هُو “مُحَاولَة لِلتَّغْطية على عَناصِر النَّقْص فِيهَا”، كمَا كان يَقُول كانْدينسْكي. بِعبارة أُخرَى، “قد تَبدُو الطَّبيعةُ ذَاتُها، بِاعْتبارهَا لَعِباً دائماً بِدون غَايَةٍ ولَا قَصْدٍ ولَا جُهْدٍ، وَكَأنهَا النَّموذجُ الأصْلِيُّ لِلْفنِّ، فالفنّ طاقةٌ مُضافةٌ تتغذّى من الأحاسيسِ ذاتِها. وهذَا مَا أَشَار إِليه شِليجل حِين اعتبَر كُلَّ الألعابِ المقدَّسةِ لِلفنِّ مُجرَّد مُحاكَاةٍ لِلعالم مُغْرِقةٍ فِي القِدمِ، ذَلِك أنَّ العملَ الفنِّيَّ يَتَحدَّد دائمًا مِن خِلَال شَكلِه”[10].

ومع ذَلِك، فَإِنّ اللّعبَ لَيْس مُمَارسَةً عَبَثيَّةً تُعَدّ نقيضًا لِحياةٍ جِدِّيةٍ مَحكُومةٍ بِإكْراهات وضوابطَ. إِنَّ اللّعب مُمَارسَةٌ حُرَّةٌ، هذَا أَمْر مُؤكَّد، فقد يَلعَب المرْء أو لا يسْتهويَّه اللّعب، ولكنّ اللّعبَ لا يُمكنُ أنْ يَستقِيمَ فِي وُجودِه وفي ممارستِه إِلَّا مِن خِلَال قَواعِدَ وقوانينَ تَفصِلُه عَمَّا لَيْس لَعباً. ذَلِك أنَّ اللّعب هُو نَشَاطٌ إِراديٌّ يَتِمُّ ضِمْن حُدُودٍ زَمانِيّةٍ وفضائيَّةٍ مُحَدّدَةٍ، وَيتِمُّ وَفْق قَاعِدةٍ مُتَوافِقٍ عليْهَا بحرِيّة، ولكنّهَا مَفرُوضةٌ وتتمَتَّع بِغايةٍ فِي ذاتهَا، ويُصاحبُهَا عادةً إِحسَاسٌ بِتوتُّر وَفرْحَةٍ، وبوعْي يُوحي بِشَيءٍ مُغَايِرٍ لِلحيَاة اليوْميَّةِ. إنّنا نتحرّرُ من خلال اللّعب من القيودِ التي تُكبِّلنا، ومن خلال ذلك نَستشعرُ داخلَنا طاقةً إبداعيّةً لم نَنتبهْ إليها في حالاتِ الجدِّ فينا. لذلك “لا يكونُ اللّعبُ لعباً إلّا عندما يُستغْرقُ اللّاعبُ في لُعبتِه”[11]. بل إنّ عبادةَ الله ذاتَها لا يُمكنُ أنْ تَستقيمَ من خلال السّعيِ اليوميِّ، إنّها تَشترطُ، لكي تَتحققّ، وجودَ شكلٍ لعبيٍّ هو ما يُصنّف ضمن طقوسِ العبادةِ، أي ضمن أشكالٍ لعبيّةٍ لا تُدركُ إلّا ضمنَ قواعدِ الدّينِ.

فَلكِي يَكُونَ هُنَاك لَعِبٌ على اللَّاعبِ أنْ يَنخَرِط فِي “لُعبةٍ تَستَمِد “جِدِّيَّتَهَا” مِن القوانين المنظَّمَة لَهَا، فاللّعبةُ التِّي لا قانون ولا ضوابطَ لَهَا، ستكونُ مُجرَّد هَذَيانٍ بِلَا مَعْنى. تمامًا كما لا يُـمكن للحَكيِ أن يَكُون فنًّا إِلَّا إِذَا كان تنْظيماً لِسِلسِلةٍ مَحدُودةٍ مِن الملْفوظات قادرةٍ على بناءِ عالمٍ خاصٍّ مكتفٍ بذاتهِ. فإذَا كَانَت الكلماتُ فِي الشِّعْر إِيقاعًا وترتيباً جديدًا دالًّا على مَعْنى، ودالاً على لعبٍ ينزاحُ بها عن نِظامِها الأصليِّ فِي الوقْتِ ذَاتِه، فإنّ المحكيّ لا يُـمكن أنْ يَستقيم هو أيضاً إلا إذا كان محدّداً ببدءٍ ونهايةٍ، ما كانَ يُسميه بول ريكور “الحبْكةَ”، فهي أصلُ البناءِ الذي يمنحُ القصّةَ كياناً مستقلاً.

وهو مَا يَعنِي أنَّ اللّعبَ لَيْس لَعباً فِي علاقَته بِالأمورِ الجدِّيَّة، بل هُو مَشرُوطٌ فِي وُجودِه بالالتزامِ بِجدِّيَّة هِي التِي تَجعَل مُمارستَهُ أمْرًا مَعقُولا فِي ذَاتِه، ومعقولاً عنْد الذِي يَتَفرَّج على اللّعبةِ، في الوقتِ ذاتهِ. ولِهذَا السَّبب، لا يتحدّدُ جَوهَرُ اللّعب مِن خِلَال ذَاتِيّة فَرْدٍ عَابِثٍ، بل بِوجودِ “مِيثَاقٍ” هو الضمانةُ على جِدِّية اللّعب. إِنَّ اللَّاعب الذِّي لا يأخُذُ اللّعبَ “بِجدِّيَّة”، أو لا يَحْترْم قَواعِدَ اللّعب، لا يمِكن أنْ يَكُون لَاعبًا جيِّدًا، بل سيخرجُ طوعاً أو قسراً من اللّعبة ذاتها: العقوباتُ التقنيّةُ والانضباطيّة التي تُعبّرُ عنها الأوراقُ الصفراءُ والحمراءُ في الألعاب الجماعيّةِ.

لِذَلك كان اللّعب مُمَارسَةً مَحدُودةً فِي الزَّمَان وفِي المكَان، ومحْدودةً بِأفُق اِنتِظار هُو أَصْل الـمُتعةِ عِنْد المتفرِّج. فلَا يُمْكِن أنْ يَمتَدّ اللّعبُ إِلى ما لا نِهاية، كما لا يُمكنُ أنْ يكونَ مَسْرَحُ اللّعب فضَاءً مفْتوحاً إلى ما لا نهايةٍ أيضاً. وذاك ما يجعلُ من اللّعبِ ممارسةً بيذاتيّةً، فلا يمكنُ للمرءِ أنْ يلعبَ وحدَه، ففي هذه الحالةِ يتحوّلُ اللّعبُ الى مسٍّ من الجنون. إنَّ جَوهَر اللّعب أَنَّه مُنْتَهٍ فِي الزَّمَان وَفِي المكَان، وضمْن المنْتهي يَتَحدَّد النَّصْرُ أو الهزيمةُ أو لا غالبَ ولا مغلوبٍ.

وَهِي صِيغة أُخرَى لِلْقوْل إِنَّ اللّعبَ يُبنى على اِحتِرامِ سِلْسلةٍ مِن القواعدِ هي التِي تُحوِّل اللّعبَ إِلى مُمَارسَةٍ جِدِّيةٍ تَـحُدُّ مِن ذَاتِيّةِ اللَّاعبِ وَهَواه، وَتُقدِّم اللّعب فِيمَا يُشْبِه المؤسَّسةَ الضَّابطةَ لِأشْكَال اللّعب فِي الوقْتِ ذَاتِه؛ هُنَاك بُعْدٌ مَوضُوعيٌّ فِي اللّعبِ هُو مَا يُشكِّل هُويَّتَه ويُـميِّز الألْعابَ بعْضهَا عن بَعْضٍ. ولم تكن الاحتفالاتُ نفسُها سوى محاولةٍ لخرقِ المحظورِ الاجتماعيِّ أو الدينيِّ، إنّنا نستقْطِع فيها زمناً نُمارسُ فيه ما يُحرّمُ علينا القيامُ به في دفْقِه المعتادِ.

وَيصِل اللّعبُ إِلى أَبهَى صُورَة فِيه حِين يَتَحوَّل إِلى عمل فَنِّيّ، أي إلى صياغةٍ جديدةٍ للخبرةِ الإنسانيّة، حِينهَا يُصبحُ اللَّاعبُ فَنَّاناً، أي كَائِناً قَادِراً على التَّخَلّي عن مَوقعِه فِي الحيَاةِ النَّفْعيَّةِ لِكيْ يَنتَشِي بِمَا يَخلُقه مِن علاقَات جَدِيدَةٍ بَيْن الكائناتِ والأشْياءِ. وقد تَكُونُ طَبِيعَةُ اللّعبِ هِي التِي قَادَت غادامير إِلى الفصلِ بين “الوعيِ الجماليِّ” وبيْن ” تَجرِبةِ العملِ الفنِّيِّ “، فَهذِه “التَّجْربةُ وحْدهَا يُمْكِن أن تَكُون مَصْدَرا لِلتأَمُّل”[12]، أي طريقةً لتصوّرِ الحقيقةِ. إنّ الأمرَ يتعلّقُ بمزجٍ كليٍّ بين ذاتيّةٍ تستوعبُ العالمَ ضمن ملكوتِها، وبين موضوعيّةٍ تشدُّ اللّعبَ والفنَّ كليهما إلى ما يُشكِّلُ حقيقَة الواقِعِ. لذلك كان الفنُّ تجربةً، “فمادّة التّجربةِ الجماليّةِ هي الإنسانُ نفسُه”[13]. لقد اختفتْ طروادِة من الوجودِ “ولكنّها ظلّت حيّةً في ما قاله الشّعرُ عنها، وفي ما كشفتْ عنه الحفريّاتُ في أنقاضِها”[14].

إنّها السبيلُ الأمثلُ لتصوّرِ حقيقةٍ تُوجدُ خارج المخابرِ العلميّة. فحقائق الحياةِ خلافُ حقيقَة المخابرِ، فمصدرُ الأولى هو الخبرةُ الإنسانيّةُ ذاتها، إنّها “حكمةُ الحياةِ” بتعبير غادامير، أمّا حقيقةُ المخابرِ فمصدرُها التأمّلُ في المادّةِ الموضوعةِ للتّحليلِ. وسيكونُ اللّعبُ هو الجانبَ الإبداعيَّ في العملِ الفنّيّ، أو تلك هي ميزتُه الأساس. إنّه لعبٌ في الشّعرِ والصّورةِ والمحكيّ والتّشكيلِ ومجوع الممارسات التي تتم في المجازيّ من القولِ أو السّلوكِ. وتلك هي حالةُ الألوانِ، إنّها منتشرةٌ في كلِّ مكانٍ، ولكنَّ الفنّانَ وحدَه يُمكن أنْ يُعيدَ ترتيبَها ضمنَ لوحةٍ لا غايةَ “جديّة” منها، وذاك ما يَستَثيرُ المتعةَ فيها ويُحوِّلها إلى فرجةٍ.

لِذَلك كان اللّعبُ ذَاتِيّةً مُطلَقَةً، ولكنَّه، وبشكْلٍ مَفارِقٍ، مَوجُودٌ فِي اِسْتقْلال عن ذَاتِيّة اللَّاعبِ، إِنَّه شبيهٌ بِالفنِّ، فليْستْ ذَاتِيّة الفنَّان هِي مَا يُحدِّد جوْهرَه، بل “التَّجْربةُ الفنِّيَّةُ”، إِنَّها هِي ما يُشكِّل مَوضُوعَ اللّعب ويحدِّدُ أبْعادَه، إنّهَا تَجسِيدٌ لِخبْرةٍ لا تُعبِّر عن نفْسهَا إِلَّا مِن خِلَال الانْزياحِ الكاملِ عن الاسْتعْمالاتِ المأْلوفةِ لِلمادَّة التِي تَتَحقَّق فِيهَا وَمِن خِلالِهَا. فَكمَا أنَّ اللّعبَ يُلْغِي مُؤَقتاً الالتزامَ بِقواعدِ السُّلوك الاجْتماعيِّ المتداولِ: الوقَار والرَّزانةُ والحشمةُ والاسْتعْمالُ النفْعِيُّ لِلجسد، فَإِنّ الفَنّ أيضاً يُعَدُّ اِنْزياحاً عن عَالَمٍ نَفعِيٍّ إِلى آخر يُبنَى مِن خِلَال الطَّاقاتِ التِي يُفَجّرهَا، أي قدرتِه على التّصرُّفِ في مادّة عملهِ.

بعبارةٍ أخرى، ِإنّنا نُبيحُ لأجسادِنا، فِي حَالَة اللّعب، قَوْلَ ما لا تَستطِيع قَولَه سَاعَة الجِدِّ. “فَفِي اللّعب وَفِي الفَنّ على حدٍّ سَوَاء، يَختَفِي اللَّاعب والفنَّان، ومَا يَبقَى أَمَامنَا حقًّا هُو اللّعب الذِي نُمارِسه”[15]. إِنَّ اللّعبةَ وحْدهَا، كمَا هُو العمل الفنِّيُّ، هي أَسَاس الفُرجة فِي العيْنِ والانْفعال فِي الوجْدان. وذاك ما يؤكّده فنّ الرقصِ مثلاً. فالرّاقصُ لا يقومُ بابتداع إيماءاتٍ لا يعرفُها أحدٌ، إنّه يكتفي ببلورةِ تأليفاتٍ جديدةٍ لما كان مألوفاً في الجسدِ. إنّه يُفجّر طاقاتٍ جديدةٍ مصدرُها القدرةُ على تجاوزِ البرمجةِ الفسيولوجيّةِ داخله. تماما كما كانت اللّوحةُ دالّةً من خلال كليّتِها، لا من خلال أجزائِها، إنّ لها إطاراً ومجالاً وحقلاً ولقطاتٍ وزوايا نظر. ولكي تَتحوّلَ إلى فنٍّ لا يجبُ النّظرُ إلى هذه العناصرِ في انفصالٍ عن بعضِها البعض، فهي دالّةٌ في اللّوحةِ ضمن بنيةٍ جديدةٍ.

وَذَاك مَا يُؤكّده موقعُ الجمالِ في وجدانِ الإنْسانِ. فبإمْكان المرْء أنْ يَقضِي الكثِيرَ مِن حاجاتِه النَّفْعيَّة بِلائِحة قَصِيرَة مِن الحركات القصديّةِ، ولكنَّه إِذَا أَرَاد أن يَقُول لِامْرَأة: “فِي عيْنيْك أَشعَّة شَمْس تُدَفئنِي وَأَنا قشٌ لا تذروه رِيَاحٌ”، فإنّه لا يسْتطيع القيَام بِذَلك إِلَّا مِن خِلَال تدبيرٍ جديدٍ للكلمات، أي نقلِها من وضعِها الأصليِّ إلى ما يَصوغُ تجربةً أخرى في الشّعرِ. إنّ الجملةَ في “جدّيتها” كلامٌ عبثيٌّ، ولكنّها في بعدها “اللّعبي” دالّةٌ على عشقٍ لا ضفافَ له: فِي الحالة الأُولى هُنَاك اِسْتعْمال “جِدِّيٌّ” لِإيماءات تَحُلُّ محلَّ كلماتٍ بِمضْمون نَفعِيٍّ مُبَاشِر، إِنَّها وَثِيقَة الصِّلَة بِمَا يتطلَّبُه البُعدُ الغريزيُّ فِي الإنْسان؛ أَمَّا فِي الثَّانيّةِ فهناك لَعِبٌ بكلِماتٍ لا مضمونَ لَهَا سِوى التَّعْبيرِ عن انفعالاتٍ لا معادلَ لها فِي الاسْتعْمال “الجدِّيِّ”.

بعبارةٍ أخرى، إنَّنا نَنْزاح بِالكلماتِ عن اِسْتعْمالِها المأْلوفِ لِكيْ تُصْبِحَ دَالَّةً على شَيْءٍ آخر غَيْر النفْعِيِّ فِيهَا. وذَاك هُو الفاصلُ بَيْن الضروريِّ في حياتنا، وهو الفنُّ، وبين العرضيِّ فيها، أي إشباعُ حاجاتٍ لا تُثيرُ فُضولَنا إلا ضمن حاجةٍ لا متعةَ فيها. إنّه لعبٌ يَستعيدُ من خلالِه الفنّانُ والمتلقّي ما ضاعَ منهما في تفاصيلِ عيشٍ يَتميَّزُ بالروتينيّة والتّكرارٍ الدائمِ.

وهذا معناه أنّ التَّلَقِّي (الفُرجة) هُو الجـُرعةُ المضافةُ إِلى مَا يَأتِي مِن ذَاتِيّة تَلعَبُ أو تُبْدِعُ. ومِن هذِه الزَّاويةِ، لا يَخرُج الفَنُّ عن قَاعِدةِ المزْجِ بَيْن مَا يَأتِي مِن الذَّاتِ، وَهِي أَصْلُ كُلِّ الانْفعالات، وبين مَا يَتِمّ اِسْتيعابُه دَاخِل موْضوعيَّة تُعمِّمُ وتجْمعُ بَيْن كُلِّ الذَّوَات المنْفعلةِ. “إِنَّ الفَنَّ مَوضُوعيٌّ (لِأَنّه مَوجُود ” هُنَا” فِي العمل الفنِّيِّ الذِي يَفرِضُ عليْنَا سُلْطته اِسْتنادًا إِلى سُمُوِه وتَسامِيه)، ولكنَّه فِي الآن نَفسِه ذَاتِيٌّ، ذَلِك أَنَّه يَسْتدْرجنَا إِلى عَوالِمِه بِشَكلٍ سِحْرِيٍّ لِنتحَوَّل داخلَه إِلى أَدوَاتٍ”[16]. بعبارةٍ أخرى، “إنّ التجربةَ الفنيّةَ ليست موضوعاً مُلقىً أمام ذاتٍ موجودةٍ في ذاتِها، فما يُشكّلُ الكينونةَ الحقيقيّةَ للعملِ الفنّيِّ هو أنّه قابلٌ للتّحولِ لكي يُصبحَ تجربةً تُغيرُّ من كينونةِ الذي يُمارسها”[17].

لذلك لا “نَستمْتِع بِالأعْمال الفنِّيَّة فحسْب، والـمتْعة بُعْد مَركَزِيٌّ فِي الفَنّ لا يُمْكِن إِنْكارُه، إِنَّنا بِالإضافة إِلى ذَلِك، نُغْني تجْربتنَا ونُوسِّع مِن آفاقِهَا، أيْ نَتَعلَّم مِن الآخر كَيْف نَكُون نَحْن وَغَيرنا فِي الوقْتِ ذَاتِه. إِنَّنا نَخرُج مِن وُجُود نَفعِيٍّ حافٍ، لِكيْ نَستوْعِب حالات وُجُودٍ يَكشِفُ عن نَفسِه فِي مَا اسْتعاره الإنْسان مِن الأشْياء، وفِي مَا اِسْتعاره مِن اللّغَة بِكلِّ مَوَادهَا التَّعْبيريَّةِ. وَهُو مَا يَعنِي أَنّنا لا نَشرَحُ سُلوكًا مِن خِلَال الفَنّ، ولَا نَفهَم الآخرين فحسْب، إننَا نَكتَشِفُ مَناطِق مُظْلِمةً داخلنا لَم نَنتَبِه إِليْهَا، أو لَم نُفكِّر فِيهَا أبدًا، أو حاولْنَا دائمًا التَّغاضي عن وُجودِهَا، خوْفًا مِن أَنفسِنا أو خوْفًا مِن الآخرين. إنَّ الأمْر يَتَعلَّق بِمَزجٍ كُلِّيٍّ بَيْن ذَاتِيّة تُخصِّصُ العوالم، وبيْن موْضوعيَّة تَشُدُّ اللّعب والفنَّ كِليْهِمَا إِلى مَا يُشكِّلُ حَقِيقَةَ الواقعِ[18]”.

 

[1] – H. G Gadamer op cit , p. 134
[2] – Johan Huizinga : Homo ludens: Essai sur la fonction sociale du jeu ,Traduction : Cécile Seresia , éd Gallimard , 2011, p11
[3] – Roger Caillois : Les jeux et les hommes , éd Gallimard , 1967 , p. 36
[4] -علامات نوعية qualisignes عند بورس. فكل النوعيات مفصولة عن سياقها، وكل الأحاسيس مفصولة عن أسناد تجسدها يمكن أن تشتغل كعلامة. فذلك الصوت الذي يمزق الظلام ولا أستطيع تحديد مصدره ولا سببه يشتغل كعلامة نوعية، وهذا اللون في ذاته مفصولا عما يجسده يشتغل كعلامة نوعية
[5] –  Elsa Godart : Je selfie donc je suis , les  métamorphoses du moi à l’heure du virtuel , éd Albin Michel , 2016 , p. 115
[6] – نفسه ص 115
[7] – Hans – Georg Gadamer : Vérité et méthode , éd Seuil , 1976 – 1996 , p.122
[8] – Hans – Georg Gadamer : Vérité et méthode  , p.122
[9] -Jean Piaget : La psychologie de l’enfant, Que sais-je, 1966,p.41
[10] – Hans – Georg Gadamer : Vérité et méthode , p.123
[11] – Hans – Georg Gadamer : Vérité et méthode , p.120
[12] – Elsa Godart op cit p. 115
[13] -John Dewey : L’art comme expérience, éd  Gallimard, 2010, p. 522
[14] – John Dewey : L’art comme expérience, op cit, p.523
[15] – H. G Gadamer op cit , p. 121
[16] – Jean Grondin : Introduction à H G Gadamer, p.66
[17] – H. G Gadamer op cit , p. 130
[18] -سعيد بنكراد: سيرورات التأويل، من الهرموسية إلى السميائيات، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2010 ص 148

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *